طبول الوادي لعبة الثنائيات وعكاز الأضداد
تأتي رواية «طبول الوادي» لمحمود الرحبي الصادرة عن دار أوكسجين، (2023) في سياق اشتغاله فيما يمكن تسميته بـ«أدب الهامش»، واستكمالا لما بدأه في روايته السابقة (المموه)، والبحث عن أحلام البسطاء وأوجاعهم، وطرح أسئلة الإنسان المعاصر وهواجسه، الأسئلة البسيطة/ المعقدة؛ فطبول الوادي تذهب إلى هذه الأسئلة المقلقة لهذا الإنسان الحالم بحياة أخرى؛ حياة تُحرّك الماديات جوانبها وجريانها. يذهب محمود الرحبي إلى الطبقة الهامشية ليقرأ المجتمع، ويستنطق المسكوت عنه، في منطقتين مختلفتين جغرافيا، منطقة النشأة والتكوين، ومنطقة الحلم والحرية، وبين زمنين، زمن القرية الراكد وزمن المدينة الهادر المتغير.
العتبة الأولى
العنوان يطرح في داخله تضادا، فالطبول تحيل على الضجيج، الطبول تهدر بالأصوات، وهذه الأصوات لها القدرة على تحريك الأجساد والأفكار والمشاعر، أما الوادي فيحيل على الهدوء، والسكون، فالأودية تسكن القلق والضجيج، وتمتص تعب الهاربين من ضجيج الحياة. فالعنوان يحمل الضدية، وهذه الضدية ضرورية لتحريك السرد وحياة الشخصيات، فسالم القادم من منطقة السكون إلى الضجيج، وزهران القادم من ضجيج التجربة، والذاهب إلى سكون الحياة.
جاءت الطبول بصيغة الجمع، وجاء الوادي بصيغة المفرد. أي وادٍ هذا الذي تقرع فيه طبول الأسئلة والهواجس؟ أهو وادي عدي أم وادي السحتن؟ هل تقرع الطبول في سكون القرى ورتابتها أم في ضجيج المدن وزيفها؟ هل يمتص الوادي ضجيج الطبول، أم تفجر الطبول سكون الوادي؟
كذلك يمكن أن نضع احتمالات للشخصيات: أهي طبول زهران التي كانت تقرع في وادي السحتن أم طبول سالم فوق سطوح وادي عدي؟
ظل العنوان متعلقا بالمبتدأ ـ دون أن يخبرنا- على ماذا تحيل هذه الطبول؟ فخبر الطبول غائب من العتبة الأولى، ولكن سيخبرنا المتن الروائي عن حال هذه الطبول وأحوالها؛ أهي طبول للفرح أم طبول للحرب؟ وهل كان سالم ولد الشيخ محسن قاتلا في هذه الحرب، (حرب غير مرئية) أم مقتولا؟
اللون الأزرق الذي احتل معظم مساحة غلاف الرواية، يحمل فوق رأسه بيوتا، وجزءا من مدينة تتلون بالبياض، صورة البيوت المتلاصقة والمتلاحمة تُشير إلى حقبة زمنية معيّنة، فللمعمار زمنه، فأجهزة التكيف المزروعة في الجدران، كشفت لنا أن زمن المعمار كان في حقبة التسعينات من القرن المنصرم، فهل تطابق زمن الغلاف مع زمن السرد؟ أم لكل شيء زمنه، وربما المكان الذي يشير إليه الغلاف هو مكان أحداث الرواية.
سؤال الحرية والخوف
طرحت الرواية في جوهرها سؤالا قديما/ جديدا/ متجددا، الحرية، وما تمثله هذه القيمة لدى الإنسان، وحدودها، ومظاهرها، فما نراه شيئا عاديا لدى شعب ما، وثقافة ما، سنجده شيئا صعب المنال لدى شعب آخر، وثقافة أخرى.
فالحرية من القيم التي شغلت الإنسان وأقلقته، ونُوقشت من الفلاسفة والمنظرين، وظلّت هذه القيمة تشغل وجدان الإنسان؛ لأن أعداءها كُثر، وهل الحرية ضرورة وجوديّة أم أنها ترف؟ هل تتحقق الحرية في مناخات الخوف؟ الحرية التي ينشدها سالم تختلط برغبة التمرد، التمرد النابع من البحث عن الملذات، فلحظة الزمن والمكان لم تساعد سالم للوصول إلى لحظة التمرد التي ينشدها، لحظة تمرد كانت ردة فعل للتعامل القاسي للأب، فالأب له منظوره الخاص في التربية، وسالم كانت له عوالمه الخاصة التي اصطدمت مع قسوة الأب؛ مما جعل هذا الاصطدام بين الحالتين/ العالمين يفجر صيرورة السرد، فالرصاصة الطائشة من بندقية الأب جعلت سالم يطير ويهرب إلى مكان لم يختره، فقط الصدفة هي من قادته، الصدفة اختارت المكان لسالم، ولكن الكاتب لم تحركه الصدفة في اختيار وادي عدي. فوادي عدي يمثل نقط التقاء عدة أعراق، مكان يكتظ بالبشر واللغات والمصائر، فالهارب من رصاصة الأب وجد نفسه في هذا الخليط العجيب.
حاولت رواية «طبول الوادي» أن تقترب فنًّا وسردًا من الأسئلة السابقة؟ متخذة من مكانين مختلفين جغرافيا للكشف عن تغير قيمة الحرية وأنساقها (وادي السحتن، ووادي عدي) بين ثنائية المدينة والقرية، وأداة الاختبار والكشف عن التدخين، فهذا الفعل كاد أن ينهي حياة بطل الرواية (سالم)، عندما كشفه والده، لم يكتف بالضرب المبرح، وقبل الضرب ورغبة القتل، كان تدخين سيجارة واحدة يُكلّف سالم الكثير من المتاعب والمشاق، أحيانا ينزل إلى بئر، أو يتسلق نخلة بعيدة، أو يصعد إلى كهف بعيد في أحد الجبال البعيدة. كل هذه المشاق والمتاعب من أجل سيجارة واحدة، فسالم المراهق، هو ابن شيخ القرية، فالأب يدرب ولده ليرث المشيخة. وهنا يكشف لنا سياقات السرد المضمرة، كيف تُتدَاوَل السلطة الاجتماعية في السياق الاجتماعي، وهذا يوضح لنا ما يحدث في السياقات الأخرى.
هنا يأتي دور الخوف، خوف سالم من كل شيء، من أهل القرية، من والده، فقيمة الحرية التي ينشدها سالم مختلة، فلا تستقيم قيمة الحرية مع الخوف، إلا أنه عندما هرب إلى المدينة خوفا من غضب الأب ورصاصته وجد الأمر مختلفا، فلا يحتاج إلى أن يصعد فوق نخلة طويلة، أو ينزل إلى بئر عميق، فالمدينة لها قانونها الخاص، تصهر كل أحد في عوالمها وشروطها الخاصة.
ربما يتساءل القارئ هنا: هل السيجارة هي المحرك لأفعال سالم ولد الشيخ؟ أم رغبته في التمرد على أعراف القرية والقبيلة؟ وهل يمتلك سالم هذا الوعي بالتمرد؟ وهل تستقيم قيمة الحرية مع سكاكين الخوف؟
أكان يعي ذلك أم لا، فهو وصل إلى وادي عدي ليلا، لا يعرف أحدا، ولا يملك مالا، وحافيا، وجائعا، لينام ليلته الأولى في مسجد، ويتلمس مظاهر المدينة، عندما وجد المسجد باردا، واقترب من جهاز التكيف.
في القرية كانت الحرية لدى سالم تضيق، ويتسع الخوف، هنا على أطراف المدينة في وادي عدي تغيرت المعادلة، اتسعت الحرية الشخصية، وضاق الخوف. فعل التحرر من الرقابة الاجتماعية والذاتية كان له الدور في قلب معادلة: الحرية/ الخوف. « قام أبي في صمت ـ بعد أن أكملَ استراحته ولهاثه ـ جهة سلاحٍ ناريّ مثبّت في الجدار، وفي تلك اللحظة أطلقتُ ساقيَّ للريح».
المدهش في لعبة المعادلات والثنائيات أن الخوف طارد سالم في القرية، رغم أنه بين عائلته، الخوف من الأب، الخوف من الآخرين، الخوف من الوشاية، وهذا الخوف تلاشى في وادي عدي، رغم أن أسباب الخوف متوفرة وبكرم، فهو جائع، ومشرد، لا يملك المال، ولا أي أوراق ثبوتية، إلا أنه ألف المكان، فلا مكان للغربة والاغتراب رغم صغر سنّه.
بالعودة إلى فضاء القرية، رغم أنه فضاء مفتوح، ويتبرع بكرم لسالم بأمكنة بعيدة ليمارس حريته الشخصية، إلا أن الخوف كان يحاصره ويقيده، وفي فضاء المدينة، رغم أنه ضيق، والبيوت متلاصقة، إلا أنه كان يمارس حريته بأريحية.
لم يكن فعل التدخين هو المحرك للسرد وتصاعده رغم ما يطفو في السياق العام للرواية، لكن في السياق المضمر ما يحرك السرد هو رغبة سالم في فهم المجتمع وتناقضاته، وفساد السلطة الاجتماعية، وأحوال الفقر لدى البسطاء. فعل التدخين كان مهمته فقط التحريض على الانتقال الإجباري إلى المدينة، ما يدلل على ذلك فعل المراقبة والتأمل، فكان سالم يراقب حركات عيسى المجنون في القرية، والتفاصيل الصغيرة، وفي وادي عدي كان يُراقب وجوه البشر، البيوت، النوافذ، الطرقات، العمال، النساء.
ثنائية الشخصيات:
تشترك الشخصيتان الرئيستان في الرواية في جوانب معينة، وتختلفان في جوانب أخرى، زهران وسالم يجمعهما المكان الواحد وادي عدي، والقادمان من منطقة الخطر، فزهران الناجي من مذابح شرق إفريقيا، وسالم السالم من رصاصة أبيه، تجتمع دوافع الهجرة، زهران الهارب من الموت في زنجبار، وسالم الهارب من الموت في وادي السحتن، وتختلف المصائر، فزهران يخطط للاستقرار والهدوء، أما سالم المراهق فيحلم بالانتقال من منطقة الهدوء والاستقرار إلى عوالم الاكتشاف والحرية وعدم الهدوء، ومن المنزلة الاجتماعية التي تضمن له الاستقرار والراحة، إلى منزلة أخرى يكتنفها التعب والشقاء والمغامرة. العمر والتجربة يحركان دوافع وطموح كل شخصية.
الشخصيتان اللتان جمعهما وادي عدي فرقتهما الأحلام، ونظرتهما للحياة، فسالم يذهب إلى المجهول دون بوصلة، فالعبثية والصدف هي التي تقود حياته، أهواء النفس هي المسيطرة للاكتشاف، أما الشخصية الأخرى زهران، فهو رجل منظم يحسب الخطوات جيدًا رغم الطفولة المعذبة في شرق إفريقيا، وغياب العائلة، إلا أنه خطط جيدًا لعمله في شركة النفط، وحدد المكان الذي يريد أن يسكنه، وحدد المدة التي يعمل بها، حتى زواج ابنته في وادي عدي كان مخططا له، ولأسباب يدركها جيدا، فما الذي يجمع بين إنسان وصل إلى مرحلة عالية من النضج والتخطيط، وبين مراهق تعصف به الحياة؟ إنها لعبة المتناقضات داخل النص الروائي. والتوازنات المختلة داخل الحياة.
زهران وجد الملاذ الأخير في حياته -قرية الخضراء- في وادي السحتن، ربما هذه القرية ما كان ينقص زهران، كأنها الطفولة المفقودة، في الجزيرة الخضراء في زنجبار كانت وسيلة الانتقال من المدينة إلى العاصمة بحيلة الطب الشعبي، بنى لنفسه سمعة طيبة، وفي المقابل كانت وسيلة الانتقال لسالم ـ كما ذكرنا سابقا ـ هي التدخين، وهنا نلحظ التقابل الخفي بين من يريد أن يساعد الآخرين بهدف الاندماج مع الجموع، ومن يريد أن يبحث عن ذاته بالهروب، فالمقابلة ليست في الجغرافيا وعمر الشخصيتين، ولكن في المسعى والحلم الذي تبحث عنه الشخصيتان.
رغم انهماك النص الروائي بالشخصيات الرئيسة، إلا أنه ذهب كذلك إلى شخصيات هامشيّة في النص وفي الحياة، فعيسى المجنون الذي عشق ابنة خاله، والذي كان يرسم قلبا مجروحا في الطين، ظل حاضرا في النص، ويشير بطريقة خفية إلى الظلم الاجتماعي، فعاتكة التي أحبها عيسى زوّجها أبوه بالوالي رغم صغر سنها، سُجِنَ عيسى، وخرج مجنونا من السجن، وظل يرسم قلوبا مجروحة بالظلم.
الهامشيون والمهمشون كان لهم نصيب في المدينة، كما كان لهم حضور في القرية، في وادي السحتن، فالعمال المتكدسون في الغرف الضيقة، وعمال البلدية الذين يجمعون ما يُرمى في قمامة القرم، وكذلك بائع الزلابيا (شبوت) جميعهم يعيشون على هامش المدينة التي تطحن أحلامهم وأعمارهم.
فالهامش ركيزة واضحة في الرواية، الشخصيات الهامشية التي لا تدّعي البطولة، الأمكنة الهامشية، القُرى الهامشية والمهمشة، حتى أحلام سالم كانت بسيطة وهامشية. يريد أن يترك المكانة الاجتماعية التي حاصرته الحياة بها، يترك المشيخة ليتفرغ لهوامش وادي عدي.
حمود سعود قاص وكاتب عماني