Untitled-1.ث
Untitled-1.ث
ثقافة

مرفأ قراءة... «الأيام» لطه حسين النص المؤسس لأدب السيرة الذاتية

06 نوفمبر 2021
06 نوفمبر 2021

- 1 -

كتب طه حسين سيرته الذاتية «الأيام»؛ التي صدر جزؤها الأول عام 1927 وهي تعد أول سيرة ذاتية أدبية، بالمعنى الأدبي والسردي الحديث، في الأدب العربي كله، وأول كتاب في الأدب العربي الحديث يكتسب اعترافًا عالميًا عارمًا، ويُترجم إلى لغات عدة. وقد تُرْجمت «الأيام» (الجزء الأول تحديدًا) إلى الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والروسية، والصينية، والعبرية.. ولغاتٍ أخرى كثيرة.

واعتُمِدَت «الأيام» المصدر الأساسي والرئيسي لكل ما يتعلق بحياة وسيرة وتفاصيل طه حسين؛ وكذلك لكل الدراسات التي تناولت حياة الأستاذ العميد، منذ مولده وحتى السنة التي انتهى فيها من كتابة الجزء الأول (1927)، ثم الجزء الثاني (1955)، وحتى صدور الجزء الثالث في سنة 1972.

كان صدور «الأيام» علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي كله، وفي كتابة أدب السيرة الذاتية، ولن نستطيع أن نحصر الكم الهائل من الكتَّاب والمثقفين والأدباء والمبدعين؛ شعراء وقصاصين وروائيين، الذين فتنوا بالأيام واعتبروها السبب الرئيسي في حبهم للأدب عموما، وافتتانهم بطه حسين وأسلوبه وإيقاعه اللغوي، بشكل أخص. ولا أن نحصر كذلك كم الدراسات والكتب والمقالات التي أُفردت للحديث عن الكتاب وتحليله من جوانبه كافة؛ السردية واللغوية والنفسية والاجتماعية والتاريخية... إلخ.

- 2 -

وفي رأي كثيرٍ من النقاد والباحثين العرب والأجانب، فإن هذه السيرة هي أروع ما كتب طه حسين من كتابة سردية حرة متدفقة، وقد أخرج منها ثلاثة أجزاء على مدار خمسة وأربعين عامًا؛ منذ العام 1927 الذي صدر فيه الجزء الأول المدوي الذي يقص فيه سنوات طفولته ويفاعته وصباه ونشأته بالجملة، وفي الثاني (كتبه للمرة الأولى عام 1940) يقص بعضًا من صباه وشبابه الأول قَصَصًا بديعًا، يتحول إلى اعترافاتٍ صادقة صريحة، وهي اعترافات يقول عنها الدكتور شوقي ضيف (أحد أهم من تتلمذوا على طه حسين في الجامعة): إنها لا تقل روعة وجمالًا عما كتبه أدباء الغرب المشهورون من أمثال: جيته وروسو وشاتوبريان؛ إذ يعرض طه ذكرياته عن طفولته وشبابه برقَّة وصراحة منقطعة النظير.

وهو يقص علينا في الجزء الأول كيف نما هذا الطفل الضرير وسط بيئته المتوسطة، وكيف أخذ يسيطر تدريجًا على صورة العالم الخارجي من حوله يرعاه حنان أبويه وسط دائرة كبيرة من الإخوة والأخوات. وينتقل بنا إلى الكُتَّاب الذي حفظ فيه القرآن، ويعرض علينا صورته في أمانة، لا يستر عيبًا ولا يخفي شيئًا؛ بل يضع بين يدينا كل النقائص التعليمية في هذا الكُتَّاب، الذي لم يستطع أن يقدم لعقله المتطلع شيئًا سوى القرآن الكريم. ويصف وصفًا مؤثرًا آلام أبويه لوفاة أخت له، كما يصف آلامه. وما تكاد الأسرة تفرغ من الجزع عليها؛ حتى فجعت بوفاة أخ من إخوته، نزعته من بينهم "الكوليرا".

- 3 -

وفي الجزء الثاني من «الأيام»، نراه يتبع أخاه إلى الأزهر؛ حيث زاول الدراسة القديمة فيه إلى جانب عمود من أعمدته، يستمع إلى هذا الشيخ أو ذاك. ووصف لنا في أثناء ذلك المصاعب التي واجهته، والإهمال الذي عاناه من أخيه، وأعطانا صورة دقيقة لحياة الأزهري الضرير من أمثاله في أوائل هذا القرن، وما كان يشقى به في غدوِّه ورواحه ويقظته ونومه. وكأنما كان يحمل في عقله آلة تصوير دقيقة، تسجل كل ما يقع حولها في دوائر الطلاب، وهو يتنقل بهذه الآلة بين حلقات الشيوخ المختلفين يلتقط ويختزن. ويظل في ذلك ثماني سنوات، قضاها بين الضجر والملل من حياة الأزهر الضيقة الراكدة حينئذ، ثم تفتح الجامعة الأهلية أبوابها، فينتقل إلى هذه الجامعة الجديدة، ويتتلمذ على أساتذتها المصريين والأوربيين.

وعلى هذا النحو يعرض الجزءان صُوَرَ المجتمع المصري في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ويجلوان علينا صورة الثقافة والتعليم في الكُتَّاب وفي الأزهر من جميع أطرافهما. ويتحول طه حسين إلى ما يشبه آلة دقيقة من آلات الرصد تُحصي كل هزة كبيرة أو صغيرة في محيطه، وهو يضع تحت عينيك هذا الرصد في صدق يخلبك، لا بأسلوبه فحسب؛ بل بصراحته ودقته وإخلاصه لحكاية الواقع بجميع حقائقه ودقائقه على هذا النحو الذي يتحدث فيه عن نفسه لابنته مقارنًا بين حاضرها الرَّغْد وماضيه:

«عرفته في الثالثة عشرة من عمره حين أرسل إلى القاهرة ليختلف إلى دروس العلم في الأزهر، إن كان في ذلك الوقت لصبي جِدٍّ وعمل. كان نحيفًا شاحب اللون مهمل الزي أقرب إلى الفقر منه إلى الغنى، تقتحمه العين اقتحامًا في عباءته القذرة وطاقيته التي استحال بياضها إلى سواد قاتم، وفي هذا القميص الذي يبين أثناء عباءته وقد اتخذ ألوانًا مختلفة من كثرة ما سقط عليه من الطعام، وفي نعليه الباليتين المرقعتين. تقتحمه العين في هذا كله؛ ولكنها تبتسم له حين تراه، على ما هو عليه من حال رثة وبصر مكفوف، واضح الجبين، مبتسم الثغر، مسرعًا مع قائده إلى الأزهر، لا تختلف خطاه، ولا يتردد في مشيته، ولا تظهر على وجهه هذه الظلمة التي تغشى عادة وجوه المكفوفين. تقتحمه العين ولكنها تبتسم له، وتلحظه في شيء من الرفق، حين تراه في حلقة الدرس، مصغيًا كله إلى الشيخ يلتهم كلامه التهامًا، مبتسمًا مع ذلك لا متألمًا ولا متبرمًا، ولا مظهرًا ميلًا إلى لهو؛ بينما الصبيان من حوله يلهون أو يشرئبون إلى اللهو.

عرفته يا بنتي في هذا الطور، وكم أحب لو تعرفينه كما عرفته، إذن تقدرين ما بينك وبينه من فرق. ولكن أنَّى لك هذا وأنت في التاسعة من عمرك ترين الحياة كلها نعيمًا وصفوًا. عرفته ينفق اليوم والأسبوع والشهر والسنة لا يأكل إلا لونًا واحدًا يأخذ منه حظه في الصباح، ويأخذ منه حظه في المساء لا شاكيًا ولا متبرمًا ولا متجلدًا ولا مفكرًا في أن حاله خليقة بالشكوى. ولو أخذت يا ابنتي من هذا اللون حظًّا قليلًا في يوم واحد لأشفقت أمك، ولقدمت إليك قدحًا من الماء المعدني، ولانتظرت أن تدعو الطبيب.

لقد كان أبوك ينفق الأسبوع والشهر لا يعيش إلا على خبز الأزهر، وويل للأزهريين من خبز الأزهر، إن كانوا يجدون فيه ضروبًا من القش وألوانًا من الحصى وفنونًا من الحشرات. وكان ينفق الأسبوع والشهر والأشهر لا يغمس هذا الخبز إلا في العسل الأسود، وأنت لا تعرفين العسل الأسود، وخير لك ألا تعرفيه...».

- 4 -

وبهذا الأسلوب البارع الذي يمس القلوب ويثير العواطف بما فيه من سلاسة وعذوبة وصفاء وقدرة على التصوير والتلوين، كتب طه حسين هذه السيرة الذاتية البارعة. وكان أهم ما يميز طه حسين في كتابه «الأيام»، كما يقول الدكتور شوقي ضيف، أسلوبه المتموج الزاخر بالنغم، فلا تستمع إلى كلام له حتى تعرفه بطوابعه المعينة في عباراته الملفوفة التي يأخذ بعضها برقابِ بعض في جرس موسيقي بديع.

وكأنه يرى أن الأدب الجدير بهذا الاسم هو الذي يروع السمع كما يروع القلب في آنٍ واحد؛ وهو لذلك يوفر لصوته كل جمال ممكن. ومن الغريب أنه لا يعدل عبارة يمليها، ولا يعد محاضرة قبل إلقائها، فقد أصبح هذا الأسلوب جزءًا من نفسه وعقله، فهو لا يملي ولا يحاضر إلا به، وكثيرًا ما تجد فيه الألفاظ المكررة، وهو يعمد إلى ذلك عمدًا؛ حتى يستتم ما يريد من إيقاعات وأنغام ينفذ بها إلى وجدان سامعه وقارئه...

(وللحديث بقية).