No Image
ثقافة

مسارات الخط العربي والنقوش الكتابية وتطورها في المدن عبر الزمن

25 أكتوبر 2022
استكمالا لندوة فكرية مصاحبة لملتقى الشارقة للخط
25 أكتوبر 2022

- د.خوسيه بويرتا: "الضاد" ليست مجرد لغة تواصلية محضة والخط العربي يزيّن كافة العمائر الأندلسية

  • خالد الجلاف: مع منتصف القرن العشرين بدأت تباشير الانفراجة تظهر من خلال جهود الأشخاص والمؤسسات
  • بسام محمد ديوب: النقوش الكتابية العربية في دمشق تعود بشكل أساسي إلى بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر
  • د.صلاح الدين شيرزاد: منحى الكتابة العربية الفني ظهر في أواخر الدولة الأموية واستكملت أركانه في العصر العباسي
  • د. محمد الحداد: الأدلة الأثرية الباقية في مصر أسهمت في التعرف على الإرهاصات الأولى لنشأة مدارس الخط العربي عامة
  • د. محمد الحسني: لم يرفض المغاربة ما جاء من المشرق كما تبنوا منهم ما جاء في قانون الإعجام والإهمال

من محطاته المختلفة زمانًا ومكانًا.. رسّخ "الخط العربي" أهميته ليمد أغصانه في سماء بعيدة مغروسة كجذوره العميقة التي شكّلت عناصره وتفاعل معها الإنسان وطورها عبر تلك المحطات التي عمّق عبرها شخصية تعكس هويته الخالصة التي مازجت الجغرافيا (مكانا) والتاريخ (زمانا) مكونة خصوصية فنية فريدة تمثّلت في ربطت الحرف كمكون أساسي للغة والخط كحالة تدوين عبر العصور ظلّت المساجد والأبنية الدينية والثقافية والقصور وغيرها شواهد على عظمة "اللغة العربية" وتشكلاتها المختلفة.. في هذه المساحة يتحدث باحثون حول مسارات الخط العربي والنقوش الكتابية وتطورها في المدن عبر الزمن..

بداية يقول الدكتور خوسيه ميجيل بويرتا (أستاذ الفن في جامعة غرناطة) متحدثًا عن "الأندلس" أنه عقب فتح الإسلام لشبه الجزيرة الإيبيرية اعتبارًا مـن عـام 92 للهجرة (711 م) أخذت اللغة العربيـة وخطوطها تنتشـر فـي ما سمي منذ ذلك الحيـن فـي المصادر العربيـة بـ«الأندلس»، متألقـة فـي فـنـون وعمارة الحضارة الجديدة خلال قرون طويلة بلغت في مناطق مملكة غرناطة ما ينيف عن ثمانيـة قـرون. وبما أن لغة الضاد ليست مجـرد لغـة تواصلية محضة، بل لغـة تنبع منها كل التعابير الدينية والثقافية والفنية لأبنائها، فإننـا نـجـد عنصـر الخـط العـربـي فـي كـافـة العمائر الأندلسية ذات المعنـى والشـأن، سواء أكانت المساجد أو القصـور أو المباني المدنية، بصرف النظر طبعًا، عن أغلبية المصنوعات، مثلها مثل عمائر أقطار العالم العربي والإسلامي المترامي الأطراف.

ويضيف: "أستاذ الفن في جامعة غرناطة" دعونا نبادر بإيماء أولي بسيط إلى مستهل الخط العربي بشبه الجزيرة الإيبيريـة قبيل ظهـوره فـي عمائرنا الأندلسية التي تعطـي جمـالًا ومعانـي خاصـة للأوابـد الإسلامية البديعـة التي نتمتع بهـا فـي إسبانيا، فتتبعًا لتنظيم المسكوكات الـذي أمـر بالقيـام بـه الخليفـة عبـدالمـلـك فـي الشأم، الذي يعتبـره مؤرخـو الفـن الإسلامي خطوة مهمـة فـي تكويـن أسس الفـن الإسلامي الناشئ آنذاك على أساس مركزية الكلمـة فـي تصـوره وخطـه الكوفـي مـع تعابير التوحيد الإلهـي ونبـوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- سكت في الأندلس نقود جديدة ضرورية لتطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية وتوزيع علامات الحكم الجديد في غرب المتوسط. نكتفـي هـنـا بذكر الدينار المنقوش بعبارات لاتينية وعربيـة فـي سنة 94 هـ/716 م، التي تعتبر أقدم كتابة بلغة الضاد معروفـة فـي شبه الجزيرة الإيبيرية. هذا الدينار يحمـل نـقـش نـجمـة ذات ثماني رؤوس، الذي كان على الأغلب رمزًا للأندلس، والذي سُـبـك فـي وقـت سـبـق بقليـل اعتماد الحكام المسلمين للأندلس علـى ضـرب كل نقودهـم حينه فصاعدًا باللغة العربية فقط، اللغة التي غدت بسرعة اللغة الأساسية والرسمية في كل مجالات الحياة الاجتماعية والعلمية في الأندلس حتى آخر أيامها، ففي المسكوكات نقرأ أول كتابة لكلمة «الأندلس» تم العثور عليها، توجد في دينار مسكوك في عام 102 هـ/720 م يحمل عبارة «ضرب بالأندلس»، التي ستنقش بغزارة في المسكوكات الأندلسية طيلة ثمانيـة قـرون، ومع هذه النقود الأموية الأندلسية الأولى يبدأ مسير طويل للخط العربـي فـي تـراب «إسبانيا» القديمة، سيصبح قريباً عاملاً معنوياً وفنياً أساسياً فـي العمارة عبـر شتى مراحـل الأندلس، بدءاً مـن الإمـارة والخلافة الأمويين ووصولاً إلى سقوط غرناطة، مرورًا بممالك الطوائف وحكم كل من المرابطين والموحدين. بطبيعة الحال، يتركز أهم الميراث الخطي المعماري الأندلسي في المدن الأندلسية الكبرى، أعني قرطبة وإشبيلية وسرقسطة وطليطلة وغرناطة، بيد أنه حفظت كذلك الكثير من الكتابـات فـي عمـائـر أماكن أخرى، كمـا نـــراه فيما بعد. وبمعزل عـن تعـدد أنماط تلك الخطوط المتعلقة بالعمارة الأندلسية، وبمعزل حتى عن أهميتها التاريخية والحضارية، ينبغي لفت الأنظار هنا إلى القيمة النادرة للغاية لكتابات المسجد الأموي بقرطبـة مـن ناحية، وقصور الحمراء مـن ناحيـة ثانيـة، كأنموذجيـن لا مثيـل لهـمـا فـي تاريخ الخـط والعمارة الإسلاميين عامـة، مـن حيـث الإبداع الفنـي والمـواد المستعملة وتنـوع الأشكال الخطيـة ومضامينها.

اهتمام متأخر

من جانبه، يقول الخطاط الإماراتي خالد الجلاف أنه نتيجة لانتشار الأمية في العالمين العربي والإسلامي بفعل سياسات نشر الجهـل مـن قبـل دول الاستعمار، رزحت منطقة الخليج العربي تحت تأثير الأميـة المقيتة، وكان من يجيد القراءة والكتابة في مجتمعات الخليج يعدون من النادرين، نظرا لعدم توفر المدارس النظامية، فضلا عن الجامعات والمعاهد المتخصصة، والمؤسسات التعليمية التي ترعى التعليم والمناهج التعليمية، لذلك كان المصـدر الوحيد للتعليـم هـو الكتاتيب، مـن خـلال معلم أو معلمـة يعلمـون منهجاً دراسياً موحداً على مستوى دول الخليج العربي، يحتـوي على تعليـم قـراءة القرآن الكريم والحساب والخط العربي، ويكتفـي الولد أو البنـت بـقـدر بسيط مـن التعليـم يستطيع مـن خلالـه القـراءة البسيطة، والكتابة القليلة، والحساب، ليلتحـق الولد بالعمـل عنـد نواخذة السفن (القبطان)، لتبدأ الحيـاة العملية، ليساعد أهله على مصاريف الحياة، ولترجع البنت إلى مساعدة أمهـا فـي إدارة شؤون المنـزل إلـى حيـن زواجها.

ويضيف "الجلاف": مـن الأهالي الأغنيـاء مـن كـانـوا يبتعثـون أبناءهـم إلـى المدارس النظامية، أمـا فـي النـد، أو فـي مصـر وبـلاد الشام، ليلتحقـوا مـن ثـم بالجامعات، وليكونوا نواة المجتمع المتعلم علمًا يفيـد بـه بلـده كالأطباء والمهندسين والمحاسبين والكتاب.

وحول العناصر المؤثرة في الاهتمام بفن الخط العربي في الإمارات يقول الخطاط خالد الجلاف: كما سابقًا فإن المجتمع الخليجي كان مجتمعًا غالبية عناصره بالكاد كانوا يجيدون القراءة أو الكتابة البسيطة، لكنه مع منتصف القرن الماضي (العشرين) بدأت تباشير الانفراجة تظهـر مـن خـلال جهود بذلت من أشخاص ومؤسسات مخلصة زرعت الأمـل لمستقبل أبهـى وأجمـل نعيشه اليـوم بفضل الله، ومـن ثـم بفضـل تلـك الجهود، ودولة الإمارات هـي إحـدى تلـك الدول التي كان لبعض الأفراد والمؤسسات دور جميل فيهـا لتصبـح اليـوم قبلـة للخـط والخطاطيـن مـن مختلف دول العالم.

النقوش الكتابية

متحدثًا عن بلاد الشام يقول الخطاط والباحث بسام محمد ديوب أن تاريـخ دراسـة النقـوش الكتابيـة العربيـة فـي دمشـق يعـود بشـكل أساسـي إلـى بدايـات النصـف الثانـي مـن القـرن التاسـع عشـر عندمـا نشـر العالـم الألماني (ألفرد فون كريمـر كتابه "طبوغرافيـة دمشـق" والـذي حـوى بيـن دفتيـه العديـد مـن قـراءات النقـوش لكـن دون صـور فوتوغرافيـة لهـا تلاها بحسـب الترتيـب التاريخـي مجموعـة العالم وليم هنـري وأدينجتـون وبيـن سـنتي، كما نشـر المستشـرق الفرنسـي هنـري سـوفير العديـد مـن النقـوش بيـن عامـي 1892-1895م فـي الفتـرة نفسها، وضمـن مشـروع جمـع النقـوش العربيـة آنـف الذكـر، نشـر ماكـس فـان برشـم العديـد مـن الدراسـات والأبحـاث التـي اعتمـد فيهـا بشـكل أساسـي على ما جمعه من نقوش في زياراته العلمية سنوات 1891م و1892م و1893م، التـي فاقـت 230 نقشًا كمـا كان طموحـه إصـدار جزء خـاص بدمشـق مـن ضمـن منشـورات مشـروعه فـي النصـف الأول مـن القـرن العشـرين، وبـدأت ثمـار الأعمـال الألمانيـة بالظهـور إمـا مع دراسـات مكرسـة بكاملهـا للنقوش الكتابية مثـل مورتـز سـوبرنهايم تلميـذ فـان برشـم الـذي نشـر النقـوش الكتابيـة فـي قلعـة دمشـق أو دراسـات كان للنقـوش الكتابيـة فيهـا حضـور مهـم كإرنسـت هرتزفيلـد فـي بحثـه عـن العمـارة الدمشـقية وصروحهـا والمهندسـان كارل واتزينجـر وكارل ولتززينجـر فـي دليلهمـا الشـهير عـن المبانـي الدمشـقية الـذي كان نتيجـة عملهمـا الميدانـي قبـل الحـرب العالميـة الأولى سـنة 1913م كما قام المستشرق الفرنسي جاستون فييت من القاهرة بنشر العديد من الدراسات في فترة العشرينيات من القرن العشـرين، وكانـت لدمشـق حصـة فيهـا، كمـا تعـاون مـع العالـم الشـهير جـان سـوفاجيه المقيـم فـي سـوريا ضمـن إدارة الانتداب الفرنسـي فـي إصـدار سـجل الكتابـات العربيـة التـي بـدأت بالظهـور منـذ سـنة 1931م.

ويضيف "ديوب" النقـوش الكتابيـة الدمشـقية جزءًا أساسيًا من المعلومات العديدة والمهمة التـي نشـرها سـوفاجيه وخاصـة مراسـيم سلاطين المماليـك، كمـا كانـت عنـده الرغبـة بإكمـال مـا بـدأه فان برشـم بإصدار الجزء الخاص بدمشـق، لكن انشـغالاته الأخرى كانـت تؤجـل المشـروع، ومـن ثـم جـاءت المنيـة التـي عاجلتـه باكـرًا قبـل تحقيقـه، وخلال هـذه الفتـرة أصـدر ليـو مايـر كتابـه عـن الرنوك الإسلامية سـنة 1933م حاويًا عددًا لا بأس به من الكتابات المملوكية فـي المدينة، وتميـز النصـف الثانـي مـن القـرن العشـرين بعمـل تلميـذي جـان سـوفاجيه، دومينيـك سـورديل (وزوجتـه جانيـن سـورديل توميـن) علـى إحيـاء مشـروع فـان برشـم وأسـتاذهما مـن بعـده إصـدار جـزء خـاص أو مدونـة للنقـوش الكتابيـة الدمشـقية مـع العديـد مـن المقـالات فـي هـذا المجـال دون أن ننسـى المـؤرخ والمستشـرق الفرنسـي الشـهير نيكيتـا إليسـييف الـذي نشـر العديـد مـن نقـوش المدينـة السـلجوقية والأيوبيـة، كمـا ظهـر العديـد مـن الدراسـات والكتـب المهمـة التـي لا غنـى للدارسـين عنهـا حتـى الآن، حيـث قـدم الألماني هاينـز غاوبـه كتابًا عـن النقـوش الكتابيـة فـي سـورية وكان لدمشـق فيـه نصيـب كبيـر، والأمريكي بـول شـيفدن درس خلال عرضـه لتطـور القلعـة النقـوش الكتابيـة التـي كانـت مصـدرًا لا يرقـى إليـه الشـك، وأخيـرًا الفرنسـية صوالنـج أوري التي نشرت شواهد القبور من أكبر وأقدم المقابر الدمشـقية وهـي مقبـرة البـاب الصغيـر فـي جنـوب السـور، وفـي قرننـا الحالـي تابـع جـان ميشـيل موتـون تلميـذ سـورديل محاولـة إصـدار مدونـة النقـوش الدمشـقية، فـكان الكتـاب الأول عـن السـور والبوابـات كما كان للعلمـاء المحلييـن أيضـا دورهم محاولين عدم ترك المجال للعلمـاء الغربييـن، ومجاراتهـم فـي هـذا الميـدان، مسـتندين علـى إرث كانـت الريـادة فيهـا لبعـض العلمـاء مـن أمثـال عبـدالقـادر النعيمـي الـذي ذكـر العديـد مـن النقـوش الكتابيـة فـي كتابه.

بوادر الخط في العراق والدولة العثمانية

أما الخطاط والباحث العراقي الدكتور صلاح الدين شيرزاد فيتحدث عن العراق والدولة العثمانية مشيرًا إلى أن بوادر المنحى الفني في الكتابة العربية ظهرت في أواخر الدولة الأموية في الشام، ثم نضـع هـذا الفـن واستكملت أركانه بشكل واضح في العصر العباسي، وكان في بغداد عاصمة الدولة العباسية الوزير ابن مقلة أول من وصلنـا منـه موازيـن الحـروف ومواصفات الخط الجميـل مـن خلال تشكل كلماته، وتنظيـم سـطوره، وتعـدد أنواعه، وبعـد ابـن مقلة تعاقب على الاشتغال بفـن الخـط سلسلة من الخطاطيـن البغداديين، أبرزهم الخطاط علـي بـن هـلال ابـن البـواب، وياقوت المستعصيمي، وهـذا الأخير قد استمر في عمله حتى بعد سقوط بغداد على يد المغول بقيادة هولاكو عام 656هـ/1258م، وعلى الرغم من أن مـن نـجـا مـن السلالة العباسية من مقتلة المغـول قـد هـريـوا إلى مصر، وواصلوا حكمهـم الصـوري مـن هناك كخلفاء عباسيين، فعلى مدى ثلاثة قرون بعد سقوط بغداد حمل 16 خليفة لقب الخليفة العباسي. بعد أن كانت مدينة بغداد رأس المدن وأم البلاد، عادت بعد سقوطها مدينة عادية، يعين لهـا وال أو وزير، فلم يبق لها قيمة سياسية، ولا منزلة علميـة وبدأت تفقد مكانتها الإدارية. وتقلص نفوذهـا فـي العالم الإسلامي، حيث هجرها الكثيـر مـن العلماء والفنانين، بسبب عدم الاستقرار، إلا أنها لم تخل تمامًا مـن بعـض الأنشطة العلمية والفنية، ومن بينها الخطاطة؛ لأن هذا الفـن يـكـن مرتبطًا بحرفة الكتابة والتدوين بشكل عام، وهـذه لم تتوقف كليًا، ولا سيما في مجال نسخ المصاحف، ومع ذلك لم يظهـر فـي هـذه الفترة وما تلاها أساتذة كبار بمنزلة أسلافهم من العصر العباسي.

ويضيف "شيرزاد": عندما ظهر الدين الإسلامي في الحجاز تنامت حاجة المسلمين إلى تعلم القراءة والكتابة للتعامل مع الكتاب المنـزل الله تعالى، وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: تدوينًا ودراسة وحفظًا، وكانت عملية تعليم القراءة والكتابـة تـتـم فـي أمـاكـن ملحقة بالمساجد في غالب الأحيان، سميت بالكتاتيب، وهي بمثابة مدارس للمراحل الدراسية الأولى، وكانت هذه المؤسسة التعليمية امتدادًا لما كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث أسهمت في تعليم المسلمين القراءة والكتابة، ثم استمرت في أداء مهمتهـا فـي عصـر الخلفاء الراشدين، ومـن بعـدهـم فـي عصـر الدولة الأموية وكانت الكتاتيـب عـلـى نـوعيـن نـوع تخصص في تعليم القراءة والكتابة، ونوع لتعليم العلوم الدينية، كعلـوم القـرآن والحديث والفقـه وغيرهـا، إن أبجدية الكتابة التي كان التلاميذ يتعلمونها، إنمـا هـي مرسـومـة علـى وفـق نـوع الـخـط السائد فـي ذلـك الـزمـان، ففـي عصر النبوة والخلفاء الراشدين، وفـي صـدر العصر الأموي كان الخط الذي سمي فيما بعد بالكوفي، بجميع أشكاله ومسمياته، هـو السائد في الاستخدام. وبالتالي كان مقررًا فـي التعليـم، وأخمـن أنـه كان التعليم بأبسط أشكاله، كالمشـق والليـن مثـلاً. ولمـا تنوعـت صـور الخطـوط في العصر العباسـي ومـا بعـده، وظهـرت أنواع مختلفة، يحمـل كل منهـا تسمية خاصـة، كان مـن المرجح أن يبدأ التعليم بأبسط تلك الأنـواع أيضًا.

ويضيف الخطاط والباحث العراقي الدكتور صلاح الدين شيرزاد: إن المشتغلين بفن الخط العربي، منذ تلك العصور المتقدمة، قد وجدوا أنفسهم في المراحل الأولـى مـن هـذا الفـن بالضرورة، بسبب كـون هـذه المرحلـة هـي مرحلة مشتركة بين جميع الطلاب الذيـن يبدأون حياتهم بالتعليم الابتدائي. وهـذا عـامـل مسـاعد لتكوين الخطاطيـن لـم يتـأت لأيـة فـئـة أخـرى فـي مـجـال الفنـون. ومـن العوامل المؤثرة التي كانـت تـحـفـز التلاميذ لتحسين خطوطهم؛ هو أن كثيرًا من الدوائر الحكومية كانت تقيـن موظفيهـا بنـاء على أهليتهـم الكتابيـة وحسـن خطوطهم. وحتـى خارج الدوائر الحكومية كانت فرص العمل الحر، وكسب الرزق مـن خـلال امتهان الخط متاحة، ومهنة الوراقة، والنساخة مثالًا واضحًا علـى ذلـك.

ويضيف "شيرزاد": فـي العصر العثماني فإن المؤسسة التعليمية، التي تشكل الكتاتيب مرحلةً أساسيةً لها قد استمرت في تنشئة خطاطي المستقبل وإعدادهم. ولكن الوضع فيما بعد، وفي ظل المتغيرات لم يعد كما كان في حصر العملية التعليمية بهذه المؤسسة فحسب، بل صـار للتعليـم الخـاص دور مضـاف مـهـم فـي إعـداد الخطاطين، ولاسيما في المراحل المتقدمة، خاصة مع ظهور الخطاط هاشم البغدادي الذي ولد في آخر سـنـي عمـر الدولة العثمانية، وهو البقعة اللامعة فـي هـذه الفترة مـن تاريـخ الـخـط العـربـي فـي الـعـراق. ولا سيما أنـه مـن خـلال نتاجاته، ومن خلال كتابه التعليمي، بالإضافة إلى تلاميذه؛ قـد أسهم فـي امتداد دوره، وفي اتساع البقعة المضيئة، وهـذا مـا نـرصـده حتى يومنا هذا.

الإرهاصات الأولى للنشأة

ومتحدثا عن "مصر" يقول الأستاذ الدكتور محمد حمزة إسماعيل الحداد أستاذ الفن الإسلامي والآثار الإسلامية وعميد كلية الآثار ومساعد رئيس جامعة القاهرة السابق يقول: النماذج الباقيـة مـن الأدلة الأثرية الباقيـة فـي مـصـر مـع مقارنتها بما يعاصرهـا فـي الأقطار العربية الإسلامية الأخرى من حيث الشكل ومن حيث المضمون أسهمت بدرجة كبيرة في التعرف على الإرهاصات الأولى أو المبكرة لنشأة المدارس المحلية للخط العربي بعامة، والمدرسة المصـريـة فـي فـن الخـط العـربـي بخاصـة مـن جهـة، ويتضـح مدى أهمية موضوع الخط العـربـي فـي مـصـر، حيث درسنا النماذج الباقيـة للخـط العربي المسجلة على كافة الوسائط والمـواد الأثرية فـي مـصـر والأقطار العربية الإسلامية الأخـرى التـي تـرجـع إلـى مـا قـبـل قيام الدولة العباسية، وتغطـي هـذه النماذج الباقية الفترات الثلاث للتاريخ الإسلامي المبكر وهـي عصـر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعصـر الخلفاء الراشدين، وعصـر الخلفاء الأمويين، ولما كانت هذه النماذج الباقيـة تعـد مصادر أصيلة مباشرة وأدلة مادية أثرية لا تكذب ولا تتجمل وبالتالي فهي تسد الفجوات وتملأ الكثيـر مـن الفـجـوات فـي التاريخ الإسلامي المبكر، وتتوافق وتتطابق فـي كثيـر مـن الأحيـان مـع مـا ورد في المصادر والروايات التاريخية العربية الإسلامية من جهة، وتضيف معلومات جديدة لـم تـرد فـي هـذه المصادر وتلك الروايـات مـن جهـة ثانيـة، وتنسـف کل ادعاءات وأباطيل وأكاذيب وزيف وفتاوى التيار الاستشراقي الجديد حول التاريخ الإسلامي المبكر من جهة ثالثة.

وأضاف "الحداد": هناك العديد من النتائج الجديدة في مجال دراسة الخط العربـي فـي مصـر والأقطار العربية الإسلامية قبل عام 132هـ / 750م سواء من حيث الشكل والظواهر اللغوية والماليوجرافية (الخطية) فضـلا عن تطور أشكال الحروف وتلمس الإرهاصات الأولى أو المبكرة في تطور الخط العربي خلال التاريخ الإسلامي المبكر عامة، ونشأة المدارس المحلية أو الفرعيـة للخط العربي خاصـة، والمدرسة المصـريـة علـى وجـه أخـص، وهـذه النتائج مبسوطة وموثقة ومؤصلـة، أمـا مـا يتعلق بالقيمة التاريخية والحضارية للخط العربي في تلك الفترة المبكرة فإن العديد من النتائج الجديدة التي أثبتت تاريخية التاريخ الإسلامي المبكر ومـا يرتبط بذلـك مـن شـخصيات وعلى رأسها الرسول الكريم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين والخلفاء الأمويين، فضـلا عـن الأحـداث التاريخية والفتوحـات العربية الإسلامية وعلى رأسها الفتح العربي الإسلامي لمصر، وكل ذلك يبطل المنهج الاستشراقي الجديد بعد أن تربع على عرش البحث العلمي المعاصـر فـي أوروبا وأمريكا خلال الخمسين سنة الأخيرة، ومن ثم سقوط نظرية (لا تاريخ بدون آثار) المتعلقة بالتاريخ الإسلامي المبكر، وهـذا مـا يؤكد أهمية تكامل المنهج العلمـي بين التاريخ والآثار فـي إثبات الحقائق التاريخية أو نفيهـا أو حسـم الخلاف بين المؤرخيـن وترجيح الآراء الصحيحـة علـى الآراء المدسوسة وغير الصحيحة، بل وإضافة حقائق ومعلومات جديدة لـم تـرد أصـلا فـي المصادر والروايات التاريخية العربية وغير العربية.

خصوصية الخط المغربي

وفي الختام، يعرّف الباحث المغربي الدكتور محمد عبدالحفيظ الحسني (عن المغرب العربي) أنه يجب التمييز بيـن "الخط الفاسي" الذي كان خطأً تحريريًا استعمل فـي تحـريـر الكتب العلمية والمراسلات السلطانية، وهـو (الخـط المجوهـر الـذي كانـت صـور حروفه معلومة، وبين "القلم الفاسي" الذي كان (قلمًا حسابيًا) تُستعمل فيـه صـور حـروف الخط المجوهـر استعمالًا وظيفيًا فـي حسـاب التركات والمواريث، حيث يرمـز كـل حـرف مـن حـروفـه إلـى قيمة عددية أو حسابية محددة، ولأن العثمانيين كانوا ينعتون المغرب السعدي بـ«دولـة فـاس»؛ فقـد تـم وسـم الخـط المغربـي خـلال هـذا العصـر بتسمية: «الخـط الفاسي»، باعتباره «وحـدة» قائمة بذاتها تنضوي تحتـه عـدة خطوط وأصناف تمثله، وذلك لتمييزه عـن الخـط المشرقي الذي كان هو الآخـر «وحدة» تتفرع منهـا عـدة خطوط وأصناف مشرقية من بينها؛ الخطوط الديوانية العثمانية الهمايونيـة التـي فرضت على سائر الإيالات العثمانيـة بـمـا فـي ذلك الإيـالات الشمال إفريقية؛ ليبيا وتونس والجزائر. ولأن «الخط المجوهـر» أيضًا كان هو الخط الأكثر إقليميـة بالمقارنة مع الخطوط المغربيـة الأخـرى؛ وذلك بالنظر إلى اعتمـاده خطًا «ديوانيًا» رسميًا في تحرير المكاتبات والمراسلات السلطانية بالمغرب، وكذا اعتماده خطا نساخها، أو، وراقيًا، في نسخ الكتب العلمية وأعمال الوراقة، فضلاً عن اعتماده خطًا «تعليميًا» في تدريس العلوم الشرعية بجامعة القرويين بفاس وهـي أقـدم جامعـة عالمية: فإنه كان من الطبيعي أن ينال صفـة إقليميـة محددة، وتسمية مميزة، تميزه عن غيره من الخطوط، ألا وهي تسمية: «الخط الفاسي»، حيث نسـب إلـى «مدينـة فـاس» مهـد جامعـة القرويين، كما نسب أيضًا إلى «دولة المغرب الأقصى» وهـي: «دولـة فـاس، كما كان يعرفها العثمانيون منذ العصـر السعدي.

ويضيف "الحسني": لم يرفض المغاربة كل ما جاء إليهـم مـن المشرق، فقد قبلـوا ترتيب الحروف الهجائية مع اختلاف يسير، كمـا تبـنـوا قانون الإعجام والإهمال الذي جـاء مـن المشرق، إلا أنهم اختلفـوا مـع المشارقة فـي إعجـام بعـض الـحـروف (نقـط الفـاء بواحـدة مـن أسفل، والقاف واحدة من أعلى)، ومما يلاحظ أيضًا فـي كتابة المغاربة؛ نقـط حـروف: الفـاء والقـاف والنـون والياء فـي حالـة التطرف، وفي تقييمـه لـهـذه المسألة، رأى ابـن شـريفة أنه لا يمكـن تحديد المرحلة التي ظهـر فيهـا هـذا الفرق بدقة، ثم ذهب إلـى افتراض ظهـوره قبـل القـرن الرابع الهجـري، منطلقًا فـي ذلـك مـن مـخـطـوط قيرواني كتب بالخط الكوفـي فـي الثلث الأول مـن القرن الرابع للهجرة، يبدو مـن خـلالـه بـوضـوح نقط الفاء والقـاف حسب الاستعمال المغربي. ولعل ظهـور هـذه الخصوصيات الخاصـة بالإعجـام والشكل في الخط القيرواني، هو ما سمح بانتقالها إلى الخط الفاسي عبر الخط الأندلسي، وذلك بحسب الترتيب الكرونولوجـي والمسار التطوري للخطوط المغربية عبر محطاتها التاريخية.

ويختتم الباحث المغربي الدكتور محمد عبدالحفيظ الحسني حديثه بالقول إلى أن الخط المغربي بدأ يعرف خصوصيته الإقليمية بشكل بارز منذ العصر ولترسيخ تلك الخصوصيـة فـي الخـط وفنـونـه حيث كوّن أحمـد المنصور الذهبي مدرسة الخطاطين، وتدريس الخـط علـى أصوله، وبـدأ الخط المغربي التجربة الرائدة يأخذ شكله النهائـي فـي هـذا العصـر، فبـدا متميزًا عن باقي الخطوط المتداولة في الغرب الإسلامي، وبدأت تتضح أصنافـه وأنواعـه وأساليبه.