مرفأ قراءة... هوامش على كتابات السيرة الذاتية العربية
- 1 -
أزعم أنني من هواة قراءة السير الذاتية في الأدب العربي منذ زمن بعيد. فن السيرة الذاتية واحد من أقرب فنون السرد والكتابة إلى روحي، وعقلي، انغرست محبتها في قلبي منذ سنواتي الأولى المبكرة مع القراءة، أُغرمت غرامًا حقيقيًّا بكل الكتب الشهيرة التي أنتجها كتابنا ومفكرونا الأوائل في مجال السيرة الذاتية؛ فلكل منها مذاق وطعم وطابع وبصمة.
إنها كما وصفها بصدق الناقد والأكاديمي المعروف د.صلاح فضل من أشهى أنواع القراءة وأحفلها بالمتعة، خاصة ما يتناول منها سير العظماء والمبدعين في جميع المجالات؛ لأنها لا تشبع الفضول العادي فحسب، بل تَعد بكشف الأسرار عن اللحظات الفائقة والمواقف الحرجة الدرامية، فهي تقع في تلك المنطقة المراوغة الملتبسة بين (التاريخ والفن)، بين التوثيق والبوح، بين خبرة الحياة الخصبة في فترات توهجها، ولذة المعرفة بخباياها الدفينة.
ويلاحظ نقاد الأدب والمنظرون له، كثرة كتب السيرة الذاتية بنوعيها؛ «الروائية» الفنية، و«الخالصة» التاريخية في العقود الأخيرة، وأنها أخذت تزاحم الأعمال الإبداعية، خاصة الأعمال السردية التي تتصدرها الرواية.
ويرى البعض في ذلك أن السيرة الذاتية هي نوع من البوح النفسي، وأن الإقبال عليها يتصاعد مع تزايد ضغوط الحياة المعاصرة على الكتّاب الذين تحل السيرة الذاتية -في إبداعهم لها- محل المحلل النفسي، أو محل رجل الدين الذي يتلقى اعترافات المثقلين بذنوبهم أو همومهم.
ويذهب البعض الآخر إلى أن الإقبال على كتب السيرة الذاتية من القراء يرجع إلى رغبتهم في تتبع أحوال الشخصيات الاستثنائية، واكتشاف تحولاتها الشعورية، ووقع تحديات الحياة وأحداثها الجسام على نفوس هذه الشخصيات التي ينزلها الجمهور من القراء منزلة النماذج العليا التي يستهدي بها، أو يقلّدها في سلوكها أو مواقفها.
- 2 -
على مدار ما يقرب من القرن، ظهرت مجموعة من كتب السيرة الذاتية الرائعة في أدبنا العربي وثقافتنا العربية المعاصرة. لو أخذنا مثالًا (من الصعب الحصر كليًّا)، لا أنسى درة كتب السيرة الذاتية في الأدب العربي (الأيام) لطه حسين.. و(حياتي) لأحمد أمين، وهذه السيرة تحديدًا لم تأخذ ما تستحقه من اهتمام وشهرة وذيوع، وهي عندي من أجمل وأروع ما قرأت في السيرة الذاتية.. و«معي» للمرحوم د.شوقي ضيف، و«قصة قلم» و«أنا» و«في بيتي» لعباس العقاد، و«على الجسر» لعائشة عبد الرحمن، و«العيش على الحافة» لشكري عياد.
كذلك ثلاثية د.زكي نجيب محمود العظيمة «قصة نفس»، و«قصة عقل»، و«حصاد السنين».. و(التاريخ الذي أحمله على ظهري) للمرحوم د.سيد عويس، و«الحمد لله هذه حياتي» للدكتور عبد الحليم محمود، و«حياتي في الشعر» لصلاح عبد الصبور، و«مذكراتي في السياسة والثقافة» لثروت عكاشة...
وسيرة إدوار سعيد الرائعة «خارج المكان»، وهي سيرة بديعة ومنجم معارف وخبرات لا تحد... وثلاثية الأكاديمي والمترجم القدير محمد عناني «واحات العمر» و«واحات الغربة» و«واحات مصرية»، وسيرة المرحوم جلال أمين التي سجلها في 3 كتب كاملة تستحق القراءة؛ «رحيق العمر»، و«مكتوب على الجبين»، وكذلك سيرة الدكتور عمار علي حسن «مكان وسط الزحام».
ولا أنسى من كتب السيرة الذاتية والفكرية والاجتماعية التي ظهرت في السنوات الأخيرة وحازت مقروئية عالية وانتشارا كبيرا كتابيْ محمود عبد الشكور الرائعين «كنت صبيا في السبعينيات»، و«كنت شابا في الثمانينيات» (سيرة ثقافية واجتماعية).. والجزءان الأول والثاني من مذكرات محمد سلماوي «يومًا أو بعض يوم»، و«عصف وريحان».. إلخ. وغيرها مما يصعب حصره في هذا الحيز.
- 3 -
من بين كتب السيرة الذاتية التي أحبها وأشغف بها شغفا متجددا أتوقف دائما عند سيرة توفيق الحكيم «سجن العمر»، وهي إلى جانب «زهرة العمر»، تمثل جانبا أصيلا من السيرة الذاتية والفكرية للرائد النهضوي مؤسس المسرح العربي، ورائد الرواية والقصة في أدبنا العربي المعاصر، الكاتب الراحل توفيق الحكيم (1899-1987).
في حوار سابق لي مع الكاتب والإعلامي المعروف الأستاذ إبراهيم عيسى أشرت إلى بعض ما رأيت في هذه السيرة غير المسبوقة في الأدب العربي.
توفيق الحكيم في «سجن العمر» كان متجردا تماما من كل لوازم النفاق الاجتماعي والوجاهة الاجتماعية وحدود العرف والتقليد والخطوط الحمراء.. كان صادقًا حدَّ الجرح، وأمينًا حد الوقاحة والقسوة! ومخلصًا حدَّ الإساءة أحيانًا (أو ما يمكن أن يعتبره البعض إساءة!)
ببساطة وسلاسة متناهية تحدث صاحب «عودة الروح» عن نشأته وجذوره وأصول والديه؛ تحدث عن أمه وأم أمه ورأينا بأعيننا نماذج لها امتداداتها حتى الآن في المجتمع المصري المعقد والمركب، عكس ما يتراءى للجميع..
كتب عن والده وكيل النائب العام فالقاضي ورئيس محكمة، وكشف ببراعة مذهلة كم التناقضات الشائكة التي حملتها شخصية والده من حزم وانضباط ونظام وتدقيق، وصولًا إلى الإفتاء بغير علم فيما لا يعلمه ولا يحسنه فتكون النتيجة بناء بيت لا مدخل معلوما له ولا مخرج..
وإذا كان البعض يدخل روايته الرائدة «عودة الروح» في إطار روايات السيرة الذاتية، فهي في النهاية مكتوب على غلافها الخارجي «رواية» وليست سيرة ذاتية صريحة؛ أي تُعامل بمنطق الروايات «الخيالية»، تقرأ وتحلل على هذا الأساس وليس باعتبارها سيرة ذاتية (حتى وإن تضمنت عناصر من السيرة الذاتية لكاتبها، لكنها صارت جزءًا من نسيج العمل المتخيل). وعادة ما يجمع فن السيرة الذاتية بين عنصرين بنائيين أساسيين في تكوينها، هما «التحقيق» و«التخييل».. «التحقيق» الذي يحيل إلى المرجع الواقعي التاريخي الذي تستقي منه السيرة تفاصيلها ودقائقها، و«التخييل» الذي يسمح بقدر من الانطلاق والتحرر من أسر الحقائق والوقائع والتفاصيل ويحلق إلى آفاق الفن والخيال وهو ما غلب على «عودة الروح».
في النهاية، تبقى «سجن العمر» تجربة مصرية صميمة عشناها بصورة أو أخرى في نماذج وتجارب وخبرات قريبة أو بعيدة! كان توفيق الحكيم جريئًا وقويا وصريحًا وحرًّا وهو يكتب «سجن العمر» التي أعدُّها (من وجهة نظري مع سيرة لويس عوض حبيسة الأدراج) من أصدق وأجرأ ما كُتب في أدبنا العربي المعاصر...
- 4 -
وبالإشارة إلى سيرة لويس عوض لا بد هنا من إيضاح لماذا هي «حبيسة الأدراج» حتى الآن؟.. ولماذا اعتبرها الكثيرون -وأنا منهم- من أجرأ السير الذاتية في أدبنا المعاصر حتى الآن إن لم تكن الأجرأ فعلا؟
والإجابة عن الشق الأول من السؤال؛ لأنها طبعت قبل وفاته بسنوات قليلة، وصدرت عن مكتبة مدبولي 1987.. وكان عنوانها «أوراق العمر» (سنوات التكوين)، وأشار في المقدمة وعلى غلافها الخارجي إلى أنها «الجزء الأول»، وللأسف توفي دون أن يظهر الجزء الثاني، ولا نعلم على وجه اليقين ما إذا كان استكمل كتابته من الأساس أما لا. ومن المعروف أن للدكتور لويس عوض كتاب شهير سابق عن سيرته الذاتية أيضا بعنوان «مذكرات طالب بعثة» التي كتبها بالعامية في شبابه.
ثم عقب وفاته، رفض أخوه الدكتور رمسيس عوض؛ باعتباره الوريث القانوني رفضًا باتًّا وتامًّا نشر الكتاب مرة ثانية أو إعطاء حقوقه لأحد..
أما الإجابة عن الشق الثاني من السؤال؛ فيمكن القول: إن سيرة الدكتور لويس عوض الذاتية هي إحدى الوثائق الأدبية والفكرية المهمة لفهم تجربته الفكرية، ولفهم الزمن الذي عاصره، بما تفيض به من حياة وتاريخ وأفكار، سيرة يعتبرها بعض النقاد والمؤرخين «أهم سيرة ذاتية في الأدب العربي الحديث».
في معرض المقارنة بين «سجن العمر» للحكيم و«أوراق العمر» للويس عوض، البعض يرى أن النص الأول قد يكون أجمل فنيا وسرديا؛ وهو بالفعل كتاب جميل جدًّا وصادق. لكنه في اعتقاد البعض أنه ليس جريئًا جدًّا، بمعنى أنه قد لا يرقى إلى جرأة لويس عوض في «أوراق العمر»، الذي شرَّح وفكك انتماءه الطبقي والاجتماعي في العموم، وانتقد بصراحة وعنف أفرادًا من أسرته البعيدة والقريبة على حد سواء، وكانت عبارته حادة قاطعة لكنها في الوقت ذاته حاسمة وتحمل قناعته الذاتية والفكرية والعقلية... (وللحديث بقية).
