الفشل الأمريكي في أفغانستان من يدفع ثمنه؟
أ.د. حسني محمد نصر
لم ينس الأمريكيون ما حدث في آخر أيامهم في فيتنام عندما قرروا الخروج منها وهم يجرون أذيال الهزيمة. ما زالت مشاهد المروحيات التي قامت بإجلاء آخر من بقي من موظفي السفارة الأمريكية في سايجون في التاسع والعشرين من أبريل عام 1975 ماثلة في أذهان من عايشوا هذه النكسة. كان موظفو السفارة والمدنيون الفيتناميون الجنوبيون الذين تعاونوا مع الأمريكيين يتسلقون الجدران في محاولات يائسة للوصول إلى المروحيات، ويصرخون طلبا للمساعدة بعد اقتراب القوات الفيتنامية الشمالية من العاصمة.
ها هو نفس المشهد يتكرر مرة أخرى، في أفغانستان التي دخلوها منذ عشرين عاما بهدف القضاء على حركة طالبان، وتنظيم القاعدة، وها هم يخرجون منها دون أن يتحقق لهم ما أرادوا. وبعد أطول نزاع مسلح في تاريخها لم تنتصر الولايات المتحدة، وتكبد الجيش الأمريكي خسائر فادحة في الأرواح تقدرها بعض المصادر بأكثر من 2448 قتيلا، بالإضافة إلى 3846 من المتعاقدين مع الجيش و1144 من قوات حلف الناتو. والتهمت الحرب الخاسرة أكثر من تريليون دولار. بالتأكيد لم يكن الرئيس جورج بوش الابن ووزير دفاعه ديك تشيني يتوقعون هذا الخروج وهم يشنون حربهم على أفغانستان في إطار ما أسمياه وقتها الحرب على الإرهاب، في أعقاب تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001.
المشكلة في أمريكا ليست في الهزيمة، فقد اعتادت عليها في كل تدخلاتها العسكرية الخارجية، التي لم تنتصر في أي منها، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
المشكلة الكبرى في الخروج المتسرع تنفيذا للوعد الانتخابي الذي قطعه الرئيس الأمريكي جو بايدن بحلول الحادي والثلاثين من الشهر الجاري. هذا الخروج الذي تم على عجل فرصة لحركة طالبان، التي استعادت قدراتها فور قبول الأمريكيين الجلوس معها على طاولة المفاوضات في 2019، لم تكن تحلم بها للعودة إلى إحكام سيطرتها على البلاد، وبالتالي العودة إلى الحكم.
وقد تزايد نفوذ الحركة في السنوات الأخيرة بعد أن أجبرت عملياتها ضد الحكومة الأفغانية الولايات المتحدة على توقيع اتفاق سلام معها في فبراير من العام الماضي، وافقت فيه هي وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي «الناتو»، على سحب جميع القوات الغربية في مقابل التزام حركة طالبان بعدم السماح لتنظيم القاعدة أو أي جماعة متشددة أخرى بالعمل انطلاقا من المناطق التي تسيطر عليها.
في الأيام الأخيرة تساقطت المدن والأقاليم الأفغانية واحدة تلو الأخرى في أيدي الحركة حتى بدون قتال، وانتهى الأمر بدخولها بسلام إلى العاصمة، والقصر الرئاسي.. لم تستطع الولايات المتحدة تجنب سقوط كابول مثلما سقطت قبلها سايجون، ولم تستطع أن تمنع تكرار مشهد حشود المواطنين الأفغان وهم يجتاحون مطار كابول بحثا عن مخرج قبل وصول قوات طالبان، مثلما حدث قبل 47 عاما في سايجون؟ واقع الحال يقول إن طالبان استثمرت الانسحاب الأمريكي والغربي من أفغانستان وبسرعة لم تكن في الحسبان، واستطاعت أن تستولي في أيام قليلة على مساحات واسعة من الأراضي وأتمت مهمتها بالاستيلاء على كابول العاصمة، الأحد الماضي.
الرعب الأمريكي مما يمكن أن يحدث حال دخول طالبان العاصمة قبل نهاية أغسطس الجاري، وهو الموعد الرسمي لإكمال إخراج الأمريكيين منها، دفعت الرئيس بايدن قبل أيام لنقل قوات أمريكية من الكويت إلى كابول فقط للمساعدة في إجلاء موظفي السفارة الأمريكية، وقبلها تم إخراج أعداد كبيرة من الأفغان المتعاونين معهم مثل المترجمين والموردين، والبحث لهم عن ملاذ آمن لهم في دول أخرى مثل أستراليا وألبانيا، إلى حين نقلهم إلى الولايات المتحدة. وتأخرت دعوة بعض الصحفيين الأمريكيين للرئيس بايدن إلى التدخل للحد من الآثار الكارثية للفشل العسكري الأمريكي الهائل في أفغانستان، وذلك من خلال الإبقاء على وجود عسكري أمريكي لمدة من الوقت لتقديم الدعم والإسناد للقوات الحكومية الأفغانية، خاصة الغطاء الجوي الذي يمكنها من إعاقة تقدم طالبان، خاصة بعد أن تدفق الآلاف من المهاجرين الأفغان إلى الدول المجاورة ، بالإضافة إلى عدم الخروج قبل تأمين وجود قاعدة عسكرية أمريكية دائمة وجيدة التجهيز وذات موقع استراتيجي في أفغانستان.
يحق للعالم كله بعد عشرين عاما من دخول الأمريكيين أفغانستان أن يتساءل عما جنته أطراف هذا الصراع من مكاسب؟ وهل تغير شيء في موازين القوى نتيجة هذا التدخل الأمريكي الفاشل؟ على المستوى الأفغاني انتصرت سياسة الصبر والنفس الطويل التي اتبعتها طالبان على الآلة العسكرية الجبارة. كانت الحركة تدرك جيدا أن الوقت في صالحها، وأن الأمريكيين سيرحلون يوما ما ويتركون لهم كل ما جلبوه معهم من معدات عسكرية متقدمة قدموها للجيش الأفغاني، واستحوذت عليها طالبان بالفعل فور خروج الأمريكيين. أصبحت طالبان أكثر قوة وأصبح خطرها أكبر، خاصة على جيران أفغانستان، وربما على العالم كله ما لم تغير نهجها وتستفيد من أخطاء ما قبل الغزو الأمريكي. صحيح أن الاحتلال الأمريكي لأفغانستان نجح في الحد من الهجمات الإرهابية التي كان يتم التخطيط لها في أفغانستان، ومع هذا فإن الثمن كان باهظا. على الجانب الآخر حاولت الولايات المتحدة إنشاء هيكل سياسي وثقافي جديد على النمط الغربي في أفغانستان لا يتوافق مع ثقافة الشعب، وهو ما جعل المؤسسات السياسية وعلى رأسها الحكومة هشة وضعيفة وغير مستقرة، ومعرضة للسقوط في أية لحظة. ويصدق نفس الأمر على قوات الجيش وقوات الأمن التي بذلت الولايات المتحدة جهدا كبيرا لتشكيلها وتدريبها وتسليحها. وكشفت أحداث الأيام الأخيرة أنها أضعف من أن تقف في وجه طالبان. وقد تكشفت هذه الحقيقة في الأيام الأخيرة حيث لم تدافع قوات الأمن الأفغانية عن نفسها.
الشعب الأفغاني كان هو الضحية الأولى سواء عند دخول الولايات المتحدة أو عند خروجها. ويقدر تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية نشر الشهر الماضي أن قرابة 111 ألف مدني، بالإضافة إلى أكثر من 60 ألفا من أفراد القوات المسلحة الأفغانية قد قتلوا أو جرحوا منذ أن بدأت الأمم المتحدة بتوثيق أرقام الخسائر البشرية في صفوف المدنيين في عام 2009. الغريب في الأمر أن الأمريكيين، أو بالأصح المسيطرين على المؤسسات السياسية والعسكرية في الولايات المتحدة يفعلون كل ذلك بشعوب العالم، ثم يتساءلون ببراءة «لماذا يكرهوننا؟» لقد ذاقت الولايات المتحدة مرارة هزيمة جديدة في أفغانستان كبدتها خسائر هائلة في الأرواح والأموال، لم يكسب منها سوى السياسيين وجنرالات الجيش وشركات الأسلحة، ولذلك فإن عليها أن تعيد النظر في مستقبل صراعاتها الخارجية، فالذين أخذوها إلى فيتنام وأفغانستان والعراق يحاولون الآن جرها إلى مغامرة جديدة مع إيران، والتي إذا حدثت- لا قدر الله- ستكون مواجهة أكثر دموية، وإن كانت حصيلتها منها ستكون- في تقديري- نفس حصيلتها في فيتنام وأفغانستان.
على الولايات المتحدة أن تدرك أن العالم ليس لها وحدها، وأن القوة العسكرية لا تحل كل المشاكل، وأن تتخلى عن فكرة كونها شرطي العالم، وتتوقف عن محاولة فرض إرادتها على الجميع، وأن تتعلم كيف تتعايش مع العالم دون حروب. ولعل الأهم من ذلك كله أن تقول لشعبها وللعالم من الذي سيدفع ثمن هذا الفشل وتلك الهزيمة؟.