1931495
1931495
ثقافة

أنساغ.. أقصى ما أطمح إليه من أخبار طيِّبة

06 مارس 2022
06 مارس 2022

الإثنين، 1 يناير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:

حتى تموت لا بد أن تكتب. حتى تكتب لا بد أن تموت.

وهل لديك خيار آخر؟

الثلاثاء، 2 يناير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:

(1)

يندلق لظى الذاكرة والعمر المرعوب في شظايا وجه مريم إبراهيم إذ يأتيك قبيل الفجر برسالة الموت. كثبان من ترابٍ أسود، جدران طين مدكوكة (معادلها الموضوعي الأقرب هو «البيت العُود»)، نخيل صفراء، والموت يوشك أن يأخذ أحدكما أو كليكما. تساومانه فيسخر، ويؤثِر أحدكما الآخر فيتبختر. تريد أن تموت لأجلها، وتريد أن تموت لأجلك؛ لكن الموت، في الحياة، أفنى كلا منكما في الآخر.

ثمَّة أيضًا وجوه عائليَّة أخرى تحضر في هيولى الرؤية (أكثرها وضوحًا وجوه أخواتك الثلاث بطريقة ذكَّرتك في الكابوس بساحرات بولانسكي) (*) إذ يوغل وجه مريم إبراهيم، ويتغطرس، ثم يتبدد في الجاثوم.

سيظل «الالتباس» بين مريم إبراهيم وبينك قائما وقاعدا. هذا «الالتباس» لا أمل في شفائه.

مضت الآن أكثر من ثلاث سنوات من دون أن تراها، من دون أن تتهاتفا، من دون أن تتكاتبا، من دون أن تسمع عنها أي شيء (وهي، في الغالب، لم تسمع عنك أي شيء أيضا سوى متواترات أخبار الخمر، والكفر، والزندقة، والفجور، وانك في بلاد بعيدة اسمها أمريكا سيحولك فيها أهلها إلى نصراني بعد أن حقنك الملاحدة بحقن مستوردة من موسكو فجعلوا الشيوعيَّة تسري في دمك مثل سم العقارب والثعابين).

لكن مريم إبراهيم كانت تخاف عليك كثيرا، خاصة بعد أن زارنا قريبها [...] الذي يعمل في [...] وقال لها: أتعلمين ما الذي نفعله بالشيوعيين؟ إننا نلقيهم أحياء في مراجل ضخمة فيها ماء يغلي. وقد أخذت مريم إبراهيم الأمر بحرفيَّته.

كم هي مسكينة مريم إبراهيم. وفي الحقيقة، قد أكون مسكينا أكثر منها.

(2)

النزوع نحو الموت، منذ محفوظة ولطيفة، هو ما حدَّد دوما ارتباطك بمريم إبراهيم؛ الارتباط السرِّي بما يسميه بول سيلان «حليب الضحى الأسود».

الأربعاء، 3 يناير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:

(1)

لماذا الأربعاء يا ترى؟

ولماذا هذا السؤال المضجر حتى في اليوم الثامن؟

(2)

عن إدغَر ألن بو: تأمَّلَ رَجُلٌ وقف على الضفة الأخرى للعالم ورأى؛ رآه من هناك. تُفكِّر في أن قراءة شخص كهذا، بلغة الضفة الأخرى، تتطلب قارئا يقف على ضفة أخرى أيضا.

قارئ لا يستطيع السباحة إلى الضفة الأخرى لا يستطيع قراءة إدغَر ألن بو (هذا بمناسبة إعادة قراءة «الغراب» الليلة التي هي (“Once upon a midnight dreary”.

الخميس، 4 يناير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:

(1)

حين كتبتُ تلك المقاطع عن مريم إبراهيم قبل يومين كنتَ في غاية الاكتئاب. كان جسدك يرتعش بصورة خفيفة ومنتظمة، والهواء يصل إلى رئتيَّ بالتقتير. حين اليوم، إذ أنت أقل اكتئابا، أعدت قراءة تلك المقاطع أدركتَ كم هي ضعيفة، ركيكة، ولا تقترب من فجيعتي أو لغة كوابيسك. تدرك اليوم أن اكتئابك الحاد الطويل يأسرك عن الكتابة ولا يأسرك فيها. الحزن شيء آخر. الميلنخوليا شيء آخر. والكتابة تفقد مفعولها الإبداعي حين تتدثَّرُ بالاكتئاب المزمن الحاد. لكنك تدرك أيضًا إنك جربت كل شيء طوال السنين الفائتة في محاربة الاكتئاب المزمن الحاد، التعامل معه، التعايش معه عليه (ربما باستثناء «الاهتداء» إلى المسيحيَّة التي يسمحون فيها في الأقل بأن يُحرقَ جثمان المرء ويُذَرُّ رماده في البحر إذا ما هو أوصى بذلك).

ليس أمامك غير الرعشة، والتوثيق ضروري.

(2)

«لا أستطيع أن أفكر بحاجة أخرى في الطفولة قويَّة كمثل الحاجة إلى حماية الأب».

أقرأ هذا اليوم في كتاب فرويد «الحضارة وسخطها» (“Civilization and Its Discontent”) فأشعر، حتى في هذا العمر، بالخوف من الأب أكثر من الحاجة إلى حمايته.

لكن الخوف شعور إنساني (هو ما تشعر به من تلعثمات غراميَّة حين تقابل كِيرستُن، مثلا). أما الرعب فهو أن يطوِّح أب بولده الغلام الصغير أرضًا، ويجثم على صدره بركبتيه، ويطوِّق عنقه بيديه صارخًا بتفويض سماوي: «أنا من حقي كأب مسلم أن أقتلك الآن».

أنت أحد أمثلة فرويد (التي، تقريبًا، لم يفكِّر بها، والتي، تقريبا، تبتسم لها حين تصادفها في كتبه).

(3)

«قربان» تاركوفسكي من جديد، وأنت تريد أن تجرجرني إلى هرمنوطيقيَّاتك وهرطقاتك عنه (وأنا بالتأكيد أثق أنك جاد جدا في علاقتك بتاركوفسكي والسينما)، لكني، مع ذلك، أريد أن أذكِّرك أن هذا الدفتر لك وحدك؛ الوحيد الذي لك بالكامل.

إن شئت أن تكتب عن تاركوفسكي أو غيره فبوسعك أن تفعل ذلك في مكان آخر. أنا أحاول فقط أن أذكَّرك بك من حين لآخر طالما أنك لا تعلم من أنت بعد. تعلم، لكنك تريد أن تتجاهل، تَجهل، تُجَهَّل، لكنك لا تريد أن تعرف.

(4)

صرخت اليوم (لدى مشاهدة دعاية تلفزيونية عن إمكانيَّة «حل جميع المشاكل النفسيَّة»): يا كافكاااااااااااااااااا: أنت واقعيٌّ سمج!

الجمعة، 5 يناير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:

أنت مهووس بالجنس، لكنك لم تعد راغبًا فيه. لا فائدة في الجنس، ولا فائدة في أي شيء آخر.

السبت، 6 يناير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:

لا شيء، لا شيء.

لا فائدة في أي شيء، لا جدوى من كل شيء.

الأحد، 7 يناير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:

أي صباح هذا الذي يبدأ بنعش يُدخِله رجلان إلى بيت صغير غامض الملامح والهندسة المعماريَّة، ملحق بمسجد قريب الشبه بذلك الذي كان يقوم بالإمامة فيه الشيخ [أحد أصدقاء الوالد]، في [سبعينيَّات] أبوظبي؟

حين تهمُّ بالسؤال عمَّن في النعش إذا به يُلقى في الحمَّام. وبعد لحظة ترى جثَّة مشوَّهة لم تتمكن من تبيُّن ملامح وجهها، ثم تُلقى الجثَّة في ماكنة غسيل ملابس به ماء أسود لشدة اتساخه.

أي صباح هذا؟

الإثنين، 8 يناير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:

لستَ بحال أفضل اليوم، لكني لستُ بحال أسوأ. هذا هو أقصى ما أطمح إليه من أخبار طيِّبة.

المقصود هو الساحرات في فيلم رومَن بولانسكي «ماكبث» (1971) المقتبس عن عمل شكسبير المعروف. وعلى الرغم من وجود عدد لا بأس به من الاقتباسات السينمائية لهذه الخالدة الشكسبيريَّة، إلا أن اقتباس بولانسكي هو الأكثر دمويَّة منها حيث أنجز بولانسكي الفيلم بعد جريمة قتل زوجته شيرن تيت بطريقة بالغة العنف والوحشية من قِبل «عصابة عائلة مِيسِن» في ليل 8 و9 أغسطس 1969 (حاشية إيضاحيَّة أضيفت إلى المتن في مسقط، الثلاثاء، 1 مارس 2022).