اليوم العالمي لمكافحة الاتّجار بالبشر بين عبوديّة الماضي وعبوديّة الحاضر
يحتفي العالم في نهاية يوليو في كلّ عام باليوم العالمي لمكافحة الاتّجار بالبشر، والاتّجار بالبشر لم يعد محصورا في تلك الصّورة التّقليديّة [الرّقيق] بل أصبح يشمل كلّ ما يؤثر في مبدأ الكرامة الإنسانيّة، ويتعارض مع حق الإنسان الكينوني الماهي والوجودي قبل الانتماءات أيّا كانت هوّيّاتها ومسمياتها، هذا التّأثير باسم الجنس أو المال أو السّياسة أو المجتمع، بكافّة أنواع الاستغلال والابتزاز.
وهذه الصّور موجودة قديما، وليست وليدة اليوم، إلا أنّها أصبحت حديثة بعد القضاء على الصّورة التّقليديّة، ابتداء من الدّنمارك 1792م، وحتى كتابة الدّستور الأمريكي 1865م، وفي عام 1964م كانت قوانين في أمريكا تحمي البشر وحقوقهم الإنسانيّة في العرق والدّين والجنس.
بيد أنّ تشكل العبوديّة الجديدة لم تنفصل عن العبوديّة القديمة إلا في جانب سلب مطلق الحريّة، فالحريّة قديما سلبت بالكليّة ليعتبر الإنسان جزءا من الملك للسّيد، أمّا اليوم قد تمارس عليه العبوديّة باسم الحريّة نفسها، كما تستغل المرأة وحاجتها للمال عن طريق الجنس، ويستغل هؤلاء الملّاك الجدد قيمة الحريّة في استعبادهن، وكما تستخدم السّياسات في ابتزاز معارضيها باسم الحفاظ على حرّيّات الكراسي وبعض الشّخوص، وكما يحدث أيضا في استغلال الدّول الفقيرة والمنكوبة من قبل شركات جمع المال ليشوّهوا صورة المتسوّل من قطع يده، أو فقع عينه، أو كي رجله، مقابل استغلاله لجمع أكبر قدر من المال مستغلين عاطفة الشّعوب، وهو ذاته ما يحدث في استغلالهم في شركات رأسماليّة كبرى مقابل أجور بسيطة جدّا لا تناسب وكرامتهم الإنسانيّة، وهو ما تقوم به البنوك العالميّة في الارتفاع الفاحش في الفوائد أو المرابحة والمضاربة، مستغلين حاجة الإنسان في تلبية ضرورات حياته، وهكذا دواليك.
والعبوديّة من الانقياد والذّلة، وهي المقابلة للحرّية، والعبوديّة فلسفة قديمة، والحرّية فلسفة معاصرة، لهذا كانت الحريّة بمعنى الحر أي الطّليق، والعبد بمعنى الرّقيق، وهو من باب الاستعارة أي فقد شيئا ملامسا (مضافا) من إنسانيّته، أي الحريّة، فصار رقيقًا مملوكًا لفئة من البشر باسم السّيد.
ولئن كانت الحرّية فلسفة معاصرة، إلا أنّها كقيمة مضافة وجدت مع الإنسان منذ ولادته أو منذ كينونة وجوده الأولى، ومنه قول عمر بن الخطاب [ت 23هـ]: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، بيد أنّ اعتبارها معاصرة لأنّ وضعها كقيمة حاكمة مرتبطة بالفردانيّة جعلها حاكمة اليوم على العديد من الهوّيّات الدّينيّة والمجتمعيّة والسّياسيّة والعرقيّة.
لهذا للعبوديّة من حيث النّظرة الشّموليّة مرجعيتان، مرجعيّة لاهوتيّة، ومرجعيّة إنسانيّة، فالمرجعيّة اللّاهوتيّة لها ثلاثة معاني: العبوديّة التّكوينيّة، أي باعتبار الخالقيّة، فالكون مخلوق لله، والعبيد مصاديق لهذا الخالق، ولهذا يعتبر اللّاهوتيون أن تحقق الحريّة الكاملة في العبوديّة المطلقة للخالق، وليس للمخلوق، ومنها مقولة ربعيّ بن عامر التّميمي [ت ؟]: «جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد»، والمعنى الثّاني: عبوديّة التّذلل والخضوع، ومنها قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) [مريم/ 30]، والمعنى الثّالث: عبوديّة الرّق وهو جانب تشريعي.
وعبوديّة الرّق تعود إلى عشرة آلاف سنة في بلاد ما بين النّهرين، وارتبطت ابتداء بالفلاحة والرّعي (الاقتصاد)، ثمّ تحوّل ذاته إلى مصدر دخل (أسواق الرّقيق أو النّخاسة)، لهذا سيرتبط لاحقا بالجانب العسكري والحربي من جهتين: جهة استرقاق أكبر قدر من البشر ممّا يرفع من قيمة الاقتصاد، ويوفر يدا عاملة، ومن جهة أخرى يكونون درعا بشريّة في الحروب والمعارك، ومع كثرتهم ارتبطوا بالجانب الاجتماعي من حيث الأبهة والخيلاء، ومن حيث استغلالهم جنسيّا سواء كانوا جواري أم غلمانا، فبكثرة الخدم يعرف المستوى الاجتماعي للشّخص حينها، وكلّما كانت الرّتبة أكبر كالملك أو شيخ القبيلة أو تاجر كبير أو عالم راكن إلى الدّنيا أو قاض كان عبيده أكثر ازديادا.
وتطورت هذه الحالة من الفلاحة إلى الوجاهة، جعلها رهينة المجتمع، لا يمكن الانفكاك عنها، فحتّى الفلاسفة القدامى -عدا الرّواقيين اليونان فقد أدانوا الاسترقاق منذ فترة مبكرة-؛ حاولوا تبريرها كما فعل ذلك سقراط [ت 399 ق.م] واعتبرها نظامًا ملائمًا لطبائع البشر، ولم يعتبر أفلاطون [ت 347ق.م] العبد مواطنا صالحا، وعلى النّظريات الإغريقيّة لم يقدّم العرب والمسلمون وهم شراح هذه النّظريات رؤية تقدّميّة؛ زيادة أنّهم تأثروا بالجوانب اللّاهوتيّة أيضا.
والأديان عموما كانت رهينة هذا البعد الاجتماعي عدا ما ذكر عن الأسينيين الغنوصيين اليهود في القرن الثّاني قبل الميلاد حيث حرّموا الرّق منذ فترة مبكرة جدّا، إلا أنّ الأديان الإبراهيميّة عموما ظلّ الرّق حاضرا فيها، فالسّامريون واليهود تنص التّوراة على ذلك، وبالرغم من بكائهم على استعباد المصريين لبني إسرائيل إلا أنّ الرّق ظلّ ملازمًا لملوكهم وقضاتهم وأحبارهم.
وكذا الحال في المسيحيّة مع أنّها ديانية عمّقت الفردانيّة، وجاء المسيح لتحرير الإنسان وخلاصه، إلا أننا نجد في رسالة بولس إلى أهل أفسس يأمر فيها العبيد بطاعة السّادة، [ينظر: إصحاح 6، آية 5-9].
وفي الإسلام لا توجد آية صريحة في تحرير العبيد، بل كانت لهم بعض الأحكام مثلا: عتق رقبة وأحكام اليمين، بيد أنّ القرآن جفف الجانب الحربي، فلم يجعل إلا خيارين: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) [محمّد/4]، إلا أنّ العديد من المفسرين نسخوها بآية السّيف، وأجازوا سبي غير الكتابي والقرشي، فلهذا كانت الفتوحات مصدرًا لهذا الاسترقاق إلى وقت قريب، وصيغت لذلك روايات واجتهادات تبرر الأمر.
ومع ذلك الأديان الإبراهيميّة وإن كانت لم تلغِ عبوديّة الرّقيق، إلا أنّها أوجدت أيضا روحا من الأدبيات في الحفاظ على هذا الفريق من النّاس، وإن كانت مطلقة ذاتها تأثرت بالبعد الاجتماعي والسّياسي، ولكنّها أفضل حالا من الهندوسيّة والبوذيّة خصوصا عند فئة (الكارما)، بيد أنّ السيخيّة تقريبًا أول ديانة ظهرت في القرن السّادس عشر الميلادي مقررة مبدأ المساواة للجميع، وتبعتها البهائيّة في القرن التّاسع عشر الميلادي مقررة مبدأ المساواة في الجنس البشري، إلا أنّه يحسب للسّيخيّة سبقها قبل شيوع الفلسفات الإنسانيّة المعاصرة بقوّة، ومع أنّ السّيخيّة وليدة الهندوسيّة، إلا أنّه لا يستبعد من تأثر الغورو ناناك [ت 1539م] ومن بعده بالمتصوّفة والغنوصيين المسلمين في الهند كفريد الدّين مسعود [ت 1265م]، المشهور ببابا فريد، والغنوصيون المسلمون نظرتهم الإنسانيّة والفردانيّة عموما أفضل حالا من باقي الأرثوذكس المسلمين.
وعموما الأديان الإبراهيمية بعد إلغاء الرّق أحدثت العديد من التّفسيرات التّبريرية، وعلى رأسها التّفسير التّاريخاني، أي أنّ هذه نصوص تأريخيّة نزلت في ظرفيتها، وعالجت القضيّة حسب ذلك الزّمن، وتبقى روحها في تقرير الأدبيات الحافظة للجنس البشري ضدّ أي عبوديّة في صورة أخرى حسب الظّرفيّة الزّمنيّة.
وفي الإسلام خصوصًا وجدت في نهاية القرن التّاسع عشر وحتّى اليوم ثلاث نظريات كبرى مخالفة للنّظرة الكلاسيكيّة الّتي ترى أنّ النّصوص مطلقة، وقد تعود الحالة يومًا ما مرة أخرى، فيترتب عليها ذات الأحكام من عتق رقبة ومكاتبة وأحكام العبيد والإماء، وأول هذه النّظريات -حسب علمي- نظريّة عبدالرّحمن الكواكبي [ت 1902م]، والّذي يرى أنّ الإسلام جاء لتحرير العبيد كلّيا، إلا أنّه استخدم أسلوب التّدرج، فجفف المنبع الرّئيسي وهو الحرب، فجعل للأسير خيارين (المن) أي الحريّة، (والفداء) أي تبادل الأسرى، ثمّ شرّع المكاتبة أي حق العبد في تحرير نفسه مقابل المال، وجعل العتق كفارة حتى في أضعف الأحكام كاليمين المرسلة، بجانب الأدبيات الواردة في الحث على تحرير العبيد، ولهذا يرى الكواكبي أنّ ما فعلته أوروبا من منع تجارة الرّقيق يطابق أصل الإسلام حيث يقول: «الشّريعة الإسلاميّة وعلماؤها الأحرار يشكرون أروبا على منعها الرّقيق، وهم مسرورون من نجاح سعيها لتحقيقه، ويتمنون لو أنّ أروبا تهتدي إلى وسيلة تكون قاطعة مانعة بها يسد باب الرّقيق بالكليّة» [الأعمال الكاملة للكواكبي، ص: 554].
واشتهرت نظريّة التّدرج عند الكواكبي في عموم الفكر الإسلامي لاحقا إلى أن ظهرت النّظريّة القرآنيّة والّتي تفرق عن الأولى أنّها لا تعتد بزيادات الرّواة وتفسيراتهم، فهذه ترى أنّ القرآن من الابتداء منع الرّقيق من خلال سورة محمّد من حيث مصدر الرّقيق، كما أوجد أدبيات في الإسراع في تحريرهم كالمكاتبة وعتق رقبة من حيث الواقع الاجتماعيّ، وأمّا آيات ملك الأيمان فليست في الرّقيق، وفسّرت في ذلك لأغراض مجتمعيّة تبرر الواقع الاجتماعي لاحقًا، لتتولد النّظريّة التّأريخيّة في نهايات العقد الثّاني من القرن العشرين، وتقترب من التّفسير التّأريخي عند اليهود والمسيحيين، فتجعل هذه النّصوص لظرفيّة زمنيّة سابقة لا علاقة لها بزمننا.
وما ذكرته من المرجعيّة اللّاهوتيّة للحرّية يقابلها المرجعيّة الإنسانيّة، فيرى هذا الفريق أنّ الحرّيّة بارتباطها بالذّات الوجوديّة عند الإنسان كينونة أو ولادة هي الحاكمة والمرشدة للهوّيات المجتمعيّة، وعليه يجب أن يدار الشّأن العام بقوانينه بما يحفظ حرّية هذه الذّات، وتحقيق قيمتها الإنسانيّة كانت مطلقة أو مقيدة وفق القانون المرتضى، والمنبثق من الشّعوب ذاتها، لا أن يكون رهين هوّيّات مجتمعيّة، أو تفاسير ماضويّة، ومع هذا رغم ما أحدثته هذه النّظريات الإنسانيّة من فارق كبير جدّا في حقوق الإنسان، إلا أنّ بعضها استغل سلبيّا وفق عبوديّة أخرى، كما استغل النّازيون نظرية الإنسان الأعلى عند نيتشه [ت 1900م]، وهو ذاته ما استغله الغنوصيون من نظريّة الإنسان الكامل عند عبدالكريم الجيلي [ت 826هـ/1424م]، لهذا جميل أن يجعل اليوم العالمي لمكافحة الاتّجار بالبشر يومًا لمراجعة العبوديّة في صورها الجديدة الّتي لن تتوقف ما لم يتشبع العالم بالحرّيّة الوجوديّة للإنسان.