منطقة سلوت الأثرية
منطقة سلوت الأثرية
ثقافة

معركة سلوت

01 أبريل 2023
نافذة من التاريخ العُماني
01 أبريل 2023

"ركب مالك بن فهم فرسا له أبلق، وظاهر بين درعين، ولبس عليها غلالة حمراء وتكمم على رأسه بكمة حديد، وتعمم عليها بعمامة صفراء. وركب معه ولده وفرسان الأزد على تلك التعبئة، وقد تقنعوا بالدروع والبيض والجواش، فلا يبصر منهم إلا الحدق" هكذا وصف المؤرخ العماني أبو المنذر سلمة بن مسلم بن إبراهيم الصحاري العوتبي في كتابه الشهير "الأنساب" تجهز مالك بن فهم الأزدي لمعركة سلوت التي دارت بينه وبين الفرس وهي أول معركة بين العرب والفرس في التاريخ، في سنة 196 للميلاد، في معركة مصيرية أثثت للدولة عمان الكبرى.

ونجد أن العوتبي تفرد في ذكر تفاصيل معركة سلوت، وأنت تقرؤها تجد وصفا دقيقا لمشاهد من المعركة قد أخرجها العوتبي ببراعة سرده مثلما يقوم المخرج السينمائي بإخراج مشاهد سينمائية في فيلم ملحمي، فهو لا يكتفي بذكر المعركة والحدث فقط، بل يصف لك اللباس الحربي الذي يرتديه الجيشين، ولون الفرس التي يركبها مالك بن فهم، وتفاصيل المبارزة.

وتذكر الرواية التاريخية أنه بعد انهيار سد مأرب وهجرة العرب من اليمن، اتجه بعضهم إلى أنحاء متفرقة من الجزيرة العربية، في حين اتجه مالك بن فهم الأزدي ومن معه من قبائل الأزد، ومن أحياء قضاعة مع نسائهم وأبنائهم وأنعامهم إلى عمان، فوجدوا أن الفرس قد سكنوها واستوطنوها، ونزل مالك ومن معه في قلهات وترك فيها النساء والأطفال والأنعام وجعل معهم من الفرسان والرجال من يحميهم ويحفظهم، ثم اتجه هو ومن منعه من الأزد وأحياء قضاعة إلى داخل عمان فوصل إلى منح وأقام فيها وشق فيها فلجا أسماه باسمه "فلج مالك" ولا تزال شواهده باقية إلى اليوم، وأرسل مالك بن فهم رسله إلى المرزبان رئيس الفرس، المعين من قبل ملك فارس دارا بن دارا بن بهمن بن اسفيديا، وكان مركز قيادة الفرس يومئذ في صحار، فطلب منهم مالك بن فهم أن يسمحوا له أن ينزل هو وقومه في جزء من عمان وكان الفرس يسمونها في ذلك الوقت "مزون" وأن يشاركهم الماء والمرعى، ولكنهم بعد تشاور طويل رفضوا هذا الطلب، وقالوا: "ما نحب أن ينزل هذا العربي معنا، فيضيق علينا أرضنا وبلادنا، فلا حاجة لنا في قربه وجواره" فلما وصل هذا الجواب إلى مالك بن فهم، قال لهم لا بد لي من المقام في هذه البلاد وأن أشاركهم في الماء والمرعى فإن تركتموني طوعا حمدتكم، وإن أبيتم أقمت على كرهكم، وإن قاتلتموني قاتلتكم، وقتلت المقاتلين وسبيت الذراري، ولم أترك أحدا منكم ينزل عمان أبدا.

فجعلت الفرس تجهز الجيوش للقتال وكذلك بدأ مالك بن فهم بتجهيز جيشه واختار أن ينتظرهم في صحراء سلوت لأنه ابن الصحراء، وجعل ينتظرهم بدلا من الذهاب إليهم، فانطلق جيش الفرس من صحار ويقودهم المرزبان بنفسه، ومعه 40 ألف مقاتل من الفرس المدججين بالسلاح والعتاد ومعهم الفلية، في حين كان جيش مالك بن فهم 8 آلاف فقط، فعسكر الجيشان في يومهم الأول أمام بعضهم البعض، وفي الليل أخذ مالك بن فهم يعبئ الجيش، ويوزع القادة والفرسان في تشكيلة جيشه، فولى الميمنة ابنه هناة بن مالك، وولى الميسرة ابنه فراهيد بن مالك. وصار هو في قلب الجيش.

وفي الصباح ركب مالك بن فهم فرسه الأبيض المختلط بالسواد،، ولبس درعين وعليهما لباس أحمر، ولبس خوذته الحديدية، وتعمم فوقها بعمامة صفراء، ولبسوا أقنعتهم من الدروع، فأصبحوا لا يرى منهم إلا أحداق أعينهم، ولما تقابل الجيشان أخذ مالك بن فهم يدور بين صفوف جيشه ويستنهضهم ويرفع من حماستهم وعزيمتهم وهو يقول: " يا معشر الأزد، أهل النجدة والحفاظ، حاموا عن أحسابكم، وذبوا على مآثر أباءكم، وقاتلوا، وناصحوا ملككم وسلطانكم، فإنكم إن انكسرتم وهزمتم، اتبعكم العجم في كافة جنودهم، فاختطفوكم، واصطادوكم بين كل حجر ومدر، وباد عنكم ملككم، وزال عنكم عزمكم وسلطانكم، فوطنوا أنفسكم على الحرب، وعليكم بالصبر والحفاظ فهذا اليوم له ما بعده. ونادى فيهم: يا معشر فرسان الأزد احملوا معي، فداكم أبي وأمي على هذه الفيلة فاكتنفوها بأسنتكم وسيوفكم.

ثم أن المرزبان زحف بعسكره، وجميع قواده، وجعل الفيلة أمامه. واقبل نحو مالك بن فهم، وأصحابه.

ولنتأمل هذا الوصف البديع الذي كتبه العوتبي في كتابه الأنساب واصفا أحداث المعركة حيث يقول: ثم حمل مالك بن فهم وأصحابه على الفيلة، بالرماح والسيوف وزرقوها بالسهام فولت الفيلة راجعة بحميتها على عسكر المرزبان، فوطئت منهم خلقا كثيرا. وحمل مالك بن فهم بالنبل في كافة أصحابه من فرسان من الأزد على المرزبان وأصحابه، فانتقصت تعبئة المرزبان، وجالوا حوله. ثم باءت العجم ورجعت إلى بعضها بعضا، وأقبلت في حدها وحديدها.

وصاح المرزبان وأصحابه وكافة جنوده وأمرهم بالحملة فحملوا. والتقى الجميع، واختلط الضرب، واشتد القتال. فلم يكن تسمع إلا صليل الحديد، ووقع السيوف. فاقتتلوا يوم ذلك أشد ما يكون القتال. وثبت بعضهم لبعض، إلى أن حال ظلام الليل فانصرفوا، وقد انتصف بعضهم من بعض. وابتكروا من غد للحرب، فاقتتلوا قتالا شديدا. وقتل في اليوم الثاني من الفرس خلق كثير، وثبت لهم الأزد، فلم يزالوا كذلك إلى أن حال بينهم الليل، فانصرف بعضهم عن بعض وقد كثر القتل والجراح في الجميع.

فلما أصبحوا في اليوم الثالث، زحف الفريقان بعضهم إلى بعض، فوقفوا مواقفهم تحت راياتهم. وأقبل أربعة نفر من المرازبة والأساورة، ممن كان يعدّ الرجل منهم بألف رجل، حتى دنوا من مالك. فقالوا: هلمّ إلينا لننصفك من أنفسنا، ويبادرك منا رجل رجل. فتقدم إليهم مالك، وخرج إليه واحد منهم، وطارد مالكا ساعة، فعطف عليه مالك، ومعه نجدة الملوك وحمية العرب، فطعن الفارس طعنة حطم في صلبه، فوقع الفارس إلى الأرض عن فرسه. ثم علاه مالك بالسيف فضربه، فقتله.

ثم حمل الفارس الثاني على مالك على مفرق رأسه، ففلق السيف البيضة، وانتهى إلى رأس الفارس، حتى خالط دماغه، فخرّ ميتا. ثم حمل عليه الفارس الثالث، وعليه الدرع والبيضة، فضربه مالك على عاتقه، فأبانه مع الدرع نصفين، حتى انتهى سيف مالك إلى زح دابة الفارس، فرمى به قطعتين. فلما نظر الفارس الرابع ما صنع مالك بن فهم من أصحابه الثلاثة، كاعت نفسه، وأحجم عن لقاء مالك، فولى راجعا نحو أصحابه، حتى دخل فيهم.

ثم انصرف مالك إلى موقفه فيه، وقد تفاءل قومه بالظفر بالثلاثة القواد من المرازبة. وفرحت بذلك الأزد فرحا شديدا، ونشطوا للحرب. فلما رأى المرزبان، قائد جيش الفرس ذلك، وما صنع مالك بن فهم في قواده الثلاثة، دخلته الحمية والغضب، وخرج من بين أصحابه. وقال: لا خير في الحياة بعدهم. ثم نادى مالكا. وقال: أيها العربي، اخرج ألي أن كنت تحاول ملكا فأينا ظفر بصاحبه كان له ما يحاول، ولا نعرض أصحابنا للهلاك. فخرج إليه مالك برباطة جأش، وشدة قلب، فتجاولا بين الصفين مليا، وقد قبض الجميع أعنة خيولهم، وأوقفوها ينظرون إلى ما يكون منهما. ثم أنه حمل على مالك بالسيف حملة الأسد الباسل، فراغ منه مالك روغان الثعلب، وعطف عليه بالسيف، فضربه على مفرق رأسه، وعليه البيضة والدرع، ففلق البيضة، وأبان رأسه، وخرّ ميتا. وحملت الأزد على الفرس وزحف الفرس إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا، من ظهر النهار إلى العصر، وعض أصحاب المرزبان السيف، وصدقتهم الأزد الضرب والطعن، فولوا منهزمين النهار، حتى انتهوا إلى معسكرهم، وقد قتل منهم خلق كثير وكثر الجراح في عامتهم.

فعند ذلك. أرسلوا إلى مالك بن فهم يطلبون منه أن يمن عليهم بأرواحهم ويجيبهم إلى الهدنة والصلح، وأن يكف عنهم الحرب ويؤجلهم إلى سنة ليستظهروا على حمل أهلهم من عمان."

ولكنهم نقضوا العهد وأتاهم المدد من الملك الفارسي، واقتتلوا قتالا عظيما وانتصر عليهم مالك وسبى ذراريهم وأخذ أموالهم وسجنهم، وبعد ذلك أخذ المساجين وأركبهم البحر وأرجعهم إلى بلاد فارس.