كيف ساهم النتاج الرقمي في فرض التحديات على الخط العربي؟
د. هالة الهذيلي: يبقى جوهر الخط في تمسكه بالضوابط التقليدية والتركيبية ويتعمّق ضمن سياقات التجريب والتنويع -
تاج السر حسن: التطور التقني مفيد في إبراز القيمة الفنية الهندسية والجمالية للخط وفتح الآفاق الجديدة -
محمود البطاشي: أهمية «الرقمية» تكمن في تعدد إنتاجاتها وتقنياتها التعبيرية وقد شكّلت التجارب إضافة للفنان المعاصر -
يسري المملوك: رغم الإمكانات التقنية المساندة إلا أن للخط العربي وظيفة روحية وجمالية لا يمكن الوصول إليها -
عند التأمل في الخط العربي كونه فنًا للكتابة بحروفه ومقاطعه وكلماته في كل الأشكال والصور البصرية فأنه يحيلنا لتاريخه القديم ومراحل تطوره المتراكم الذي سعى له الإنسان متأصلًا بالتوثيق والتواصل بأفضل وأجمل حلة انطلقت بالصورة، ثم الرمز، ثم المقطع إلى أن أصبح -في الأبجديات- مكونًا لصور كاملة التجريد تمثل أصوات اللغة، فأولها كان شكلًا خطيًا بسيط الهيئة، ولم يكن ذلك ليشبع الذائقة الفنية للإنسان، فنحا نحو تتويجها بهيئة عبّرت عنها الأساليب الخطية المتعددة منذ زهاء أربعة عشر قرنا مكونا متحفا عامرا بأساليبه وأنوعه وتعدد أشكاله.
ورغم الجهود الكبيرة التي بذلت للحفاظ على الروح التقليدية للخط وإعادة إنتاجه بالشكل الذي لا يتعارض مع روحه الأصيلة إلا أن التقنيات هي الأخرى أصبحت منافسًا شرسًا لتقديم رؤية مغايرة للخط.. يراها البعض أنها مهمة، ويعترض آخرون على ممارستها في حين يقبل الكثيرون العمل بها وفق القيمة الروحية التي يمثلها الخط وتلزم بمعايير ضوابطه التقليدية وسط ما تفرضه تحديات الوسائط الجديدة.. فكيف يرى الخطاطون هذه التحديات ومدى تأثيرها على واقع الخط العربي بتقليديته وحداثته..
بداية ترى الفنانة التشكيلية والخطاطة التونسية الدكتورة هالة الهذيلي الأستاذة المساعدة بالمعهد العالي للفنون الجميلة جامعة سوسة تونس أن الفنان العربي المعاصر يجد نفسه ضمن طفرة الرقميات الحديثة والعالم الافتراضي أمام تحديات مختلفة ومتعددة لضمان خصوصية التعبير النوعي لفنون الخط والحرف العربي بطرقه ونواميسه التقليدية.
وتقول «الهذيلي»: أنبت الفنان اليوم طرائق ومساقات بحث متجددة ليحفل بالخط ويصنع الهوية البصرية العربية الإسلامية في مجالات الثقافة الفنية المتنوعة. ومن خلال ما ذهبت إليه تجارب فنية في مجالات الخط لتأسيس مرئيات متحركة وإيقاعية وثلاثية الأبعاد فإن التحرر من القواعد الكلاسيكية أفرز عدة أشكال من التعبيرات الخطية الحرة ونذكر على سبيل المثال تجربة الفنان التونسي نجا المهداوي الذي حقق نقلة نوعية في رسم الحروف والانشغال بالحركة الداخلية للخط والليونة الشكلية التي يمررها في تصاميمه الخطية اللامقروءة ضمن تناسج بصري احترافي بامتياز.
يضبط الفنان أوجه تشابه بين الأعمال الخطية الخاصة به وفق طابع هندسي شكلاني وبتكوينات لونية شاملة يستلهم فيها الفنان جوهر الحرف العربي ويطبعه بسياق تعبير فني معاصر مطابق للمواصفات العالمية الراهنة، ونشيد بدورنا بتجربة الفنان العماني سلمان الحجري في تطويعه لفنون الخط وتركيباته الحروفية من خلال التعبيرات الشكلية واللونية واستئناسه ببرمجيات رقمية متنوعة تؤسس لنوعية خطية متجددة.
وتشير الفنانة التونسية هالة الهذيلي إلى أنه عندما يفكر الفنان اليوم في إدراج التقنيات التكنولوجية في فنون الخط فأنه يبحث عن انفتاحات وإثراءات نوعية للفنون الخطية، وتقول: برغم سقوط عدة تجارب في استسهال البرمجيات والوقوع في النتاجات المتشابهة والإخفاق في الإبقاء عن الدلالات الرمزية للحرف العربي فإننا نطرح المعيقات التي ساهمت في إنماء هذا الخوف من الوسائط الجديدة التي باتت منافسا مهمًا أمام الخطاط التقليدي وأمام الفنان المعاصر وبما أن الجهود الإبداعية للفنان اليوم تتجه نحو عولمة فن الخط وإعلائه كهوية بصرية ثابتة ومعاصرة في الحين ذاته فإن الاستئناس بثراء البرامج وتطويعها لخدمة الخط كان توجهًا لعدة تجارب عربية وغربية وجدت قوة مهمة في الحرف واعتباره ثيمة بحث معاصرة، إذن يبقى جوهر الخط في تمسكه بكل الضوابط التقليدية والتركيبية ويتعمّق أكثر ضمن سياقات التجريب والتنويع وإدراج التقنيات الرقمية بطريقة تساهم في نشره وتجديد الدلالات الرمزية بالناتج التعبيري الفني.
تحديات مفيدة للخط
من جانبه يقول الخطاط السوداني تاج السر حسن: هناك إشارة محقة، وهي أن الخط العربي تطور على صفحات المصاحف وعلى جدران المساجد، وهذه الإشارة تحيلنا إلى سمو الوظيفة التي اضطلع بها الخط أولًا، ونال بها بركات القرآن ليصبح فنًا عظيمًا ومركزيًا، تجمعت حوله سائر الفنون الزخرفية، وزيّنت به العمارة والصناعات، ثم ليصير في عصرنا الحالي مفردة تشكيلية مفتوحة على كل أشكال الإبداع الصوري العالمي، لذلك فأن التميز في الخط يتطلب موهبة كبرى، ومهارات عالية لا يحوزها سوى الصبور والحاذق من الخطاطين، فروعة المشهد تتجلى في المحافظة على التقاليد الأصيلة للخط كمكون تراثي فني يدلل على أن الخط العربي محفوظ كذلك ببركات القرآن، وأن روح التنافس في إنتاج وإخراج اللوحة الخطية منحتنا معرضًا حاول فيه كل مشارك أن يحقق الإجادة والإتقان، والارتقاء بلوحاته بتميزها في التكوين والتصميم.
وحول التحديات التي تواجه الخط العربي يقول الخطاط السوداني تاج السر حسن: يكثر الحديث ويتواصل بأن الخط العربي في صورته التقليدية يواجه تحديات بقاء وصمود أمام التطور التقني المتسارع ونشوء الوسائط الفنية الجديدة، فأنا لا أتفق مع هذا الحديث، ففي واقع الأمر أن هذا الجديد يفيد الخط من ناحيتين «الأولى» تكمن في إبراز القيـمة الفنية الهندسية والجمالية الكثيفة المتحققة عبر التاريخ الطويل للحضارة العربية الإسلامية، فهو بهذا الوصف تراث إنساني لا يمكن إغفاله أو تجاهله، أو محاولة وضعه في الحالة المتحفية الساكنة.. قيمة الخط التقليدي تكمن في كونه يكتب باليد الطيعة للإنسان، والتي لا يمكن بحال أن تماثلها معيارية الآلة / الحوسبة/ أو التقنية الرقمية، ولنا أن نعلم أن الثقافات الأخرى، لم تتخلَ عن فن أبجدياتها التقليدي، وإنما يستمر أهلها بالاحتفاء به وإحيائه جنبًا إلى جنب التفاعل مع العصرنة والتطور!
و«الثانية» تكمن في التقنية في الزمن الرقمي الحديث الذي تغلغل في شتى جوانب الحياة -كما وصفت-، تفتح آفاقًا جديدة، ولا بد لنا من مسايرة هذا التطور بتجديد صورة الخط في اللوحة التصويرية، وفي الجرافيك، وفي الوسائط الجديدة، وهذا ما يعمل عليه الجيل الجديد من المشتغلين بالرقمنة التي سيكون منتجها جامدًا وحسيرًا ما لم يتحلَ أو يستفيد من روح وجماليات وهندسة الخط التقليدي، هذا التطور التقني يفرض على الخطاط أن يواكب الجديد في التأهيل والتدريب ومتروك له خيار التخصص في الخط التقليدي والإبداع فيه بأفضل ما يكون، أو الانفتاح على الصورة المتجددة للخط وتطبيقاته الفنية المعاصرة.
مساهمة في الارتقاء
ومن وجهة نظر شابة يقول الخطاط العماني محمود البطاشي: إنه مع تسارع وتيرة التطورات التكنولوجية ونظم الذكاء الاصطناعي والتطور الملحوظ في برامج الحاسب الآلي والاتصال والمعلومات والتحديث المستمر في التطبيقات الرقمية، كان لا بد من الاستفادة منها وتوظيفها في كافة المجالات وبما فيها الفنون التشكيلية، ما زال كثير من الخطاطين عاكفين على استخدام الوسائل التقليدية في كتابة الخط العربي التي هي بلا شك واحدة من أشهر وأبرز وأهم الطرق المعروفة في إنتاج أعمال الخط العربي، ففي خضم هذه التجربة العربية الجمالية برزت لنا اتجاهات متعددة استلهمت من الخط العربي في الأعمال الفنية التشكيلية والتي تعرف باسم «الحروفية»، وقد فرض فن الخط العربي وجوده وأثبت نجاحه وملاءمته وقدرته على التطور ومواكبة التألق المستمر في مختلف العصور، وذلك لما يحتويه من سمات وخصائص مرنة وذات طواعية تلائم معظم المجالات التكنولوجية الحديثة والفنون الرقمية في تطبيقات الحواسب وغيرها، بجانب الأعمال الفنية التي تتماشى مع روح العصر بل وتسبقه والتي أثبتت أن هذا الفن لم ولن يقف أو ينتهي تطوره أو يقتصر على أشكاله الكلاسيكية القديمة فهو دائمًا في تجدد مستمر.
ويضيف «البطاشي»: الفنون الرقمية اليوم أصبحت إحدى الوسائل المساعدة سواء في إنتاج اللوحات الفنية أو في حتى التذوق الفني، ففي إنتاج اللوحات الفنية التكنولوجيا تُتيح استخدام خطوط وأشكال وألوان لإيجاد العلاقات الإنشائية والمرئية لتحقيق قيمة الجمال الفني، والتكنولوجيا تحوي أيضًا الكثير من المؤثرات البصرية والسمعية والحركية التي تؤثر في حواس المتلقي وتزيد من تأثره وإدراكه للعمل الفني.
وفي الختام يقول الخطاط العماني محمود البطاشي: إن أهمية الفنون الرقمية تكمن في تعدد إنتاجاتها وتقنياتها التعبيرية، وقد شكّلت تجارب الحروفيات العربية بالتقنية الرقمية لفن الحاسوب وأدواته وتحديثاته إضافة جديدة بالنسبة للفنان المعاصر، فساهمت بدورها في فتح آفاق جديدة وبلورت أساليب متعددة، تباينت مع إمكانيات البرمجيات والتقنيات الرقمية ودور الفنان ومخيلته في استخدام هذه الوسائط والتقينات بأسلوبه الخاص وفق فلسفته في التعبير عن اتجاهاته الفنية.
خطوط محوسبة
من جانبه يقول الفنان التشكيلي والخطاط المصري يسري المملوك: إن الخط لغة بصرية غاية في الثراء، يمكن أن نراه كقيمة جمالية فحسب، من خلال أعمال فنية معاصرة، تتناول الحرف بكل أبعاده الدلالية والجمالية كمفردة تشكيلية، فيرتقي بالمشاعر والوجدان، ويحقق المتعة البصرية.. ويمكن أن يكون الخط محملًا بنص ديني أو شعري أو قول مأثور أو حكمة أو كلمات لها دلالات نبيلة، وهو ما يسمو بالفكر والروح معًا، وكان للخط على مدى تاريخه قدسية خاصة، لارتباطه بالوحي وكلام الله المنزل، حيث كتبت به المصاحف، والتي تبارى الخطاطون في نسخها، كما كتب على جدران المساجد والعمائر الإسلامية، وتوالت ابتكارات الخطوط وتطويرها، على أيدي الخطاطين في مختلف العصور الإسلامية، وعلى امتداد العالم العربي والإسلامي، وقد أضفى كل بلد على الخط طابعه وشخصيته وثقافته.
ويضيف «المملوك» في سياق فكرة موضوع الاستطلاع: منذ ظهور الحاسوب في القرن الماضي، وتطور التكنولوجيا المتسارع، فقد أوجد إشكالية جدلية دائمة بينـه وبين فـن الخط العربي، فهناك فارق عظيم بين الموهبة التي أودعها الله في أنامل الخطاط، والتي تتسم بالمرونة والحس الرهيف، ليبدع بها أجمل الأعمال، وبين جهاز حاسوبي مقولب، يلبي حاجة العمل وسرعته، ولو على حساب الجانب الجمالي، رغم الإمكانات الحالية الهائلة في برامج الحاسوب، التي تعالج الكلمة فنيـًا، من حيث التجسيد والتلوين والتأثيرات المتنوعة، فالخط العربي له وظيفة جمالية إبداعية، تجلّت منذ بداية الإسلام، وكان لتدوين الوحي وكتابة آيات القرآن الكريم، ثم جمعها في المصحف الشريف، الدور العظيم في حفظه، ومن ثم ابتكر الخطاطون أنواعا عديدة من الخطوط على مدى أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، وطوروها ووضعوا ضوابط جمالية لها، ونقشوا على صحائف التاريخ أسماءهم بحروف من نور، وأصبح لكل خط سماته واستخداماته، وأذكر في هذا المقام قصيدتي بعنوان «خواطر حروفية في تجربتي الفنية» التي كتبتُ في أحد أبياتها: «الخطوط شخوصٌ لها أسرار ومداخل.. أبحث دائما فيها لتلبي احتياجاتي» ودلَّلتُ على ذلك، وخصصت لكل نوع من الخط بيتًـا من الشِعر، فقلت على سبيل المثال: «ثُـلث جليل ثري بتركيباته... يجذب القلوب ويلمس الوجداني»، «كوفي غني بتنوعه وكل أشكاله.. مُخلد على جدران المساجد والمباني»، «ديواني تراقصت حروفه وكلماته.. هو كالموسيقى يُكوِّن. أجمل النغماتي»، وهكذا في بقية أنواع الخطوط.
ويرى «المموك» أن الخطوط العربية المُحَوسبة «المعالجة حاسوبيًا»، فلها استخداماتها في طباعة الكتب والصحف والمجلات، وفي المطبوعات التجارية، كأسماء المنتجات ومواصفاتها، كما تستخدم خطوط الحاسوب في الوسائط الإعلامية المختلفة، وفي الرسائل العلمية وغيرها، ومن الخطوط المناسبة لهذا الغرض ما يطلق عليه «خط النسخ الصحفي» وتُـكتب فيه حروف النسخ على خط أفـقي مستقيم، وأيضًا الخط الكوفي الذي يمكن استخدامه في العناوين، وبعض أنواع الخط الحديث، ويتطلب لذلك متخصصون في الخط العربي، وأرى أهمية تعيينهم في المؤسسات المعنية، ليتم تدارك أي سلبيات سابقة قد تعرض لها الخط العربي كما أرى أنه لا مانع من الاستفادة بمعطيات التكنولوجيا، بحيث يتم توظيفها بشكل صحيح، وذلك في المطبوعات والإعلانات ووسائل الإعلام، وحتى في مجال الفنون، مثل الجرافيك والفيديو آرت.
ويؤكد الخطاط المصري يسري المملوك أن هناك خطوطا عربية أخرى شوهها الحاسوب، مثل الثُـلث والرُّقعة، وغيرها من الخطوط ويقول: إن أغلب تلك الخطوط وللأسف تعتمدها بعض الصحف والتلفزيونات دون وعي بقيمة وجماليات الخطوط العربية الأصيلة، وهذا يتطلب أن تقوم المؤسسات المعنية على مستوى العالم العربي بدورها، للحفاظ على هويتنا العربية وتراثنا الثري، والذي يمثل الخط فيـه جانبًا كبيرًا ومهمًا جدًا، كما يمثل قيمة فنية رفيعة، لها مكانتها الفريدة بين فنون العالم وسيظل الخط العربي بتاريخه العريق وقواعده الراسخة وأشكاله المتنوعة وشخصيته المتفردة، محفورا في وجداننا، ومصورا في أعيننا بجمالياته المتجددة والمدهشة، وقدراته اللانهائية في الابتكار والإبداع والتي تجسد إبداعات خطية في المجالين الكلاسيكي والمعاصر - لخطاطين وفنانين من مختلف أنحاء العالم ما يعكس القيم الابتكارية والطاقة الروحية التي تَسري في المشاعر وترتقي بالوجدان.