كاتب ألماني رصد مشاهد من صعيد مصر والصحراء والبحر الأحمر في القرن التاسع عشر
القاهرة "د.ب.أ حرص الكثيرون من الرحالة والمستشرقين الغربيين، والأجانب الذين زاروا مصر وعملوا بها وأقاموا بين ربوعها، على توثيق مظاهر الحياة اليومية للمصريين، ورسموا من خلال كتاباتهم ورسومهم عمائرها وشوارعها وحاراتها ودروبها، وعادات الناس وتقاليدهم وملابسهم واحتفالاتهم.
و "كارل بنيامين كلونتسنجر"، الطبيب الألماني الذي عمل طبيبا للصحة المصرية بمدينة القصير المطلة على سواحل البحر الأحمر، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واحد من هؤلاء الذين نقلوا لنا الكثير من مظاهر الحياة في مصر قبل قرابة 150 عاما مضت، حيث جال " كلونتسنجر"، في مدن صعيد مصر، وما قابلها من مدن مصرية مطلة على شواطئ البحر الأحمر، وامتدت جولاته إلى المناطق الصحراوية المتاخمة لتلك المدن.
وقد جمع الطبيب البريطاني مشاهداته في صعيد مصر والصحراء والبحر الأحمر في كتاب صدر في طبعتين متتاليتين متطابقتين في النص، في عامين متتاليين: الأولى في برلين بالألمانية سنة 1877، تحت عنوان مختصر هو "مشاهد من صعيد مصر والصحراء والبحر الأحمر"، والأخرى في لندن بالإنجليزية سنة 1878، وعنوانها مطول مفصل هو "صعيد مصر: أهله ومنتجاته. تقرير وصفي عن عادات أهل وادي النيل والصحراء وساحل البحر الأحمر وتقاليدهم وخرافاتهم، مع صور وصفية عن التاريخ الطبيعي والجيولوجيا".
وقد جاء الكتاب في سبعة فصول حملت العناوين التالية: "أربعة أيام في مدينة إقليمية"، و "السفر في البر والنهر"، و"أيام العمل والعطلات والأفراح والأتراح"، و"الصحراء"، و "عن البحر الأحمر"، و"كنوز البحر الأحمر الطبيعية"، و"الاعتقادات والخرافات الشائعة".
وحول الكتاب ومؤلفه، يقول المترجم الدكتور محمد عبد الغني، ان الألماني "كارل بنيامين كلونتسنجر"، هو عالم موسوعي من علماء القرن التاسع عشر، وأن القارىء لكتابه " مشاهد من صعيد مصر والصحراء والبحر الأحمر"، سوف يتصور بمجرد النظر لغلاف الكتاب، أن حديث مؤلفه كارل بنيامين كلونتسنجر، سوف يقتصر على وصف عادات "المصريين المحدثين" في الصعيد وحياتهم فحسب، على نحو ما فعله من قبل إدوارد وليم لين، لكن " كلونتسنجر" يتنقل بنا في ثنايا فصول كتابه السبعة بين علوم شتى يكاد يتقنها جميعًا.
فتارة يتقمص شخصية الأنثروبولوجي، فيتفحص أهل الصعيد وسماتهم الشكلية وعاداتهم ومعتقداتهم، ثم يصف منازلهم معززًا وصفه بمسقط أفقي متقن على غرار ما يرسمه المهندسون، ثم يتحدث كعالم نبات متبحر، قبل أن ينعطف بنا على شيء من الجيولوجيا، ثم شيء من علم الأرصاد الجوية، ثم يستخدم أسماء الطبقات الأوبرالية والأوزان الشعرية في عدة مواضع كاشفًا عن معارفه الموسيقية والشعرية، وينعطف بنا إلى وصف الأجرام السماوية ومواقع النجوم كأي فلكي محنك، ذاكرًا أسماءها العربية واللاتينية. وفجأة يتذكر أنه جاء إلى هذه البلاد طبيبًا في الأساس فيرتدي معطف الطبيب قليلًا، ثم يسارع فيخلعه ليصف حيوانات الصحراء وصفًا ينمُّ عن دراسة معمَّقة، لكنه في غضون ذلك لا ينسى علم البحار، شغفه الأول وسبب خلود ذِكره في الأوساط العلمية حتى اليوم، فيخصص فصلًا كاملًا لأسماك البحر الأحمر وأحيائه بمختلف مواقعها على سُلّم المملكة الحيوانية، ويختتم كتابه بفصل كامل عن الاعتقادات والخرافات التي كانت شائعة بين المصريين في زمانه، فيتحدث عن الأعمال السفلية والزار وتحضير الأرواح وحجاب المحبة وفتح المندل، وعن اعتقاد المصريين في الحسد والجن والقرينة، ويصف كل ذلك وصف من رأى، لا مَن سمع.
وفي مقدمة كتابه، يقول كارل بنيامين كلونتسنجر: هائل هو فيض الكتابات التي تدفقت منذ القِدم، عن أرض النيل المقدس الرائعة، ومع ذلك فنحن أبعد ما نكون عن التباهي بمعرفة مصر معرفة تامة".
وبحسب مترجم الكتاب، فإن "كلونتسنجر" يختلف عن أغلب من كتبوا عن صعيد مصر من الغربيين في زمانه، فهو يكاد يكون الأوروبي الوحيد في زمانه الذي قصر دراسته على الصعيد ولم يجلس في برج عاجي في القاهرة كاتبًا عن أهل العاصمة وما حولها، أو يسترخي تحت شمس الصعيد في "دهبية" في النيل كاتبًا ـ من بعيد ـ عن فلاحين يشاهدهم من بعيد على ضفاف النيل، أو يقتصر في "مشاهداته" على وصف الحجر دون البشر، ووصف أطلال طيبة دون وصف أهلها. هكذا كانت معظم كتابات الرحالة الأوروبيين عن الصعيد آنذاك.
لكن وبحسب مقدمة المترجم، فإن دراسة "كلونتسنجر" كانت دراسة ميدانية معمقة: اندمج بين الناس، وتكلم لغتهم كواحد منهم، فعرف عاداتهم وتقاليدهم وخرافاتهم وآلامهم وآمالهم، وأكل على موائدهم. وقد أدرك هو أهمية ذلك فكتب في مقدمة كتابه "لا يتسنى الحصول على الملاحظات والأحكام الدقيقة بنظرة عامة، بل بحياة ألفة تُعاش مع الأهالي كواحد منهم"، وكان ينظر في ذلك كله ـ أو لنقل في معظمه ـ بعين العالِم الموضوعي، لا بعين الأوروبي المتفوق الذي يدرس "عينة" من أجلاف الشرق، كما ساد في كتابات الغربيين عن الشرق وعن إفريقيا في زمانه. والواقع أن هذا الكتاب قد لا يقل ـ في أهميته وتعمقه في دراسة صعيد مصر ـ عن كتاب إدوارد وليم لين القيم "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم"، الذي اقتصرت دراسته للمصريين في معظمه على أهل العاصمة وما حولها، بينما اقتصر كتابنا هذا على أهل الصعيد وما يناظره من سواحل البحر الأحمر.
يُذكر أن كارل بنيامين كلونتسنجر قد ولد سنة 1834، وتلقى تعليمه الطبي في ألمانيا، ثم تلقى دروسًا في علمي الجيولوجيا والحيوان في فيينا وبراغ. ولم يكن بعد قد بلغ الثلاثين حين قرر أن يسافر إلى مصر سنة 1863 لدراسة الأحياء البحرية.
لكن الشاب المتعطش إلى المعرفة لم يكتفِ حين جاء إلى مصر بدراسة الأسماك والقشريات والمرجان، بل شرع في تفحُّص البشر، بعد أن قضى عامًا ونصف عام في دراسة لغتهم كي يفهمهم بلا وسيط، فكان دقيقًا في مشاهداته عن الناس دقة الطبيب الفاحص، والعالِم المستقصي.
واستقر به المقام في مدينة القصير الساحلية، حيث عينته الحكومة الخديوية في فبراير 1864 طبيبًا للصحة والحجر الصحي. في القصير عاش كلونتسنجر فترتين: الأولى بين عامي 1864 و1869، والثانية بين عامي 1872 و1875.
