No Image
ثقافة

المرجعية في الأدب العماني (1): الحكاية الشعبية في "حفلة الموت"، و"درب المسحورة"

09 أغسطس 2021
09 أغسطس 2021

يتحدّدُ مصطلح المرجعية في الدراسات النقدية، كون النص الإبداعي قائماً في بناء أفكاره وشخصياته ورموزه وفق مرجعيات يعود إليها النص ويتحدَّدُ معها نمطُ الكتابة الخاص به، والملامح والسمات التي ينطلق منها، إذ لا ينشأُ النصُّ الإبداعي من فراغ، ولكل كاتب مرجعياته الخاصة التي يستقي منها أفكاره، وعليه فإنّ المرجعية هي مجموعة من المرتكزات الخارجية التي يقوم عليها النص الإبداعي، سواء أكانت ثقافية أم فكرية أم تاريخية أم دينية أم غيرها، يلجأ إليها لاستعادة ما يمكن من خلاله بناء ثقافة متكاملة في بنية النص، وبصورة أخرى فإنّ المرجعية هي نص آخر مساهم في بناء أفكار نص جديد.

وتظهر ملامح المرجعية عادة في استخدام الكتابة السردية لموضوعات جَرَتْ في المجتمع، ودارتْ على ألسنة الناس، ثم استعادتها فنياً في الكتابة السردية، ومن هذه الموضوعات الكتابة عن السحرة والسحر والمغيَّبين، وهي التي برزت في أكثر من نص أدبي تناول مثل هذه الحكايات في الأدب العماني.

تقوم روايتا (حفلة الموت) و(درب المسحورة) على حكايات المغيّبين والمسحورين وعودتهم مرة أخرى إلى الحياة بعد رحلة لعالم السحرة، وتستلهم الروايتان مرجعيةً خارجيةً دارتْ حكاياتها بين الناس، والعمل على إعادة صياغتها في نص سردي متضمنٍ شخصيات وأحداثاً وأمكنة تخدم بنية النص السردي.

وإذا كانت (حفلة الموت) استعادت الحكاية العامة عن المغيّبين والسحرة بالعودة إلى المخيال الشعبي، وإعادة صنع نص قائم على الفكرة القديمة لدى المجتمع عن السحر والسحرة والمغيّبين، فإنّ (درب المسحورة) استعادت حكاية شعبية عن حكاية واقعية حدثتْ في المجتمع، نقلها نور الدين السالمي في تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان (ج2/ ص:112)، وتدور أحداثها في نزوى في زمن الإمام سيف بن سلطان اليعربي (قيد الأرض) سنة 1109هـ، وهنا فإنّ الرواية لا تكتفي بعرض الأحداث كما عرضها السالمي بل إنها أضافت كثيرا من مخيلة الكاتب السردية، ولغته التي أعطت النص تنوعاً في الوصف والعرض السردي. إنّ الروايتين عادتا إلى التراث والحكاية الشعبية لإنتاج نص سردي ينطلق من البيئة العمانية القديمة، في محاولة لصنع نص يتقاطع مع الماضي وتقديمه للقارئ، فما الذي قدّمته الروايتان في موضوع المغيبين والسحرة؟

تتقاطع الروايتان في تناول الحكاية الشعبية، وتقتربان من تقديم صُورٍ متشابهة ارتسمت في مخيلة الإنسان العماني لا سيما عن السحرة، والمغيبين، والمكان المتخيّل، وتدخل الروايتان في بواطن الشخصيات وتعكس مشاعرهم وأحاسيسهم وانفعالاتهم، فتظهر بعض الشخصيات قلقةً، أو حائرةً، أو متسلّطةً. كما تتفق الروايتان على شخصية الساحر، وترسم له صورة مخيفة، وقبيحة، ومقززة قائمة على التلذذ بأكل الآخر. إنّ اشتهاء الساحر للحم الآخرين هي مرجعية حكائية تناولتها الحكايات العمانية القديمة، ولعل (حفلة الموت) أكثر انسياقاً لهذه الحكاية كونها صنعت من والد "أمل" واحداً من السحرة الذين تقوم عليهم الرواية. وتظهر قوة والد أمل وسلطته في السرد من جانبين اثنين: كونه ساحراً يُقدّم ابنته طعاماً لرفاقه السحرة من جهة، وكونه والداً متسلطاً عنصرياً يهمّش زوجته ذات الأصول الأفريقية وابنته بسبب أصل أمها، وهنا تنطلق الرواية من زاويتين دافعة بالشخصية الرئيسة "أمل" لإبداء السبب الرئيس في فتور علاقتها بوالدها.

لقد استطاعت (حفلة الموت) استخلاص فكرة المجتمع، والتعامل معها سرديا، كون الساحر يُقدّم أقاربه طعاماً للسحرة، أو يتقرّب بهم لأعوانه، وهذا مدار الحكاية هنا، إلا أنّ (درب المسحورة) تُظهر صورةً للساحر قائمةً على الكراهية للبشر، فهو لا يتلذّذ بأكل الناس وحسب، بل يُقدّم كراهيته لهم سبباً في انطلاق الفعل، تقول الرواية على لسان الساحر (ص23): "أيها البشر، كم أكرهكم! كم أتمنى زوالكم جميعا! أن تُصهروا في معدتي ومعدات رفاقي. (سنسحلكم) بسهولة في معداتنا الجافة. ستتحول لحومكم إلى سوائل نقذفها نتنة في الصحراء". وفي موضع آخر (ص24): "ستتّحدُ كراهيتنا لسلالة القرود هذه". إنّ شخصية الساحر في الروايتين شخصية محورية، تقوم عليها الأحداث وتنفتح معها الشخصيات، وتظهر صورة المكان المتخيّل وأحداث الرحلة الخرافية بظهوره، لكن الروايتين تُظهرانِ انهزاما للساحر، وانهزاماً لحكاية مشهد الرحلة الخرافي أمام شخصية الأم، وشخصيات أخرى في المجتمع، وذلك راجع إلى محاولة الروائي لصنع مشاهد رحلة المغيبين والسحرة سرداً، فتتوسّع (حفلة الموت) في وصف مكان الحفلة، وعالم السحرة الغيبي، وصورتهم المتخيلة: "غصتُ للأعماق، مدينة تحت الأرض. كان كل شيء مختلفاً وغريباً ومريعاً وقاتلا. بيوت منحوتة في الجبال، بيوت من الطين، عشش، نساء ورجال وأطفال عراة، أو شبه عراة، يمشون بلا وعي، يتخبطون. مراجل كبيرة تغلي، أطفال معلّقون على أقواس الشواء بكامل أجسادهم الغضة، حفلات عرس تقام في القرب... والرائحة، آآآآآآآآه من تلك الرائحة.. نتانة.. دم.. منيّ، كل شيء مختلط بوفرة، رائحة تصيبك لشدّتها بالإغماء والدوار". (ص56-57) هذا المشهد الوصفي/ المتخيّل قد نُقِل من حكايات الناس، ومجالسهم، واشتغلت عليه الروائية واقتضته الكتابة لإبراز الأحداث بعده، وصولاً إلى عودة المغيّبة أو المسحورة وانهزام الساحر أمام المجتمع بعاداته وتقاليده الشعبية في مواجهة الساحر والسحر. في (درب المسحورة) أيضا تصف الرواية عالم السحرة المتخيّل في غير موضع: "خليط من سَحَرة ومجذومين وقفار رمل ولاعبو حيل، جمعتهم روح خشنة وعروقهم مستعدة للنبض بكل ما تلمس أياديهم". (ص15)، "وفي الخفاء، كان مجلس السحرة قد أعد تفاصيل استقبال الوليمة. حُفرت الأرض وأُخرجت من بطنها صنوج قديمة وقدور. أشعلت النيران من خشب السمر السميك، غذيت بأبخرة جذوع حمراء ونفخ فيها طويلا". (ص22) ثم تعود الرواية إلى التراث الشعبي مادةً لانتصار المجتمع على سلطة الساحر، وقوته وأعوانه، وتبديد أسطورة المكان الغيبي المتخيّل، حين تتدخل الحكاية في تبديد قوة الساحر. تتحدّث رواية (حفلة الموت) عن لحظة إنقاذ الفتاة المسحورة، وتحيل الفعل على المجتمع والعادات، تقول أم أمل بعد إنقاذ ابنتها من يد السحرة (ص63): "سامحيني يا روحي، عرفتُ أنهم أخذوكِ، رأيتكِ تتجولينَ إلى جواري في روح ضفدع صغير، هكذا يفعل عادة هؤلاء المجرمون، وهكذا عرفت أنك ستأتين، وجرحتك ليسيل الدم فيكرهك الساحر الملعون وعالم الشياطين.."، ثم تنسب هذا العمل إلى المجتمع الخارجي، والرواية التقليدية للناس: "هكذا توراثنا هذه الأفكار عن أجدادنا ورأيناهم يقومون بها...". الأمر نفسه في (درب المسحورة) إذ تَقدَّمَ الغريبُ واعترض جنازة البنت وطلب رؤيتها قبل الدفن، ثم أخبرهم أنها مسحورة، ليس على وجهها شيء من الموت، ولجأ إلى محاولة استعادتها من الساحر قائلا (ص20): "ارجعوا بالبنت حالا وادهنوها بماء الزئبق. لن يقربها الساحر إذا تلمظ ذلك الطعم. سيهرب ويختفي السحر منها، وتعالوا لأخذها في الصباح، فستوقظها الشمس".

لقد عمد السرد إلى استلهام الحكاية الرئيسة للساحر، والرحلة الخرافية للمسحورين من المجتمع، وقام الروائي بعملية الاشتغال، وإبراز ملامح السرد المختلفة من أجل العودة بالسرد إلى بواطن النفس والذاكرة في مجتمع يَعدّ هذه الحكايات من صلب تاريخه الشفوي الطويل، كما عمد السرد هنا إلى العودة إلى الحكاية التقليدية نفسها التي تُبطل حِيَل الساحر وألاعيبه في محاولة لإضفاء الصبغة الواقعية على الحكاية سواء في مرجعيتها الأولى أم في عالمها السردي. وهنا ترسم لنا الروايتان صورة الضعف المتمثّل في شخصية الأنثى بالتحديد، سواء في صورة المغيّبة/ المسحورة أم في صورة الأم، وهذا يُحيلنا إلى أسئلة تبحث في الموروث الحكائي الشعبي، لماذا البنت هي أغلب المغيبين والمسحورين في السرد العماني مع أنّ الحكايات العمانية في مرجعيتها جاءت محمّلة بالمغيّب الذكر أحيانا؟ ولماذا يقترن الضعف دائما بصورة الأم في مواجهة الساحر، مع غياب تام لشخصية الأب في (درب المسحورة) مثلا، وانحياز الأب للساحر وأعوانه في (حفلة الموت)؟

إنّ الأنثى في الروايتين قرين الخوف والقلق والتهميش أيضا، وهذا في حد ذاته مرجعية أخرى ينبش فيها السرد العماني بالعودة إلى صورة المرأة في الذاكرة الجمعية العمانية ومحاولة إسقاطها والاشتغال عليها سردا.

لقد قدّمت روايتا (حفلة الموت) و(درب المسحورة) أنموذجا سردياً يتكئ على المرجعية في بناء النص، وتقديم شخصياته من محيطه الخارجي، وذاكرته الجمعية، إلى قارئ قد يجد تهويلا في الصورة السردية التي جاءت في الروايتين، ولعل أبلغ وصف قدَّمَتْهُ الروايتان في استلهام حكاياتها وصف الرحلة الخرافية وطقوسها بـ"حفلة الموت" و"حفلة العرس الجماعي" انطلاقا لتأكيد بشاعة الصورة المستعادة من واقع ربما أكثر بشاعة في حكاياته الشعبية.