تيتشر محمد.. متحسرًا على عروبته
وأنا أتجوّل في إحدى المكتبات التي عوّدتْ زبائنها أن تُحضر لهم الكتب من "المطبعة إلى المكتبة" حسب شعارها، لفت نظري كتابٌ عنوانُه مثير هو "عندما كنتُ عربيًا"، ومكتوب عليه اسم المؤلف تيتشر محمد، والاسم نفسه أيضًا مثير، ومن صورة المؤلف على غلاف الكتاب يبدو أنّه شخص غربي بلحية وشعر طويلين مع ملامح حزينة لا تخطئها العين، ممّا شجعني على اقتنائه. وبعد قراءتي للكتاب بحثتُ معلومات عن المؤلف، فإذا هو سوري الأصل، وهو أحد مشاهير مواقع التواصل، وصاحب أكثر من مليون متابع على الانستجرام، اشتهر معلمًا للغة الإنجليزية، بنشره فيديوهات مبسطة حول اللغة وقواعدها ومفرداتها.
وفي كتابه هذا يلخِّص تجربته الشخصية هو وزوجته وطفله في هجرته غير الشرعية إلى السويد؛ وهي قصةُ كثيرين من أبناء الوطن العربي الذين اضطرتهم الأوضاع والظروف السيئة - السياسية والمعيشية - لترك أوطانهم، والبحث عن حياة حرّة وكريمة في الغرب؛ فمنهم من وصل إلى مبتغاه، ومنهم من قضى نحبه وابتلعتهم البحار والمحيطات، ومنهم من ينتظر.
ورغم أنّ الكتاب كان سردًا عاديًا، وكانت كلمات التيتشر محمد أقرب إلى العامية، إذ أنّ هناك من كتَب ووثّق لمثل تلك الرحلات غير الشرعية أفضل ممّا فعل محمد، مثل الكاتب جان دوست في روايته "كوباني"؛ إلا أنّ قيمة الكتاب تنبع من أنه تناول موضوعًا بالغ الأهمية، وهو هجرة العرب إلى الغرب وأسبابها ونتائجها. وقد انطلق المؤلف من الخاص إلى العام، فكانت البداية من السعودية التي عاش فيها، لكنه يقع في خلافات شديدة مع كفيله، فيرى أنه أقرب إلى أن يكون عبدًا مسلوب الإرادة. ويتحدّث محمد عن مشاكله مع كفيله بإسهاب، ويورد بعض صور المحادثات التي تمّت عبر الواتساب مع كفيله وأصدقائه، إلا أنها لا تضيف شيئًا للموضوع الأصلي، وكان يمكن الاستغناء عنها. أمام الوضع الصعب الذي عاشه، نبعت لديه فكرة الهروب إلى الحريّة والكرامة الإنسانية، خاصةً أنّ له أخًا يعيش في السويد، يلح عليه كثيرًا أن يهاجر إلى هناك ليعيش في كرامة. وبدأت رحلة الترتيبات للهروب عن طريق تركيا بعد الاتفاق مع المهربين هناك. ويأخذنا محمد في رحلته بين خمس دول مرّ بها حتى استقراره النهائي في السويد؛ من السعودية إلى تركيا حيث الاتفاق مع المهربين الذين هرّبوهم إلى اليونان عن طريق المشي وعبور النهر الفاصل بين تركيا واليونان؛ فيتناول محمد في هذا الفصل بالتفصيل معاناة المهاجرين غير الشرعيين وما يلاقونه من أهوال الموت، وجشع المهرِّبين الذين لا يعلمون من الإنسانية حتى اسمها، وعندما يصلون إلى اليونان، يتركهم المهرِّبون وشأنهم. هنا يذكر محمد قصة مؤلمة إذ يقول: بعد وصولنا اليونان، تجمّع حولي الجميع، وقلت لهم - خاصة البنات المحجبات -: إذا بقيتنّ بالحجاب فسيفضح أمرنا، وستعرف الناس أننا لاجئون، فنحن سنمشي في طريق عام، قد تمرّ به سيارات الشرطة، أو يقوم أحد الأشخاص بالإبلاغ عنا، ونحن نحمل حقائب، وملابسُنا مليئة بالطين، وأنتن محجبات، وهذا سيزيد الشبهة، فنحن في دولة مسيحية والمسلمون فيها ليسوا أغلبية. يقول محمد "فلم تناقشني أيّ فتاة منهن، وقلن أنت على حق، وكانت تلك من أصعب اللحظات. وللأسف خلعن حجاباتهن وبدأنا المسير"، ويعقّب على هذا المشهد قائلا: "لا أنا ولا هؤلاء البنات بعنا ديننا ومبادءنا؛ فالضرورات تبيح المحظورات، كنا مضطرين لفعل هذا ولم نخذل ديننا بهذا الأمر، بقدر ما خذَلَنا أهلُ ديننا وأهلُ بلادنا بأن اضطررنا أن نهرب بأنفسنا إلى بلاد ليست مسلمة، وكانت بلاد المسلمين واسعة تتسع لنا أجمعين دون أن نحتاج إلى هذا الأمر".
وإذا كانت الرياح أحيانًا تجري بما لا تشتهي السفن، فإنّ رياح تيتشر محمد في اليونان لم تجر بما اشتهى، إذ ألقي القبض عليه وزوجته وابنه في مطار أثينا، بعد اكتشاف أمر جوازاتهم المزورة. ويحكي أنّ ضابط الشرطة اليونانية سأله من أين أنت، ومن أين هذه الجوازات المزورة؟ فقال له إني من سوريا، أهرب من جحيم الحياة المحتوم إلى بر الأمان. فقال لي: أنا أتفهم ذلك، ولكن الجوازات مزورة وواضحة جدًا. وكأنه يقول لي كان يجب عليك أن تزوّر الجوازات بشكل أفضل. ويقول محمد إنه أخذ إلى غرفة التحقيقات، وكان بإمكانه أن يرى حركة المسافرين؛ فرأى امرأة ومعها كلب، ففتحت المضيفة جواز سفرها وأغلقته، ثم فتحت جواز سفر الكلب وأعطتها إياه وهي تبتسم. "في هذه اللحظات شعرتُ أنّ هذا الكلب كان أفضل مني؛ فهو يملك جواز سفر يسمح له بالذهاب والتجول في أوروبا، وأنا الإنسان، فقط لأني سوري ممنوع من السفر". ويقول - والأسى ظاهر من حروفه -: "في هذا الموقف أخي العربي لا تحدّثني عن العروبة وعن العز والفخر والمجد".
أعادت قصة كلب مطار أثينا هذه إلى ذهني، موقفًا مشابهّا ذكره المناضل الفلسطيني صلاح خلف أبو إياد، الذي اغتاله الكيان الصهيوني، إذ ذكر في كتابه "فلسطيني بلا هوية" أنه أوقف هو وزوجته وابنته في مطار بيروت، لأنّه لا يحمل تأشيرة دخول، "وأودِعنا لتمضية الليل في غرفة صغيرة في المطار، لا نستطيع حتى أن نتمدّد فيها؛ فرُحتُ أترافع لصالح زوجتي وابنتي، عارضًا أن أبقى في المطار بينما تمضيان هما الليلة في فندق في العاصمة، لكن عبثا، إذ أنّ ضابط الأمن لم يتزحزح عن موقفه؛ وفي أثناء ذلك تم إدخال كلب إلى الغرفة التي كنا محتجزين فيها، إذ لم يكن باستطاعته هو الآخر أن يدخل إلى البلاد، لأنه لا يحوز على شهادة صحية نظامية. كنتُ بدأت أتعزى بفكرة أنه ليس ثمة تمييز يفصل بين الفلسطينيين والكلاب، عندما جاء من يسعى وراء صاحبنا العاثر الحظ، بعد أن نال إعفاءً استثنائيا بسبب "تدخل رفيع المستوى" تم لصالحه. فإذا الكلب يجد من يعطف عليه ويخرجه من تلك الغرفة ويدخل إلى ذلك البلد"!
استطاع تيتشر محمد أن يخرج من اليونان بجوازات أخرى مزورة، بعد تواصله مع مافيات المهربين، وذهب إلى إيطاليا التي مكث فيها يومين، ومنها إلى السويد التي وصلها وبدأ في إجراءات طلب اللجوء والإقامة. ويشرح عن قيمة الإنسان في السويد وعن المعاملة الحسنة التي لاقاها هو وأسرته، وكيف اهتمت الدولة بابنه خطاب الذي يعاني من "التوحد"، واهتمت بدراسته ووفرّت له مدرِّسًا خاصًا متخصصًا في أطفال التوحد. وعن التحقيق معه يقول إنه من العجيب أنه قد دخل إلى البلاد بطريقة غير شرعية، إلا أنّ المحققة قالت له "في حال لم أعجبك أو شعرت بعدم الارتياح لي أو للمترجم، بإمكانك أن تطلب تغييرنا بآخرين، وإذا كانت لديك مشكلة أن تكون المحققة امرأة، فلك الحق أن تطلب رجلا".
يقارن محمد محروس، - وهذا اسمه الأصلي – بين الاحترام الذي لاقاه في السويد "وهي بلاد الكفر والكفرة" وبين المعاملة السيئة التي يلقاها المواطن العربي في بلاده وفي البلدان العربية والإسلامية وينهي كتابه بعبارة يوجهها إلى العرب قائلا: "كم يؤلمني احترامك لي يا أخي عندما وُضِع الصليب على جواز سفري.. ليتك احترمتني عندما كنتُ عربيًا".