أفكار وآراء

إنْ الشرطية.. مساحة أفقية من تكافؤ الفرص

28 أبريل 2019
28 أبريل 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

عندما تجتمع الـ «إن الشرطية» مع فعلها، كمثال: «إن تذاكر تنجح» فليس معنى ذلك حضور مفهوم المقايضة التي يراها البعض من السياق العام للجملة، وإنما يذهب المعنى الى كثير من العمق الدلالي، لأن النجاح هنا لا يسجل حالة فردية لمفهوم النجاح ذاته للفعل المشار إليه «المذاكرة» وإنما يذهب أكثر الى كثير من أنشطة الحياة التي نمارسها.

لن نناقش هنا الدلالات اللغوية، واللفظية، والبلاغية، بتعريفاتها العلمية الصرفة، ولا العنايات الخاصة التي يعمل من خلالها البلاغيون في شأن «إن الشرطية» فهذه مسألة مختلفة تماما في هذه اللحظة، وإنما ستكون المناقشة هنا؛ كما يقول معدو البرامج الإخبارية؛ «لما وراء الخبر» وإنما آتي هنا باللفظ المجرد لـ «إن الشرطية» للدلالة الكبرى لما تتضمنه هذه الـ «إن الشرطية» من معان غاية في الروعة، وما تعطيه من مساحات؛ ليست فارغة المحتوى؛ ولكن متسعة الدلالات والمعاني الجميلة والرائعة، ربما قد لا نلتفت إليها في زحمة مشاغلنا، وإن كان هناك من يوليها الاهتمام الكبير، ويختزنها ذخيرة معرفية على قدر كبير من الأهمية، فالملاحظ البلاغية في كثير من الجمل التي أتت فيها الـ «إن الشرطية» كثيرة، وينظر إليها من خلال الجمل التي تضمنها كل في مثاله الذي جاء به، فكثير من جمل القرآن الكريم جاءت على هذا النحو أو غيره، وعندما نسترشد بمثال واحد كقوله تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم...) هو واحد من أمثلة كثيرة، وفي حياتنا اليومية الكثير من الألفاظ التي تأتي فيها الـ «إن الشرطية» مثال ذلك: «إن تذاكر تنجح»، « إن تعترف بخطئك تنج من العقوبة المغلظة» وعندنا جميعا ما لا يحصى من الأمثلة التي تحتل فيها الـ «إن الشرطية» الصدارة كلفظة حاضرة على الألسن، ولكن دلالاتها المختلفة تذهب بعيدا الى حيث المعاني المرتبطة بحياتنا اليومية، وهذا كله يؤرخ لهذه اللغة التي حفظها الله تعالى بنزول القرآن الكريم باللغة العربية، وبذلك لا خوف عليها، ولا على أبنائها المخلصين من التغريب، والتشويه، وتعاظم القوى التي تريد أن تحجّم الدور الذي تلعبه هذه اللغة في الشأن العام لحياة من يعتنقها، ويجزم بضرورة بقائها واستمرارها، باعتبارها العنوان الكبير لهوية الإنسان العربي على وجه الخصوص، وللضرورات التعبدية عند المسلمين عموما.

عندما تجتمع الـ «إن الشرطية» مع فعلها، كمثال: «إن تذاكر تنجح» فليس معنى ذلك حضور مفهوم المقايضة التي يراها البعض من السياق العام للجملة، وإنما يذهب المعنى الى كثير من العمق الدلالي، لأن النجاح هنا لا يسجل حالة فردية لمفهوم النجاح ذاته للفعل المشار إليه «المذاكرة» وإنما يذهب أكثر الى كثير من أنشطة الحياة التي نمارسها، ومن يستعذب طعم النجاح، يقينا لن يكتفي بمجال واحد، وإنما ستأخذه ثيمة النجاح إلى كثير من الممارسات التي يمكنه أن يسجل فيها نجاحا مميزا، ومن أمثلة ذلك ما تم تداوله الأسبوع الماضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عبر صفحة «تويتر»، حيث تروي القصة كاتبة التغريدة بقولها كما هو النص: «موقف من قلب جلسات التدريب اليوم: معلم أول يحكي لنا حكاية طالب لديه بالصف السابع مستواه التحصيلي متدن جدا مما اضطرهم إلى طلب مقابلة ولي أمره ليكتشفوا أن الطالب مشغول ببزنس بيع المشاكيك حيث يبلغ دخل الطالب الشهري 1200 ريال بمعدل 40 ريالا يوميا ولا يجد الوقت للمذاكرة» – انتهى النص – وقد استكملت التغريدة بأن طلب من ولي أمر الطالب تخصيص وقت للمذاكرة، مع العودة الى ممارسة هذه المهنة بعد أداء الواجبات المدرسية، حيث ارتفع – كما ذكر – مستوى الطالب الدراسي، فاتساع رقعة النجاح لدى هذا الطالب، هو ما يفضي الى عدم اختزال الجهد لوجه واحد من أنشطة الحياة اليومية، وهذا يعكس في الوقت نفسه اتساع رقعة الممارسات التي نقوم بها في يومنا ما بين التزامات أسرية، ووظيفية، واجتماعية، وأنشطة خاصة، هي التي تؤرخ لنا نجاحات مختلفة على المستويين الأفقي والرأسي، ويصنفنا ضمن الأفراد الناجحين في حياتهم اليومية، انعكاسا لذات الشرط «إن تذاكر؛ تنجح».

هناك الكثير من الإسقاطات التي يمكن احتسابها على المسألة الشرطية في العلاقة بين أي طرفين، وعندما نأتي؛ هنا؛ ببعض الأمثلة، فإنها للاستدلال فقط على ما تتضمنه الـ «إن الشرطية» في حياتنا اليومية، وليس فقط على الشاهد النحوي المرتبط مباشرة بمناخات توظيفها في الدلالات اللغوية المختلفة، فالحياة؛ في عموميتها؛ تقوم على التكافؤ، واقتسام الأحمال في أية بيئة تشاركية قائمة بين أي طرفين، سواء هذان الطرفان مفردان، أو جماعتان تضمان عددا من الأفراد، وبغير هذا التكافؤ على القائم على الـ «إن الشرطية» لن تستقيم الحياة في مضامينها المختلفة، فليس هناك عطاء لا يكافئه مقابل، كما هو الحال: حق يقابله واجب، وكما هو الكون: هناك ليل يعقبه نهار، وكما هو واقع الحال عند كل البشر، بعد العسر يسرا، وبعد الشدة رخاء، وبين كل هذه الدلالات المعنوية واللغوية تبقى هناك الحقيقة النسبية في المسألة التكافئية، حيث «لا ضرر ولا ضرار» والنسبية ليست حالة مطلقة؛ كما يدركها الجميع؛ فمجموعة التناقضات التي نعيشها في حياتنا اليومية، والتي نمارسها بوعي، أو من غير وعي في كثير من الأحيان، نحتكم في بدايتها على الـ «إن الشرطية» ولكن بعد أن نتجاوز مرحلة الخطر، تأتي الممارسة مناقضة لكل الشروط التي تعهدنا بتنفيذها مع بداية الانطلاقة، فكم أقسمنا من الأيمان، وكم أعطينا من العهود والمواثيق، وكم ألزمنا أنفسنا بقبول كثير من الشروط، كل ذلك لأن نقوم بما يمليه علينا الواجب، سواء تجاه شخص ما، او مؤسسة، أو حتى وطن، ولكن في لحظات من عمر تاريخنا الإنساني «المتقلب» حيث هوى النفس، فلم يعد لكل ذلك أثر على الواقع، وظلت الـ «إن الشرطية» إن أنزلناها منزلة العاقل مصدومة من هذه المفارقات ما بين القول والعمل، والتناقضات في توظيف القيم الإنسانية: الصدق، الأمانة، الشفافية، الحيادية، الوفاء بالوعد، الخيانة، ذلك أن الإنسان متقلب المزاج، ومن هنا تأتي الضرورة الى وجوب تأكيد جميع الالتزامات المترتبة على الإنسان أن تكون مكتوبة، أي يكون عليها دليل مادي يحتكم عليه في حالة الضرورة، أما الالتزامات الشفوية، فينطبق عليها قول القائل: «كلام الليل مختوم بشمع؛ يذوب الشمع إذا طلع النهار» لأن الطبيعة البشرية تنبئ أنه إذا وجدت القوة في جوانب لدى هذا الإنسان، أسقطها الضعف في جوانب أخرى لتظل الحالة على توازنها، أو تكافؤها، ويظل مفهوم الـ «إن الشرطية» قائما على «إن تفعل كذا، تجد كذا» في حالة من تكافؤ الفرص على امتداد حيواتنا اليومية.

يركن البعض في الاستدلال على مواجهة هذه الصورة، أو يناقضها، عندما ينحاز الى الأعمال التطوعية، التي تخلو من مفهوم المكافأة المباشرة، أو الندية، أو التكافؤ، فعندما يقدم أحدنا على ممارسة عمل تطوعي ما، في الغالب لا يهمه كثيرا، أو لا يضع شرطا للمكافأة، أو التقدير المادي المباشر، وبالتالي فهنا ينتفي الشرط المقترن بـ «إن الشرطية» ففي تقييمه الذي ارتكن عليه لأداء هذا العمل هو رضا الله سبحانه وتعالى، وكفى، ولكن حتى في هذه الصورة، التي لا يطالب فيها من يشاركهم هذا الجهد بشرطية المكافأة، ولكن، أكيد، هو يذهب إلى ما هو أسمى في هذا التقدير، وهو رضا الله سبحانه وتعالى، ولذلك ليس يسيرا الانعتاق المطلق لوسوسة النفس في شأن المكافأة أو المقابل، ولذلك ينظر؛ حتى في هذا الجانب؛ هو تسيّد الـ «إن الشرطية» على مشهد العلاقة بين أي طرفين تجمعهما مصلحة مشتركة، حتى وإن ناور البعض من أن عمله خالص مخلص من أي تفكير في المقابل.

ربما تكون الحالة الـ «ندية» هي الممقوتة هنا، أو غير المستحسنة عند البعض، وهي المرتبطة بفعلي الشرط، ومن أمثلة ذلك: «إن تزرني؛ أزرك»، «إن تحترمني؛ احترمك»، «إن تؤازرني؛ أؤازرك»، «إن ترافقني اليوم؛ أرافقك غدا»، «إن تسأل عني؛ أسأل عنك» وإن حذف جواب الشرط، كما في قول أحدهم: «إن لم تكن معي؛ فأنت عدوي» وقس على ذلك أمثلة كثيرة، والموضوع بأبعاده المختلفة يحمل الكثير من الدلالات المعنوية، والمناخات الإنسانية، وهو موضوع ليس يسيرا هضمه، ويحتاج إلى كثير من الجهد المعرفي، حتى تنبسط صوره، وتكون في متناول الفهم، لكن ما تم طرحه من أمثلة، لعلها تقترب كثيرا من بعض زواياه، وفي ذلك (فليتنافس المتنافسون).