"سلمى" في لغة العشق والغياب
هل للأسماء دلالة معينة في الكتابة الإبداعية؟
قد نجد في قراءاتنا ما يشير إلى دلالات الاستخدام الرمزي والارتباط بمرجعية خارجية، وقد يكون ذلك من باب التشابه لا أكثر دون الارتباط بدلالة معينة، وهذا الحضور في حدّ ذاته بارز في غير نص من نصوص الأدب العربي، شعره ونثره، فقد أصبحت ليلى وسلمى ولبنى على سبيل المثال رمزاً للحب والعشق عند الشعراء على مرّ العصور، ثم اقترنتْ برمز دال على الكعبة المشرفة، أو بالاقتران بالأنثى في عملية الاتحاد والحلول وصولاً إلى الذات الإلهية عند المتصوفة. إنّ تتبّع الأسماء ومحاولة الكشف عن ارتباط نصي بالمرجع الخارجي موضوع جيد ونبش مهم؛ إذ تحيلنا الأسماء في الكتابة إلى تقاطعات نصية ودلالات معينة، لذا صارت أقرب إلى الاستخدام المقصود والتوظيف المعبّر في الكتابة الشعرية في تاريخها الشعري.
في قراءاتي لنصوص شعرية في الأدب العماني مرّ عليّ اسم "سلمى" في نصين لشاعرين مهمين في الكتابة الشعرية العمانية، نص (سلمى) للشاعر عبدالله العريمي المنشور في مجموعته (كونشيرتو الكلمات: 2015)، ونص (سلمى) للشاعر إسحاق الخنجري الذي سيصدر قريبا في مجموعة شعرية، وقد نشرت بعض مقاطع النص في الفضاء الإلكتروني.
يتقاطع النصان في دلالات العنوان واستحضار الاسم الدال على الأنثى في النصوص الشعرية القديمة، فاسم سلمى حاضر في الشعر العربي القديم كونه دلالة على العشق مثله مثل اسم ليلى، ودلالة رمزية عند المتصوفة في استحضار وإطلاق الصلة بين العاشق/ الشاعر والمعشوقة/ الكعبة في رحلاتهم الروحانية لأداء مناسك الحج والعمرة. يستحضر الشاعران دلالات الاسم في عتبة النص، ومنه ينطلق الشاعران في إبراز الدلالات المرتبطة بالعتبة، كما يتقاطع النصان في استخدام اللغة الرومانسية، واستخدام مفردات الغياب والبعد، لتصبح سلمى شخصية ذات ارتباطين مهمين، ارتباط قائم على لغة رومانسية شفافة تحمل الصور إلى سماوات الحب والعشق والوله والجمال، وارتباط قائم على مفردات الغياب والبعد والفقد.
تتسلّل سلمى في الاشتغال الرومانسي، ثم تتماهى في كل الموجودات، في الكون والحياة، هكذا يقرؤها كل من العريمي والخنجري، فسلمى لديهما ضوء يتسلّل من نافذة الحياة إلى الكائنات الأخرى، يقول العريمي عن هذا التماهي:
سلمى:
سألتك خبّئيني بين جفنيك.. ونامي
في كتاب الشعر
في كتب الصنوبر والمطرْ
ولترتدي كلّ العناصر.. والمدائن.. والشجرْ
كوني كما شئت لهذا الكون
قولي (كن...... يكن)
دلّي العصافير الصغيرة
والمراكب
والمرافئ
والسفرْ
ثوري على درب الغواية في الحكاية
واضبطي إيقاع خطوك في انكسار الليل
يمتلئ السراب
في كلّ زاوية ندسّ الفجر
كلّ قصيدة في الكون باب
كنّا نسامر حلمنا المثقوب غاليتي
وفي قلبي كتاب.
يتّضح من دلالات المقطع السابق أن عملية الانصهار مع الأشياء لا تتم إلا بحضور سلمى، فهي مختبئة في الشعر وكتب الصنوبر والمطر والمدائن والشجر والمراكب والمرافئ والسفر... إنها حاضرة في الموجودات التي يستقرؤها الشاعر، ويخبئها في الأمكنة التي يفضّلها، وهنا يظهر التعاضد بين المكان والشخصية، فالاثنان مرتبطان بوجود حيّ لدى الشاعر ويعبّر كل منهما عن الآخر.
ويقول إسحاق الخنجري عن اتحاد الأنثى وتماهيها مع الموجودات في الكون، حين يفتتح نصه بجملة إنشائية طلبية متمثلة في الدعاء بأن يترك الله سلمى وحيدة على هذه الأرض، إذ إنها متمثلة في رؤيته لها في كل شيء، في الكون والحياة وفي الحب وفي الغياب، يقول:
إلهي
اقتلنا جميعا
واترك سلمى
وحيدةً في هذه الأرض
مأخوذة بالجمر
والبحيرات البعيدة
اتركها
تشتهي الليل والشمع
والنوافذ الحمراء
سلمى الأكثر لذة من نبيذ الصبايا
ومن دمعة العاشق الأزرق
في الليالي الغريبة
سلمى البكاء الخفيف
في أول الشمس
والحنين الجارف
في آخر الظلام
برق اليتامى
وسورة الإخلاص عند الفجر
الحارسة الوحيدة
للمنافي والرعود
عطشى
تشبهين أجراس المسافر
وأغنية النار
المتعبة في الأعماق
تشبهين الموجة العذراء
وهي تذرف البرد على أحزاننا
ماذا تبقى عند النهر
غير تلك العظام التي تجرح القلب
وتترك الأشياء عارية في الصحراء
ماذا تبقى يا سلمى
أيتها الغابة الشقية
يا حرائق السطوح الباردة
موتى
حين ارتجفنا معا
وموتى
حين تقلدنا الأشجار والطيور
ها نحن كبرنا
أمام هذا النسر الجارح
ولم تعد أرواحنا
طليقة في الهواء...
يتفاعل نص الخنجري مع الطبيعة -تماماً مثل نص العريمي- مؤكداً على دلالات الاتصال والتماهي، فسلمى وحيدة على هذه الأرض، تشتهي الليل، ممتزجة بالشمس والحنين الجارف آخر الظلام، الحارسة الوحيدة للمنافي والرعود... إنّ سلمى ليست هامشاً في عملية التعبير والاستحضار، إنها محور رئيس تحيط بها الموجودات، وذاكرة تفاعلت معها الطبيعة فأشعلت المنافي، ودقّت أجراس المسافر، وتناءى لها الغياب.
لقد أوجدت مرادفات الغياب والبعد والفقد امتزاجاً مهماً مع اللغة الرومانسية ومع الطبيعة، فعندما يعبّر الخنجري عن دلالات البعد والغياب وحضور اللغة والطبيعة فإنه يوقظ الكائنات الشعرية النائمة في النص، ويمتدّ به إلى الأعالي، وها هو يعبّر عن ذلك حين يقول:
أيها الرب
امنحني بكاء البحر
وثلج المسافات
حتى أرى حبيبتي في الغياب
امنحني
ليلا طويلا من الدمع
علّني أجد الحمى
إلى نار عينيها
لم تكن تلك السماء الخائفة
في منتصف البرق
سوى هديلها الأخير
فامتزاج بكاء البحر وثلج المسافات حتى يتمكن من رؤية حبيبته في الغياب له إيقاعه ومضمراته الدلالية، وعندما يعبّر عن البعد بالسماء الخائفة وربطها بصوت هديل حبيبته الأخير فإنّ له إشاراته الدلالية أيضا.
كذلك يستخدم العريمي دلالات الغياب والبعد فتأتي مفردات: (المسافر، وغيابك العاري، وأعيد تكوين المسافة، ويلفّنا وجع التذكر والغياب، وفلترجعي كي ترجع الأنهار، وأيتها البعيدة) مرتبطة بعناصر الطبيعة، ودالة على مضامين فلسفية تكوينية في مسار الحياة الطويل، وهنا تمثّل سلمى عند الشاعرين اختصارا مهما لدرب الحياة، فتتجلّى وتتجسّد في مدلولات الحياة والكون ومظاهرهما. وعليه فإنّ العريمي يختم نصه بهذا التعبير الفلسفي:
يا للفجاءة
ما الذي سيصيب هذا الكون
أيّ خسارة ستشبّ في جسد الطبيعة والزمنْ
إن أنت لم تتكرري في أية امرأة تزور الأرض
أي خسارة للكون
يا سلمى القصيدة
والطبيعة
والزمن
إن أنت لم تتكرري
إن أنت لم تتكرري.
ويراوح النصان لغوياً بين استخدام الجمل الإنشائية والجمل الخبرية للدلالة على التعبير والوصف، فبعد استعمال العريمي لمجموعة من الجمل الخبرية يأتي المقطع الثالث باستخدام أساليب الاستفهام موجها خطابه إلى سلمى قائلا:
هل تذكرين تفتح العشب الصغير على يدي؟
سلمى:
نسيت تراك ماضيها معي؟
ونسيت كيف تكون في لغتي الحروف
لآلئ عذريةً
تغلي على جسد بهيّ
هل أنت أنت أميرتي؟
ثم يختم نصه بالأسلوب ذاته: يا للفجاءة ما الذي سيصيب هذا الكون؟ أي خسارة ستشبّ في جسد الطبيعة والزمنْ... وترد أساليب الاستفهام عند الخنجري باحثة عن لحظات الغياب عن سلمى بعد مجموعة من الجمل الخبرية:
ماذا تبقى عند النهر
غير تلك العظام التي تجرح القلب
وتترك الأشياء عارية في الصحراء
ماذا تبقى يا سلمى
أيتها الغابة الشقية
يا حرائق السطوح الباردة.
سلمى تتحرك في النصين مشكّلةً ثورة داخلية في النصوص، فرغم قصر النصين في سطورهما الشعرية فإنّ الدلالات مكثفة، والصور مركبة تركيباً يخدم المعنى الشعري، لتصبح سلمى أيقونة دلالية تستمد معانيها من لغة شعرية صافية، وتصبح في التشكيل الشعري لدى الشاعرين القصيدة التي يكتبها الشاعر، ويهمس باسمها وهو تشكيل أرادته لغة القصيدة حين همس الشاعران بامتزاج سلمى مع الشعر.
