مرفأ قراءة... «الزوجة المكسيكية»... بين المرجع والمتخيل!
إيهاب الملاح -
- 1 -
لم أتفاجأ بالإعلان (الأسبوع قبل الماضي) عن فوز رواية «الزوجة المكسيكية» للطبيب والروائي المصري إيمان يحيى بجائزة ساويرس للإبداع الثقافي (فرع الرواية لكبار الكتاب)، وهي جائزة ثقافية مرموقة، وتعد من أرفع الجوائز التي تمنح سنويا للمبدعين في الرواية والقصة داخل مصر. أما «الزوجة المكسيكية» فهي الرواية الأولى لصاحبها أو الثانية (ظنًّا وفي حدود علمي)، وقد استقبل خبر فوزها بالجائزة بقبول وارتياح ورضا في أوساط كثيرٍ من المثقفين والمهتمين بالرواية الجادة الرصينة في وقتٍ اختلط فيه الحابل بالنابل أو كما نقول في مصر (اختلط أبو قرش على أبو قرشين!) للدلالة على الفوضى وغياب المعايير، واشتداد الصخب والضجيج الذي يحدثه متواضعو المواهب الآن وما أكثرهم!
المهم. صدرت الرواية عن دار الشروق في 2017. وللأمانة فقد لاقت قبولًا نقديا طيبا، وكُتب عنها مقالات وقراءات عديدة جمع بينها، على تباينها في المعالجة والتحليل، التأكيد على براعة وموهبة كاتبها الذي بدا أنه عايش سيرة وحياة وتراث يوسف إدريس معايشة كاملة حد التماهي مع تفاصيلها ووقائعها، والمتتبعون للإنتاج النقدي حول يوسف إدريس سيعرفون أن مؤلف هذه الرواية قد تصدى لترجمة واحدٍ من أهم الكتب النقدية عن يوسف إدريس وتراثه الإبداعي والقصصي (إن لم يكن أهم ما كتب عنه فعلًا!) وهو كتاب «يوسف إدريس ـ قضايا الإبداع» للباحثة الروسية الكبيرة، والمتخصصة في الأدب العربي؛ فاليريا كيربتشنكو، وصدرت هذه الترجمة عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة سنة 2016.
وكذلك أجمعت المقالات؛ معظمها، على الإشادة الكبيرة بدقةِ وإحكام وتخطيط العالم الروائي «المتخيل» الذي صاغ من خلاله المؤلف حكاية أو قصة حب وزواج لم يستمر طويلًا بين كاتب القصة الأشهر في مصر والعالم العربي، وبين ابنة واحد من أشهر الفنانين التشكيليين في العالم؛ فنان الجداريات المكسيكي المعروف «دييجو أوليفييرا».
- 2 -
ويوسف إدريس (1935-1991) أشهر من كتب القصة القصيرة في مصر والعالم العربي. لا جدال في أن مؤرخي الأدب العربي المعاصر وهم يحددون إجرائيًا مراحل القصة القصيرة، ونشأتها وتطورها، ويبحثون عن معايير فنية وشكلية لتصنيف الإنتاج القصصي، يعتبرون ظهور يوسف إدريس (الذي لقبوه بتشيكوف العرب) مرحلة فاصلة وفارقة في تاريخ القصة القصيرة العربية.
القصة القصيرة قبل يوسف إدريس شيء، وبعد ظهوره وإعلانه عن نفسه ككاتب قصة قصيرة، بصدور مجموعته الأولى «أرخص ليالي» 1955، شيء آخر. انطوت حياته وسيرته على كثيرٍ من الصخب والعنف والضجيج والاشتباك والمعارك التي لا تنتهي؛ كانت حياته عاصفة وشخصيته ذات عنفوان، هادرًا كالشلال، لا يهدأ ريثما يلتقط أنفاسه كي يستعد لاشتباك جديد ومعركة فكرية وثقافية (وقبلهما سياسية) تلو الأخرى.
- 3 -
ليوسف إدريس رواية مهمة؛ اسمها «البيضاء»، أثارت اهتمام النقاد في حينها وحتى بعد صدورها بسنوات طويلة، ظلت محل اهتمام نقدي لافت، وقيل في تفسير من التفسيرات التي طرحت للرواية إن يوسف إدريس قد استلهم أحداثها من قصة حب سرية، مشبوبة تركت أثرها محفورا في أعماقه وإن لم يفصح عنها بأي صورة من الصورة.
استطاع الدكتور إيمان يحيى مؤلف رواية الزوجة المكسيكية وهو الذي يكاد يكون انغمس انغماسًا كاملًا في تقصي حياة وتفاصيل سيرة وحياة يوسف إدريس أن يضع يده على ما خفي من مناطق غامضة في هذه السيرة!
واتكاء على واقعة جرَت في حياة الدكتور إدريس خمسينيات القرن الماضي صاغ الدكتور إيمان يحيى سردية كاملة ومتخيلة تستلهم ما كشفه من وقائع وتفاصيل حول قصة حب وزواج الدكتور يوسف إدريس من ابنة الفنان المكسيكي العالمي «دييجو أوليفييرا».
هذه الرواية التي يقول عنها الناقد محمود عبد الشكور في معرض تحليله الذكي والرهيف لها «ليست رواية عادية ولا عابرة. «الزوجة المكسيكية» لمؤلفها د.إيمان يحيى (والصادرة عن دار الشروق)، لا تستحضر واقعة مهمة ومنسية في حياة يوسف إدريس فحسب، ولا هي تحاول فقط اكتشاف ما وراء كتابة عمل مهم في مسيرة إدريس هو رواية «البيضاء»، ولكنها تطرح أسئلة خطيرة عن الفن والثورة والحرية، عن جيل الخمسينيات الذي تعذب بموهبته، وبأحلامه، وبطموحه، تطرح أيضًا أسئلة عن علاقة الفنان بالواقع، وبالسياسة، وبالأفكار الكبرى التي يدافع عنها».
توقع عبد الشكور لهذه الرواية «الظهور في قوائم أفضل الجوائز الأدبية، مصريًّا وعربيًّا، وأن تنافس عليها».
وقد تحقق ما توقعه الناقد المستشرف ونالت الرواية جائزة كبرى ومعروفة؛ والسؤال: لماذا حققت الرواية هذا التميز الظاهر؟ ولماذا تنبأ لها النقاد بأن تكون محل تقدير وتكريم منذ ظهورها قبل عامين تقريبا وهو ما صدقته الأيام؟
- 4 -
الإجابة فنيا يمكن اختزالها في كلمة السر؛ «التخييل»، و»التخييل» هو لب وجوهر عملية الإبداع عمومًا، والإبداع الروائي بشكل خاص. براعة الروائي؛ أي روائي، في قدرته على خلق وصياغة عالم روائي متكامل، يوظف فيه كل عنصر من عناصره في مكانه المعلوم، ويكون مشدودًا إلى غيره بإحكام وإتقان؛ إنه البناء الروائي الذي بموجبه نستطيع أن نقول إن هذه رواية جيدة ومتماسكة، وأخرى نَصِفُها بأنها ضعيفة ومتهافتة، ولا تصمد للمقارنة مع أي عمل روائي آخر.
نجح مؤلف رواية «الزوجة المكسيكية» في بناء عالم روائي «متخيل» يقوم على استلهام واقعة «حقيقية» حدثت في حياة يوسف إدريس، ثم تناسى تمامًا هذه الحقيقة (رغم توظيفه الدقيق لكل تفصيلة فيها)، وترك للخيال الروائي والمخيلة المبدعة العنان في أن تصوغ سرديتها الخاصة لمصائر الشخوص والأحداث التي يدفع بعضها بعضًا، وفي ثنايا ذلك يصوغ الروائي المكين أسئلته وهواجسه التي من أجلها خلق هذا العالم كله وصاغ هذا البناء المتماسك.
تستمد الرواية في مجملها قيمتها مما هو أكثر أهمية: من قدرة مؤلفها على تحويل البحث والاكتشاف إلى «فنّ»؛ أي بمعنى أدق القدرة على تحويل الواقعة (أو المرجع الواقعي الحقيقي) إلى واقعٍ فني متخيل، كجزء من بناء، ينطلق من الخاص والمحدود، إلى وصف الأجواء التي ولدت فيها رواية «البيضاء» لتؤدي بدورها إلى خلق ووجود «الزوجة المكسيكية».
- 5 -
ومثلما كتب يوسف إدريس روايته «البيضاء» بوحيٍ من قصة حبه لفتاة أجنبية، كتب إيمان يحيى «الزوجة المكسيكية» بإلهام من قصة حب وزواج يوسف إدريس غير المعلنة والتي لم تعرف على نطاق واسع لسنوات طويلة. وعبر خطين سرديين متماسكين ومتقاطعين يبدأ أولهما من بحث أكاديمي يجريه أستاذ أدب في الوقت الذي يقترب فيه من طالبة أجنبية ليقودنا إلى الخط الثاني وهو تحقيق وكشف قصة زواج وانفصال يوسف إدريس من المكسيكية روث ابنة الفنان التشكيلي المكسيكي الأشهر. كان يوسف إدريس نجما حقيقيا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكان ملء السمع والبصر ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي ودوائر الفكر والثقافة والإبداع في أوروبا وأمريكا اللاتينية وخاصة في دوائر اليسار العالمي.
قصة حب مشبوبة في روايتين مختلفتين، كتبتا في زمنين متباينين، تُلهم أولهما «البيضاء» الثانية «الزوجة المكسيكية» بطرح تساؤلاتٍ عميقة حول حلم المثقف بالتغيير، وعلاقته الملتبسة بالسلطة، وحلم المثقفين بالحرية والديمقراطية والدولة المدنية، وإرساء قيمة العدالة الاجتماعية.
