انحسار الظلال ..ومعارك لابد من خوضها !!
إذا كان من المعروف، على نطاق واسع، أن القوى الإقليمية والدولية الطامحة والراغبة، والقادرة على التأثير في الدوائر المحيطة بها، وإلى المدى الذي تستطيع الوصول إليه، لا تتردد عادة في العمل واستخدام مختلف الوسائل المتاحة لها لممارسة تأثيرها ومد ظلال نفوذها المباشر وغير المباشر وراء حدودها، والعمل على ترسيخ وتوسيع دوائر ومجالات وصور وأدوات التأثير، خاصة في المناطق المجاورة أو المحيطة بها، التي ترى فيها مصالح ترتبط بأمنها وازدهارها، بغض النظر عن مصالح تلك المناطق بالطبع، فإن القاعدة والخبرة التي تكونت على مدى قرون وعقود عديدة تشير بوضوح إلى أن الأمن والاستقرار والسلام الإقليمي يرتبط طرديا مع إدراك مختلف القوى الإقليمية لحقيقة أنها لا يمكنها فرض النفوذ وممارسة أو فرض التأثير على الدول الأخرى لفترات أو لسنوات طويلة، وأن ترسيخ العلاقات على قاعدة الاحترام المتبادل للسيادة والتعاون الإيجابي القائم على توازن المصالح واحترام وحدة أراضي وشعوب الدول الأخرى، والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول، وعدم التلاعب بقواها السياسية والاجتماعية، هو السبيل الآمن، بل الذي لا مناص منه لبناء علاقات مستقرة وقادرة على التطور والتفاعل البناء، وتحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة بين الدول المعنية في إقليم أو منطقة ما في مرحلة أو أخرى .
غير أن طموحات النفوذ، ووهم القدرة على التأثير والتغلب على العراقيل والمشكلات المصاحبة لذلك تتغلب في كثير من الأحيان على حسابات العقل ومتطلبات توازن المصالح، وهو ما تسبب ويتسبب في الواقع في الكثير من المشكلات، سواء لتلك القوى الإقليمية الطامحة، أو للدول والأطراف الأخرى في الإقليم، وعادة ما يتم اكتشاف خطأ ذلك، ولكن بعد فوات الأوان، وبعد التسبب في الكثير من المشكلات والخسائر المادية والبشرية، وبقدر ما ينطبق ذلك على القوى الإقليمية، فإنه ينسحب على القوى العالمية الأكبر، وبقدر ما قدمته دروس نمو وتطور الامبراطوريات التي عرفها العالم وتدهورها لاعتبارات وأسباب عديدة، بقدر ما يقدمه الانسحاب الإمريكي السريع، أو "المهرول " بمعنى أدق، من أفغانستان من ناحية، وإعادة ترتيب الوجود أو العلاقة الأمريكية العراقية وبما يسمح بانسحاب القوات القتالية الأمريكية من العراق وتحديد مهام القوات الأمريكية التي ستبقى في العراق بعد 31 ديسمبر القادم من ناحية ثانية .
وعلى مدى العشرين عاما الماضية، فإن ضرب برجي التجارة الأمريكيين في نيويورك ومهاجمة البنتاجون في 11 سبتمبر عام 2001 ، أدى إلى قيام الولايات المتحدة بغزو أفغانستان بعدها مباشرة، بحجة إيوائها لتنظيم " القاعدة " الذي أعلن مسؤوليته عن ضرب برجي التجارة الأمريكيين، ثم القيام بغزو العراق في عام 2003 بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل، وفي كلتا الحالتين كان التحرك الأمريكي خارج نطاق الأمم المتحدة وبما يتعارض مع قواعد القانون الدولي، بغض النظر عن المبررات التي تمت صياغتها ونشرها لتبرير عمليات غزو وتدمير واسع النطاق لدول ومجتمعات، وتركها لمصيرها دون اعتبار لما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج .
والآن بعد عقدين من غزو أفغانستان وثمانية عشر عاما من غزو العراق تجد واشنطن نفسها مضطرة للانسحاب من أفغانستان والعراق؛ لأسباب محددة في كل من الحالتين، ولا يجمع بينهما إلا حجة العمل من أجل تركيز الجهود في جنوب شرق آسيا والإعداد لمواجهة البزوغ الصيني القوي والمتواصل بدرجة متزايدة. ومع الوضع في الاعتبار أن واشنطن ، أكدت بوضوح أنها ستواصل العمل من أجل أمن وتنمية واستقرار أفغانستان وحكومة " أشرف غني "، وكذلك استقرار وأمن العراق وتقديم التدريب والتعاون الأمني والاستخباري والتنموي للعراق الشقيق، إلا أن الأوضاع على الأرض بالنسبة لأفغانستان تسير في اتجاه يثير بالفعل قلق الأمريكيين والقوى الإقليمية والدولية المعنية بأفغانستان بسبب توسع حركة طالبان الأفغانية المعارضة واستيلائها على الكثير من المناطق الأفغانية – نحو 80 في المائة من مساحة افغانستان - وقيامها بشن عمليات هجوم واغتيالات سياسية داخل العاصمة كابل في الأيام الماضية .
وبالنسبة للعراق فإن الأمر يتوقف في الواقع على تفاعل عدد من العوامل والمؤثرات خلال الفترة القادمة، ومواقف القوى العراقية والإقليمية حيال مخرجات الجولة الأخيرة للحوار الاستراتيجي العراقي الأمريكي التي جرت آواخر الشهر الماضي خلال زيارة مصطفى الكاظمي رئيس وزراء العراق لواشنطن واستقبال الرئيس الأمريكي له في البيت الأبيض والتوقيع على عدد من الاتفاقيات لتنظيم التعاون الأمريكي العراقي خلال الفترة القادمة.
وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي : أولا : أنه إذا كان الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق قد ركز على الهدم، هدم الدولة وقدراتها وتفكيك عناصرها، خاصة في العراق، وهي الأكثر تماسكا وقوة من أفغانستان بالطبع لاعتبارات عديدة حضارية ومجتمعية، فإن واشنطن لم تضع في اعتبارها ولا في خططها عملية بناء الدولة مرة أخرى، صحيح أن الرئيس بوش الابن تحدث عن النموذج العراقي للديمقراطية، وهو النموذج الذي سيقام على انقاض دولة صدام حسين ، وأن ذلك سيكون أمرا ملهما للدول العربية الأخرى، غير أن ذلك لم يكن سوى نوع من الدعاية والتبرير السياسي والإعلامي لأسوأ غزو عرفه العالم والذي تم على مرأى ومشهد كل الدول والشعوب، ونقلته كل وسائل الإعلام لحظة بلحظة على امتداد العالم .
وكما أكد وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن قبل أيام من أنه " ليس من مهمة أمريكا بناء أمة في أفغانستان "، فان الأمر نفسه ينطبق على العراق الذي لا يزال يعاني من عمليات التدمير والتخريب المنظم للقدرات العراقية بدءا من قرارات "برايمر" وتسريحه للجيش العراقي وتفكيكه للمجتمع العراقي وزرع مبدأ المحاصصة الطائفية كأساس للنظام السياسي العراقي بعد الغزو .
وأيا كان فإن من أهم وأبرز نتائج الغزو الأمريكي للعراق، وبالطبع لأفغانستان، أن القوى الإقليمية عملت بنشاط من أجل التغلغل وزيادة نفوذها في الساحة العراقية، وكذلك الأفغانية، واستخدام العديد من الوسائل، بما في ذلك قوى المعارضة السابقة التي عادت إلى العراق وشاركت في الحركة السياسية فيه وتأسيس النظام العراقي الجديد وفق الأسس التي تم التوافق العراقي عليها، والكثير يمكن أن يقال في هذا المجال .
ولم يكن غريبا ولا مفاجئا أن تملك كل من إيران وتركيا وسائل وأدوات تأثير عملية، مباشرة وغير مباشرة على القرار العراقي، وإلى حد دفع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بالدعوة إلى عدم تحويل العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات بين أمريكا وإيران ودعا كل الأطراف إلى ترك العراق لشؤونه . وإذا كانت دعوة الكاظمي، التي يتفق معها كثير من القوى السياسية والاجتماعية العراقية، تشكل مدخلا مهما لتحييد العراق وإبعاده قدر الإمكان عن تفاعلات المواجهات الإيرانية الأمريكية، إلا أن الاستجابة لتلك الدعوة لم تتحقق بشكل ملموس، حتى الآن على الأقل، وهو ما تجسده عمليات القصف الصاروخي المجهولة والمعلومة المصدر أيضا، لمواقع في محيط السفارة الأمريكية في بغداد ولقواعد عراقية بها قوات وأفراد أمريكيين من وقت لآخر .
صحيح أن عمليات القصف محكومة بحيث لا تؤدي إلى خسائر بشرية أمريكية، ولكن الصحيح أيضا أنها تؤدي إلى إحراج الحكومة العراقية بشكل أو بآخر .
ثانيا : أنه في الوقت الذي يطمح فيه رئيس الوزراء العراقي وقوى سياسية واجتماعية عراقية أخرى إلى الحفاظ على علاقات طيبة، وغير متقاطعة مع إيران والولايات المتحدة، وكذلك مع مختلف الدول العربية والإقليمية الأخرى، بل والاستفادة من ذلك للقيام بدور إيجابي للتقريب بين إيران وبعض الأطراف العربية – على سبيل المثال اللقاءات السعودية الإيرانية في العراق قبل أشهر – فإنه من الطبيعي أن القوى الإقليمية التي مارست وتمارس النفوذ والتأثير بشكل أو بآخر في السياسة العراقية لن تتنازل أو تتخلى عن ذلك بسهولة، ولا لمجرد دعوة رئيس الوزراء العراقي لها، ليس فقط لأنها تحقق مصالحها الخاصة في العراق ، ولكن أيضا لأنها تحرص على أن لا ينجذب العراق إلى مواقف أو إلى توجهات قد تتعارض معها من وجهة نظرها وبدون تسمية أطراف محددة تعمل بالوكالة مع هذا الطرف الإقليمي أو الدولي أو ذاك، فإن جهدا كبيرا ينتظر رئيس الوزراء والقيادة العراقية ككل من أجل محاولة تقليص مساحات الظلال والنفوذ التي تملكها أو تباشرها القوى الإقليمية والدولية المختلفة، ليس من منطلق عدائي ولكن من منطلق ومقتضيات المصالح الوطنية العراقية، ومن مبدأ أن وقف التدخلات في الشؤون العراقية وانحسار ظلال النفوذ الخارجية هي أفضل السبل لتحقيق تعاون أفضل مع العراق ولصالح العراق ومختلف الأطراف الأخرى بالطبع، خاصة وأنه ليس ممكنا الحفاظ على نفوذ خارجي كبير على العراق، أو لسنوات طويلة، وهو دولة ذات أهمية وتأثير في المنطقة وتملك تاريخا وتراثا معروفا، ولذا فان الأفضل أن تتفهم وتدرك القوى المختلفة أن توازن المصالح وعدم استغلال حالات الضعف العراقية هو افضل السبل لتحقيق علاقات أفضل مع العراق الآن وفي المستقبل .
أما استثمار المشكلات العراقية التي تراكمت ونتجت عن سنوات الدمار السابقة فإنها لن تخدم البعد الاستراتيجي في العلاقات لا مع العراق ولا مع الدول الأخرى في المنطقة. نعم من الصعب أن تتخلى دولة عن نفوذها ولا عن أدواتها طواعية، ولكن الأفضل العمل على بناء علاقات تقوم على الثقة المتبادلة واحترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية أو التلاعب بها، فذلك أجدى وانفع لحاضر ومستقبل العلاقات مع العراق والدول الأخرى في المنطقة ولصالح القوى الإقليمية المختلفة كذلك . أما الاحتفاظ بقوات داخل الأراضي العراقية رغم مطالبة الحكومة العراقية برحيلها فإنه يعد خطيئة وعبء على العلاقات مع تلك الأطراف في الحاضر والمستقبل.
ثالثا : أنه في الوقت الذي يسير فيه رئيس الوزراء العراق في خطواته بهدوء ووفق حسابات إتاحتها وتتيحها له خبرته الأمنية السابقة، وبالرغم من كل التحديات التي يواجهها، بما فيها محاولة زيادة أزمة الكهرباء عبر التدمير المتعمد لأبراجها والقيام بعمليات أرهابية في بعض المحافظات العراقية من جانب عناصر إرهابية مختلفة، فإن الزيارة الأخيرة التي قام بها مصطفى الكاظمي للولايات المتحدة ولقائه مع الرئيس الأمريكي تعد ناجحة إلى حد كبير، ليس فقط؛ لأنها تمخضت عن اتفاق واضح على سحب القوات القتالية الأمريكية من العراق مع آخر أيام هذا العام، وأن ما سيتبقى من عناصر وقوات أمريكية في العراق سيكون بغرض التدريب للقوات العراقية والتعاون الأمني والاستخباري معها ، ولكن أيضا لأن رئيس الوزراء العراقي حقق بذلك رحيل القوات الأمريكية من العراق وهو مطلب لكثير من القوى السياسية والحزبية والاجتماعية العراقية، وهو مطلب إيراني معلن كذلك. ولعله من الأهمية بمكان أن العراق يحاول الآن إرساء علاقاته مع الولايات المتحدة على أسس تخدم المصالح العراقية وبما يحول دون أن تتحول القوات الأمريكية المتبقية في العراق ولا مهامها المتفق عليها إلى عنصر خلاف أو مزايدة ضد حكومة الكاظمي، ولذا كان مهما أن تحظى نتائج زيارة الكاظمي لواشنطن بتأييد القوى السياسية العراقية بما فيها المرجع الشيعي العراقي علي السيستاني الذي يتمتع بمكانة كبيرة في العراق وخارجه.
على أية حال فإنه مع الوضع في الاعتبار أن الانتخابات التشريعية المبكرة في العراق في العاشر من أكتوبر القادم ستؤثر بالضرورة في التركيبة السياسية في العراق ، هذا إذا تمت في موعدها، خاصة وان جدلا عراقيا كبيرا يجري الآن حولها وأن هناك قوى سياسية ذات وزن أعلنت عن مقاطعتها، ومنها كل من مقتدى الصدر، وإياد علاوي ، وصالح المطلك، وكل منهم يقود حزبا سياسيا، فإن رئيس الوزراء العراقي أعلن انه لن يترشح في الانتخابات القادمة وانه سيعمل من أجل أن تكون انتخابات نزيهة، والسؤال الذي يطرح نفسه يدور حول ما إذا كان رئيس الوزراء العراقي سيتمكن من مواصلة جهوده الحثيثة لتقليص ظلال النفوذ السياسي الإقليمي والدولي على الساحة العراقية، أم أن تلك الجهود ذاتها ستكون سببا في الحيلولة دون استمراره في منصبه بشكل أو بآخر في ضوء انتخابات أكتوبر القادم ؟ على صعيد آخر فان ما يجري في العراق الشقيق يؤثر بالضرورة ليس فقط على العراق، ولكن على الوضع الإقليمي الأوسع، ولذا فإنه من المهم والمفيد للعراق وللاستقرار في المنطقة أن تحظى جهود رئيس الوزراء العراقي بأكبر قدر من التأييد والتعاون المثمر من جانب الدول العربية لمواجهة التحديات التي يواجهها العراق وهي تحديات مرئية وغير مرئية أيضا .
ويظل التعاون العراق المصري الأردني مهما ومؤثرا ومفيدا للعراق ولمصر والأردن وللمنطقة ككل، وكانت زيارة وزير الدفاع العراقي جمعة عناد سعدون للقاهرة هذا الأسبوع ذات أهمية كبيرة في هذا الإطار . أما أفغانستان فهي معرضة لفوضى المواجهات المسلحة وتنافس ظلال النفوذ على أرضها .