الجغرافيا السياسية شأن إنساني.. حوار مع البروفسور برتران بادي
لا يمكن اختزال العلاقات الدولية في مجرد لعبة مصالح، إذ أن من يأخذ القرارات الكبرى في النهاية هم البشر، حكماء كانوا أم مجانين، وذاتيّتهم تطبع السياسة العالمية على نحو عميق.
برتران بادي (Bertrand Badie) هو أستاذ بارز في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بمعهد الدراسات السياسية بالعاصمة الفرنسية باريس. ألّف العديد من الكتب من بينها «علم اجتماع الدولة» (بالاشتراك مع بيير بيرنبوم،1979، أعيد طبعه عام 2018)، وكتاب «عجز القوة: مقالة حول اللايقين والآمال المرتبطة بالعلاقات الدولية الجديدة» (دار نشر فايار، 2004)، وكتاب «القوى المعولَمة: إعادة التفكير في الأمن الدولي» (دار أوديل جاكوب، 2021).
على جدران مكتب برتران بادي توجد تماثيل صغيرة وأقنعة تم إحضارها من الخارج، وتشهد على حياة السفر التي يعيشها هذا المتخصص في العلاقات الدولية، ومؤلف العشرات من الكتب في هذا المجال منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي. تقاعد منذ نهاية عام 2018، ومع ذلك يواصل هذا الأستاذ البارز في العلوم السياسية النشر بوتيرة ثابتة، بين أعماله الشخصية وتلك التي تعاون فيها مع الصحفي دومينيك فيدال من خلال الإشراف على إصدار كتاب جماعي سنوي مكرّس لأوضاع العالم، والذي صدرت نسخة عام 2023 منه عن دار النشر الفرنسية (Les liens qui libèrent) في نوفمبر الماضي تحت عنوان «لن يعود العالم أبدا كما كان من قبل».
وفي الخريف نفسه من العام الماضي، نشر برتران بادي سيرته الذاتية الفكرية، والتي تحمل عنوانا فرعيا فولتيريا (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي فولتير [المترجم]): «العيش في ظل ثقافتين: كيف يمكن أن يولد المرء فرنسيا فارسيا؟» (دار نشر أوديل جاكوب، 2022)، حيث يعود إلى التأثير الذي مارسته ثقافته المزدوجة الفرنسية والإيرانية على أعماله. وهو كتاب أول في انتظار الجزء المستكمل له: مؤلَّف في المراحل الأخيرة من الكتابة حول دور الفهم المتبادل والذاتية في الحياة الدولية.
•ما الدافع الكامن وراء
كتابة هذه السيرة الذاتية؟
فكرت في كتابة هذه السيرة الذاتية طوال أربعين عاما لكني لم أجرؤ أبدا على تحويل تلك الرغبة إلى فعل طيلة كل هذه السنين. فمن ناحية، وبالنظر إلى طبيعة مهنتي، لم أكن معتادا على التحدث بضمير المتكلم. ومن ناحية أخرى، كنت دائما متخوّفا من جعل الآخرين يتحدثون، والدي وأمي وعائلتي، لأننا لا نكون أبدا متأكدين تماما من إدراك تفكيرهم بشكل كامل، وخاصة أفكارهم الصامتة. لكن معاودة التفكير في الأمر دفعني إلى التصدّي لهذا العمل، حيث أدركت أنه من واجبي أن أقول من أين كنت أتحدث وكيف. لقد تمّ عرض العلاقات الدولية طيلة أجيال كنوع من الألعاب الاجتماعية التي تلتزم بقواعد التوازن بين القوى، أو أسوأ من ذلك كتشكيل جيوسياسي مزعوم يحكم السياسات الخارجية. يبدو لي الواقع مختلفا تماما: العلاقات الدولية هي بالأساس علاقات إنسانية. القرارات الكبيرة يصنعها البشر، سواء كانوا حكماء أم مجانين. نحن نرى الشركات تقتحم اللعبة الدولية على نحو متزايد. والعنصر الأخير الذي لا يقل أهمية يكمن في أن العلاقات الدولية تُهيكلها المعاناة البشرية سواء تعلق الأمر بالغذاء أو المناخ أو الصحة. وهي معاناة ترتبط أيضا، وربما بشكل خاص، بامتهان الآخرين لك. لقد بدا لي كل هذا مهما بما يكفي للإحالة على التجربة الشخصية لـصناع القرار أو المتتبعين للحياة الدولية. ولذلك كان من الضروري أن أشرح كيف أثّرت تجربتي الخاصة على اختياراتي وتحليلاتي.
•لقد كان قدَر عائلتك صدى
لتاريخ العالم، فأين تجلى ذلك؟
هاجر والدي، وهو شاب فارسي يبلغ آنذاك من العمر 18 عاما، إلى فرنسا في عام 1928 والتقى بأمي، وهي ابنة لشخص كان يعمل موثقا من مدينة سواصون (Soissons)، وبالتالي فهي تنحدر من بورجوازية تقليدية نوعا ما. لقد عاينت طيلة فترة شبابي، وربما حتى من بعد، هذين العالَمين يتبادلان الحب والاحتقار في الوقت نفسه، ويثير بعضهما اهتمام البعض أو يتناقض بعضهما مع بعض. لقد رأيت كيف أن إدراك الآخر كان مشوّها، وكيف يمكن للناس قراءة الحدث نفسه على نحو مختلف مثل الحرب في الجزائر. فهمت على المستوى الفردي مدى تعقيد اللعبة الدولية. إننا نجد هذا التعقيد في العالم المعاصر، في طريقتنا للحديث عن إيران خلال الأوقات الصعبة للغاية التي نعيشها، وفي عجز العالم الغربي عن إشراك دول الجنوب في الحوكمة العالمية، وفي النظر إلى الدين بشكل مهووس كاختلاف غير قابل للاختزال، وفي هذه الحمّى الهويّاتية التي تسمم تدريجيا العلاقات الدولية. أنا مقتنع بأن ثقافتي المزدوجة علّمتني أن أرى أشياء ربما لم يأخذها الآخرون في الحسبان. لقد علّمتني أيضا أن اللغز الأول للعلاقات الدولية لا يكمن في علاقات القوة، وإنما في تعدد الأفهام، وهو نفسه ناتج عن تاريخ وقصص متعددة. من الضروري أن نبدأ من هناك من أجل طرح السؤال الوحيد الذي يهم: هل بإمكاننا أن نصل إلى، ونستخدم هنا التعبير الجميل للفيلسوف الألماني هانز جورج غادامر (Hans- Georg Gadamer)، «دمج للآفاق»؟ إذا تعذّر هذا الاندماج، فالنتيجة هي الحرب، أو على كل حال، هذه الحرب الدنيا التي تتمثل في سوء الفهم الدائم. وإذا كان بوسعنا أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال، فإننا على عكس ذلك لا نقدم بالضرورة الحل فورا، لأننا لا نستطيع إلغاء القصص والاختلافات على مستوى الإدراك، غير أنه بإمكاننا على الأقل إيجاد مسار يجعلها متوافقة.
•لقد كتبت أنك لا تريد أن تُظهر نفسك كـ «مهاجم أعمى» لجمهورية إيران الإسلامية.
لقد وددت أن أقدّم ثقافة فارسية لا تُختزل في عدد من المتطرفين: شعر غير عادي، ولغة رائعة، وتاريخ يمتد لآلاف السنين، ومكان تتقاطع فيه العديد من الأصول والأديان والعلاقات مع العالم... إن التاريخ الحديث لبلاد فارس هو تاريخ من المعاناة، وقصة بلد عاش الاضطهاد من الخارج، سواء من روسيا أو إنجلترا ثم الولايات المتحدة، وعرف غصّة تنمية اقتصادية غير مكتملة وتنمية اجتماعية غير كافية. كل هذا يجب أن يدفعنا إلى قراءة أوضح للثورة المركّبة للغاية لعامي 1978-1979، والتي صنعتها فصائل متنوعة من الإسلاميين، ولكن أيضا بمشاركة القومية المصدقية (نسبة إلى محمد مصدق، رئيس الوزراء الإيراني في خمسينات القرن الماضي [المترجم])، والشيوعية المتجذرة في تقاليد الطبقة العاملة، وليبرالية تحت أشكال متنوعة... لم تكن هذه الجمهورية الإسلامية في حد ذاتها جيدة أو سيئة، ولكن نقطة البداية لشيء كان ينبغي بناؤه. لقد عرفت فترات مشجعة، مثل رئاسة محمد خاتمي (1997-2005) ومؤخرا في ظل رئاسة حسن روحاني (2013-2021) التي عرفت إبرام اتفاق نووي عام 2015 كاد أن يسمح بدمج إيران في المجتمع الأممي. لقد أعاد قرار دونالد ترامب بتمزيق هذه المعاهدة إحياء السباق نحو التعصب والمحافظة التي [قد] تقود إيران نحو كوارث مرعبة. ومن أصداء ذلك هذه القدرة المجتمعية على الانتفاض بشكل عليه شبه إجماع، وترمز له تلك النساء اللواتي يزلن الحجاب. يجب أن نمنح الحرية الإنسانية الفرصة لتغيير هذا البلد، كما فعل الربيع العربي أو المظاهرات في الصين ضد الحجر الصحي المفرط.
•لقد انضممت إلى معهد العلوم السياسية في أعقاب أحداث مايو 1968. أي نوع من شباب هذه الفترة كنت؟
أعتقد أننا نرتكب خطأ في تأويل أحداث مايو 1968 عندما نتذّكر فقط ما كان يطفو على السطح، أي انتشار الحركات اليسارية. لقد عشت هذا الحدث كنهاية لفرنسا التي لم تكن ترى سوى فرنسا. إن مايو 1968جعل العالم يظهر عندنا، وجلب لنا صورا: ماو وكتابه الأحمر الصغير، هو شي مينه، تشي غيفارا وفيدل كاسترو، والكوفية الفلسطينية على رؤوس المتظاهرين الشباب. لقد شعرت فجأة كأنني أمشي في العالم، وهو ما طمأنني من وجهة نظر معينة، أنا الذي كنت أعيش جنسيتي المزدوجة على أنها أمر شاذ، وكنت أعتقد أنني مجبر على إظهار بطاقة هويتي الفرنسية لرفاقي لأثبت لهم أنني مثلهم. لقد كان عام 1968 مؤشرا على أننا كنا بصدد الولوج إلى عالم حيث المسألة الاجتماعية بدأت تتقدم أسرع من السياسة. وبالمناسبة فإن هذه الحركات في فرنسا كما في كاليفورنيا أو في ألمانيا، لم يكن لها زعيم سياسي.
•لكنك في أطروحتك من أجل نيل درجة الدكتوراه قد اخترت موضوعا وطنيا «وذا راهنية آنذاك!»: الحزب الشيوعي الفرنسي و«استراتيجية الإضراب»...
يبدو هذا غريبا، وربما متناقضا، لكن يمكن فهمه جيدا من خلال هذا المنظور. لقد خرجت من أحداث مايو 68 بانطباع غريب، يتقاسمه الكثيرون، عن حركة عمّالية ممزقة بين تعبئة الشباب والانضباط
اللّينيني (نسبة إلى الزعيم الشيوعي فلاديمير لينين [المترجم]) القديم القائم على الطاعة تجاه المنظمة. لقد أدركت أنه كان من الضروري أن نأخذ هذه المسافة بالحسبان، بين الاجتماعي والسياسي، وبالتالي هذه اللحظات التي يفلت فيها الاجتماعي من سيطرة السياسي. لقد قمت بذلك في سياق مباشر، من وجهة نظر وطنية وداخل عالم العمل، غير أني أدركت تدريجيا أن هذا الأنموذج كان ذا قيمة ثمينة من أجل فهم العلاقات الدولية. وانطلاقا من أواخر الثمانينات، قلت لنفسي أن هناك فجوة كبيرة بين منظور الجغرافيا السياسية، والعلاقات بين الدول، والواقع السوسيولوجي للفضاء العالمي قيد الإنشاء.
•هل تعتقد أنك قد طوّرت كثيرا من تحليلاتك للنظام الدولي، أو حتى قمت بتصحيحها في بعض الأحيان؟
في العلم، نرتكب الأخطاء طوال الوقت، ونحن نتقدم من خلال الاستفادة من تلك الأخطاء. أضف إلى ذلك أن البحث لا يكون أبدا فرديا. إنه من خلال القيام بالنقد الدائم، من قبل الآخرين ومن الذات، يصل المرء إلى أفكار يمكن أن يأمل في أن يتلقّاها الآخرون بالقبول. أنا عن نفسي لم أصل إلى أي نتيجة نهائية: أملي الوحيد هو أن يتم تناول ما قلته، ولو جزئيا، من طرف الآخرين من أجل مواصلة دفع الأمور إلى الأمام. من المؤكد أني قد ارتكبت أخطاء: فقد أذنبت بسبب إفراطي الثقافوي من خلال الاعتقاد بأن الثقافة كانت إلى حد ما عماد تاريخ الإنسانية، أو من خلال النقد المطلق للدولة دون أن أدرك أنه بإمكان هذه الأخيرة أن تتكيّف وتتحول. ربما أني أيضا قد تركت جانبا ولفترة طويلة البعد العرَضي والوقائعي للعلاقات الدولية: إننا نرى بوضوح أنه ما من شيء يحدث في العلاقات الروسية الأوكرانية كان ممكنا لولا نوع من اللاعقلانية البوتينية (نسبة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين [المترجم]) نحن رهائن لها. لقد علّمني هذا، الآن أكثر من أي وقت مضى، أن أنتبه لأهمية الجانب الذاتي. يقولون لنا أن العالم هو توازن بين القوى، حسنا، لكن من يؤوّل علاقات القوة هذه ويُضفي عليها ذاتيّته؟ إنهم البشر.
•هذه الرؤية للعالم باعتباره «توازنا بين القوى»، والتي تعترض عليها، هل ما زالت تبدو سائدة بالنسبة إليك؟
بالنظر إلى عدد مرات ورود مصطلح «الجغرافيا السياسية» في الخطاب السياسي والإعلامي وحتى الأكاديمي، يبدو أن الأمور لا تتغير كثيرا، لأنه من الصعب جدا أن يتحرر المرء من الأشياء المكتسبة. إذا كان هناك تقدم، فهو يحدث في بعض الأحيان بطريقة زلزالية، بمعنى أن المجتمعات تغدو عاجزة عن الصمود وتشكك في كل شيء. يُعد الربيع العربي مثالا جيدا، وهو لم يقتصر على العالم العربي: فمن هناك خرجت حركة الساخطين في إسبانيا، كما أنه ألهم أيضا حركة «احتلوا وول ستريت»، وأثّر، بوعي أو بغير وعي، على حركة السترات الصفراء... هذه الزلازل الاجتماعية تجعل الأشياء تتحرك أكثر بكثير مما يفعل القادة الكبار.
•أليست جائحة كوفيد-19 أزمة تنتمي إلى المستقبل، في الوقت الذي تكون فيه الحرب الروسية الأوكرانية صراعا من الماضي؟
لا، لأنه وإن كانت الجائحة بالفعل أزمة من المستقبل، فإن الصراع الروسي الأوكراني لا يشبه في شيء صراعات الأمس. وتتمثل ميزته الأساسية في كونه ليس عالميا وإنما مُعولما: فهو ينعكس على أفراد ومجتمعات وبلدان أخرى، إما من خلال التضامن مع أوكرانيا، أو من خلال عواقبه على مستوى الطاقة والغذاء. ويظهر هنا أثر خاص بالعولمة ويتجلى في كون الاضطراب الذي ظهر في مكان ما يزعزع استقرار العالم. ومن هذا المنظور، فإن هذا الوضع يشبه كثيرا جائحة كوفيد-19.
•في مقدمة الكتاب الجماعي الموسوم «العالم لن يعود أبدا كما كان»، أنت تنتقد أولئك الذين يقومون بعقد مقارنات بين هذه الحرب والصراعات السابقة. أليس بإمكاننا أخذ الدروس من الماضي؟
من الممكن تعلم الدروس من الماضي كما أنه يجب فعل ذلك دائما، ولكن على نحو معاكس لما اعتاد الناس عليه. إن السؤال الصحيح الذي يجب طرحه ليس «أين يكمن التشابه بين الصراع الروسي الأوكراني والحرب العالمية الثانية أو الأولى؟» ولكن «فيما يختلف هذا الصراع وكيف يمكن استخلاص علاجات جديدة من هذه الاختلافات؟» انظر إلى الطريقة التي يُقرأ بها مصطلح المفاوضات: لم نعد نتفاوض اليوم كما كان الأمر بالأمس، وإذا كانت الأهداف السياسية في الحروب السابقة واضحة، فإن ما يميز هذا الصراع هو ضبابية هذه الأهداف. ماذا يعني «الفوز»؟ عندما تكون أوكرانيا، ما الذي يجب أن تتطلع إليه؟ هل ينبغي استعادة شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس بأي ثمن؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فكيف يمكن القيام بذلك؟ وماذا سيترتّب عن ذلك؟ نحن نعيش في عالم لا ينبغي أن تكون الحلول فيه ثنائية أو ثلاثية الأطراف بل يجب أن تكون نسقية أو نظامية (systémique)، بمعنى أن تكون قائمة على نقاش متعدد الأطراف حول نظام دولي جديد. ذلك صعب للغاية، لكنه الطريق الوحيد الممكن.
•لقد أسهبت في الكتابة عن مفهوم الإهانة. وكثيرا ما نسمع هذا المصطلح اليوم، من خلال ترديد عبارة أنه «يجب ألا نُهين روسيا»...
الإهانة شعور، ولا يمكنك أن تقرر مكان شخص آخر ما إذا كان يشعر بالإهانة أم لا. تتعقّد الأمور عندما يستغل السياسيون هذه المشاعر الصادقة من أجل تأسيس علامة تجارية سياسية، كما هو الحال في روسيا. هناك شعور متجذر بالإهانة، تغذيه الأخطاء التي ارتكبت بعد سقوط جدار برلين: ففي مواجهة بوريس يلتسين، الذي لم يكن يقينا رجل دولة عظيما لكنه كان يسارع إلى قبول إعادة تشكيل النظام الدولي، أعطى الغرب للشعب الروسي شعورا بأنهم في أحسن الأحوال قد أُخرجوا إلى مقاعد البدلاء، بينما في الواقع قد زُجّ بهم في غرفة الملابس. لقد عرف زعيم مثل فلاديمير بوتين كيف يستغل هذا الشعور بالإهانة بشكل مثالي، من الشيشان إلى جورجيا، ومن جورجيا إلى شبه جزيرة القرم، ومن شبه جزيرة القرم إلى سوريا، والآن من سوريا إلى أوكرانيا. إنه يجعل من ذلك الشعور الخيط الأحمر لشعبيته ويمنح لنفسه الدور الخيّر في مواجهة الغربيين من خلال الاتجاه إلى ما كان يُسمى بالعالم الثالث ليقول: «انظر، أنا مثلكم، لقد تعرضت للإهانة.»
• في العلاقات الدولية، غالبا ما نجعل المثالية والواقعية على طرفي نقيض. هل تَعُدّ نفسك بشكل عام مثاليا ومتفائلا؟
لم أفكر أبدا في نفسي داخل درج معيّن. استراتيجيا، نحن نميل دائما إلى التشاؤم لأننا نفوز في كل المرات: إما أن تثبت الحقائق أنك على حق فتكون قويا جدا، أو تثبت خطأك فتشعر بالارتياح. أعتقد أننا نجد بصيصا حقيقيا من التفاؤل بتحويل أنظارنا عن النظام السياسي الرسمي المخيب جدا للآمال وتوجيهها إلى المجتمعات وخاصة الأجيال الجديدة. في قاعات المحاضرات سواء في معهد الدراسات السياسية، في الجهة كما يقولون الآن، أو في الخارج، يطرح الشباب دائما أسئلة رائعة تماما تثبت أنهم قد استقروا بالفعل في العولمة، على الأقل فيما يخص قصة حياتهم: إنهم يتنقّلون أكثر فأكثر، ويتحدثون لغات متعددة على نحو متزايد، وهم أكثر استعدادا للحوار والتبادل خارج حدود بلدانهم... لن أنسى أبدا هذه الجملة الجميلة المأخوذة من أغنية جورج براسينس (Georges Brassens)، العَمّان: الآن وبينما بناتك وأبناؤك يمشون يدا في يد، يصنعون الحب معا وأوروبا الغد. كل هذا يجعل المرء في غاية التفاؤل.
عن مجلة «علوم إنسانية» في العدد الصادر يونيو ٢٠٢٣.