7498798
7498798
ثقافة

صورة البطل في رواية "فتنة العروش" لزوينة الكلباني

07 مارس 2022
07 مارس 2022

تأخذُ روايةُ (فتنة العروش: 2021م) القارئَ إلى أحداث التاريخ وإلى المسكوت عنه تاريخيا في عصر النباهنة، وتُعيد الروايةُ صياغةَ الأحداث التاريخية التي جاءت عن تلك الفترة والتي في مُجملها أحداث تجاهلتها كتب التاريخ. كما تُقدّم الرواية نبذةً متخيلةً عن حياة الملك الشاعر سليمان بن سليمان النبهاني، والأحداث التي شهدتها فترة حكمه، وتحاول تصحيح الصورة المشوّهة التي رسمتها كتب التاريخ عن شخصيةٍ جمعت بين المُلكِ والفروسية والأدب والشعر.

تتبنّى الروايةُ فكرة استرجاع شخصيات التاريخ، وإعادة تقديمها سردا باختراع الحدث السردي الملائم، كما تحاول رسم صورة عميقة لشخصية البطل/ سليمان النبهاني محمّلةً بدلالات وأوصاف تُمجّدُ تلك الشخصية وتُكسبها دلالات تتناسب والصورة المتخيّلة في ذهن الكاتبة، كما تحاول الرواية أيضا رفض ادّعاءات التاريخ ورواياته المتصلة بفترة حكم الملك سليمان النبهاني؛ إذ تعمل على تصحيحها وإثارة أسئلة حول صحتها أو حدوثها.

تشتغلُ الروايةُ على رسم شخصية سليمان النبهاني مرة أخرى معتمدةً على فكرة التخيّل لها بقراءة نصوص التاريخ والأحداث الواردة إلينا رغم قلتها، وتقوم بنسجِ أحداثها بناءً على مخطوطة عُثِرَ عليها تتناول فترة حكم النباهنة، لتصبح هذه المخطوطة مدخلا مهمًا لسرد الأحداث وبسطها للقارئ وانتقالها زمانا ومكانا لإعادة تحريك الرواية التاريخية وإثارة الأسئلة حولها.

وبالتأمل في شخصيات العمل الروائي يظهر للقارئ أنّ الشخصيات متحركة؛ تظهر وتختفي قُوّتُها في الأحداث، لكن الرواية ركّزتْ بصورة أكبر على الشخصية الرئيسة بمنحها أوصافا معينة تنحصر فيها دلالات البطولة دون غيرها من الشخصيات التي ظلّت هامشية في ظل مركزية الملك سليمان الذي أصبح البطل الأوحد والشخصية المتحركة بحرّية في مجريات السرد. وقد منحت الرواية البطل صفات الفروسية والقوة الجسدية والمهارة القتالية والقدر العالي من الأخلاق وامتلاك مَلَكة الشعر والأدب، وحسن سياسة الرعية والخوف على مصالحهم، نقرأ ذلك على لسان الراوي/ سليمان النبهاني أو على لسان الشخصيات الأخرى؛ يصف سليمان النبهاني حُكمَه في البلاد قائلا: "كان لهذه الأحلاف النتائج التي سعيتُ من أجلها على المدى القصير، إذ عمَّ الأمن والسلام واختفت الجرائم التي يمارسها قطاع الطرق من التعرض للقوافل التجارية أو اختطاف النساء والأطفال وبيعهم كالعبيد، وذلك بعد أن جندتُ مجموعة من الفرسان المدججين بالسلاح على مفترق الطرق لحماية القوافل التجارية، وأجزيتُ لهم رواتب. كنتُ أدور بنفسي على قبائل البدو والحضر، ألتقي زعماءهم لتكوين أحلاف جديدة، أعلم أن المصلحة تحكم توجهات القبائل، وأنني أملك من القوة ما يدفع أي قبيلة لشراء ودّي، وهذا ما أكده حلفائي بنو رواحة:

-مثلك أيها الملك سليمان مَن يُشترى حلفه.

-الوحدة والحرية والخير هو كل ما أريده لعمان، وإن تمزقنا وانقساماتنا هي سبب كل الخراب والشتات الذي نعيشه". (ص61) ويصف شجاعته في مواجهة الجبور وخوض المعارك ضدهم: "عاد الأمير والإعياء قد بلغ منه مبلغه، نظر بطرف عينه لوجهي المعفّر بالغبار، أشهرتُ أمامه سيفي المخضب بالدماء، أوشكتُ أن أختطفه بسيفي، لم يكن يتوقع أنه سيواجه خصما عنيدا باسلا في الضرب والطعن إلى هذا الحد، تنحّى الأمير ابن زامل جانبا وقال بخيلاء:

-سأهبك فرصة حياة أخرى.

نهرته:

-هي ميتة واحدة وليس مثلك مّن يهبُ الحياة" (ص159).

كما يصف أخلاقه في الحرب، ويذكر حاله عند دخوله نزوى وقد عفا عن أهلها الذين خانوه وتمرّدوا عليه، ثم صالحهم في أمرهم، إنه هنا يُقدّم درسا في العفو، بل يُشبّه حادثة دخوله نزوى بحادثة فتح مكة في عفوه عن المتمردين عليه، إنه يمزج بين القوة وبين العفو والصفح وهو منهج نبوي تتمثّله الرواية على فعل النبهاني.

كذلك فإنّ الأوصاف التي وُصِفَ بها النبهاني انتقلت في السرد ضمنًا على لسان الشخصيات الأخرى؛ فقد ورد أنّ ابنته الأميرة عاتكة كتبت رسالة لجدتها جليلة تصف فيها زوجها سلجور شاه: "له عقل راجح، يجيد الحكم على الأمور مهما التبست، أما الحلم والجود والشجاعة فهو منها في الذروة العالية؛ أحاديثه تمتلئ بمآثر والدي الملك سليمان، يذكره بالخير ويصفه بالبطل المغوار، يترنم دائما بالأبيات التي يحفظها من قصائد أبي، يتحدث عن زياراته للعتيك ولذة اللحم المشوي...". (ص89) إنّ الأوصاف الواردة في الفقرة السابقة تتحدث عن سلجور شاه، لكن في حقيقة الأمر كان الوصف والمدح موجها للملك سليمان والثناء على أفعاله من بلاد بعيدة، إنّ الانتقال إلى مدح الملك النبهاني بعد سلجور شاه وجّه الأنظار ولفت الانتباه إلى شخصية أكثر حركة في النص، وأكثر أداءً للأدوار البطولية، وأكثر تفاعلا مع غيره من الشخصيات الروائية، إنها شخصية البطل التي تخصُّها الروايةُ بالاهتمام الكلي لجلب حركة بصرية، واهتمامٍ في التركيز في فعل القراءة واستعادة أحداث التاريخ.

إنّ الصفات التي أطلقتها الرواية على الشخصية الرئيسة سواء بلسانها أو بلسان الشخصيات الأخرى في الرواية عملت على تأسيسٍ لرسم صورة مغايرة عن المرجعية التي تستمد منها كتب التاريخ أخبارها، هكذا تنطلق الرواية في تأسيس وبناء الشخصية وارتباطها بالأحداث وتصاعدها، وبناء علاقات متأزمة بين شخصيات النص، لكن الأمر كله يفضي إلى الإشارة إلى الشخصية التي يستند عليها التاريخ في سقوط حكم النباهنة وأفول مجدهم، إنه سقوط يُفضي إلى قلب وتفتيت حقائق التاريخ. إنّ الحديث عن الملك سليمان جعل السرد يتقاطع مع شخصيات أخرى، ويتفوق عليها، هكذا تُصنع شخصية البطل التي تتصاعد بتصاعد الأحداث، فتعمل الرواية على إيجاد المبررات لأفعال الشخصية من مثل تبريرها لمقتل أخيه حسام والندم المستمر على فعل القتل استنادا على مرجعيات الخطاب الشعري في رثاء النبهاني لأخيه حسام، كذلك تبرير الرواية بنظمه الشعر في حبيبته راية، وذكر اسمها في أشعاره بطلب ذلك من والدها والسماح له بذكرها في شعره!!

لقد سخرت الرواية من مرجعيات التاريخ، وعدّتها محض ادعاءات زائفة، وعملت على تصويب مسار الأحداث، ورسم الشخصيات، فكان أنْ مدحتْ نظام التوريث في الحكم النبهاني وفضّلته على رأي أهل الحل والعقد، وخلع الحاكم وتنصيبه، كما عدّدتْ مآثر آل نبهان في البلاد، وأعادت فتح حادثة فلج الغنتق التي تُعَدّ الحادثة الكبرى في تشويه صورة الملك سليمان النبهاني في اقتحامه خلوة امرأة كانت تغتسل في الفلج، وعملت الرواية على قلب الحقيقة وإلصاق تدبير الحادثة والتخطيط للإطاحة بسليمان النبهاني من قبل محمد بن إسماعيل الذي دفع بزوجته لتدبير حادثة قتل الملك سليمان ورجاله في الفلج. لقد اشتغلت الرواية على براءة الملك سليمان بعد وفاته عن طريق رئيس الكتبة الذي ظلَّ يبحث عن الحقيقة ليودعها كتب التاريخ، ورغم أنّ الرواية أفصحت عن براءة الملك سليمان من حادثة امرأة الفلج، فإنها أضمرتْ أنّ وراء حادثة قتل الملك سليمان امرأتين: (موذية) التي تَعلّقَ بها الملك سليمان وتغزّل بها في شعره، وتلقّى بسببها خيانة الوزير المنهال وتآمره مع محمد بن إسماعيل وأصحاب اللحى الحمراء، والثانية (امرأة محمد بن إسماعيل) التي خطَّطت واستدرجت الملك سليمان ورجاله إلى فلج الغنتق.

إنّنا بالتأمل في الصفات التي أكسبتها الرواية على شخصية الملك سليمان النبهاني يجعلنا أمام أمرين اثنين:

أولا: أكسبتْ الروايةُ القارئَ تعاطفًا كبيرًا مع الشخصية الرئيسة/ البطل؛ الشخصية التي تعرّضت منذ بدء أحداث الرواية لأنواع الخيانات سواءً من القريب، أو الوزير، أو الصديق، أو الرعية. لقد فتح هذا التعاطف الباب إلى قراءة التاريخ مرة أخرى، وإعادة استحضار شخوصه عن تلك الفترة.

ثانيا: تصادم الرواية التاريخية بالحكاية الأدبية المتخيلة مما أوجد صراعا بين السرد الأدبي والرواية التاريخية، وفتح أسئلة مشروعة في صفحات التاريخ.

لقد استحوذتْ شخصية الملك سليمان بن سليمان النبهاني على مكامن السرد في الرواية، ويمكننا القول إن الرواية في سردها للأحداث أرادت للتاريخ أن يتشكّل بهذه الكيفية، وللشخصيات أن تنمو وفق الرؤية المتخيلة للكاتبة، وللرواية التاريخية أن تصحّح، هكذا تدخّلت الكاتبة في أحداث التاريخ، وهكذا تخيّلت أحداث التاريخ أو هكذا أرادت للأحداث أن تكون، لذا عملت على تلميع صورة البطل ضمن إطار تاريخي غامض وغائب في آن واحد.

* خالد المعمري شاعر وباحث في مجال السرديات