ثقافة

رؤية المتلقي للأعمال الفنية بين بساطة الفهم وكثافة الغموض عند الفنان

28 يونيو 2021
من يسمو بفكر الآخر في الإنتاج والتلقي
28 يونيو 2021

تتبع الأعمال الفنية المتنوعة في تكوينها مدارس مختلفة ينتقي فيها الفنان التشكيلي ما يطاوع ميوله وما تعشقه فرشاته إلا أنه يصطدم في نهاية الأمر أن نتاجه النهائي الذي قد لا يصل لذهن المتلقي بحسب الفكرة التي أراد إيصالها في عمله، كما أن المتلقي هو الآخر يمعن النظر طويلا في لوحة قد لا تصل فكرتها إليه بالصورة المرجوة مما يبقى هو الآخر مصدوما من ذات النتاج الذي قد يتفق أو يختلف عليه البعض ... إذن حينما لا تصل مفردات اللوحة إلى فهم المتلقي بالشكل المطلوب فمن المسؤول عن ذلك هل هو في بساطة الفهم عند المتلقي أو في كثافة الغموض عند الفنان .. إن كان الأخير فلمن يرسم الفنان؟! وإن كان الأول لماذا لم يستطيع الفنان السمو بذوق المتلقي مع كثرة المعارض والعروض التي تتماس مع المتلقي في أغلبها والتي تعرض الكثير من النماذج التشكيلية بتقليدية بعضها وحداثة بعضها الآخر، هل يجب أن يصعد الفنان بذوق المتلقي أو يهبط الفنان لبساطة المتلقي؟ أم أن الفنان غير معني بذلك.. إن كان غير معني بذلك فمن الذي يسمو بذوق وفكر الآخر في هذه المنظومة؟!

بين العمل الفني والمتلقي

من وجهة نظرها تقول الأستاذة الدكتورة فخرية اليحيائية أستاذة الفنون بجامعة السلطان قابوس: إن كان فهم العمل الفني يعني وضوح المفردات البصرية للمتلقي؛ فهذا في حقيقة الأمر غير صحيح؛ إذ قد لا تعني الرموز والعناصر والمفردات الصريحة التي تشكل بناء العمل للمتلقي نفس المعنى لدى الفنان الذي أبدع العمل ذاته! لذا يمكن القول إن موضوع العلاقة بين العمل الفني والمتلقي ليس بالموضوع السطحي أو البسيط الذي يمكن أن تبنى عليه عملية فهم العمل الفني. كما أن محاولة فهم هذه العلاقة ليس بموضوع جديد؛ إذ أن عمر هذه العلاقة بدأت مع النتاجات الأولى للفنان البدائي، عندما حاول المتلقي أن يفك بعضًا من رموزها وخفاياها ثم نفس الحيرة تشكلت مع من عثروا على تلك الآثار الفنية. وهذا يعود بنا إلى الحديث الأول حول عالم الفنان الخاص؛ عالم غامض لا يمكن الولوج إليه من أي شخص بسهولة.

وتضيف «اليحيائية»: إذ كان المتلقي دائما يجد صعوبة في فك مقاصد الفنان ومضامينه حتى وإن كانت واضحة أو صريحة؛ فحديث الفنان البصري ليس بالحديث المباشر على مدار المدارس الفنية والاتجاهات والأساليب حتى وإن بدا الموضوع مباشر الرموز والعناصر.

إن محاولة فك رموز العمل الفني تنشأ في العادة بعد أن تنتهي علاقة الفنان بالعمل أو بعد أن يسلم الفنان عمله لقاعة العرض. فهل هي مهمة الفنان أن يصل إلى فكر المتلقي أم يجب على المتلقي أن يسعى جاهدًا لكشف خبايا العمل؟.

في حقيقة الأمر أن الفكرة التي تتبادر إلى ذهن الفنان دائما فجائية وقد تأتي بدون سابق إنذار لذا فمن المستحيل أن يفكر الفنان في النتيجة أو ما بعد النتيجة وهي ما تسمى بعملية التلقي أو أن يفكر في أثر العمل على المتلقي قبل أن ينتهي من لحظات التجلي الإبداعي. وكون أن الفنان يرى العالم بعيون مختلفة ويعبر أيضا عن عالمه الخاص لذا فان ما يقدمه للمتلقي يتجاوز الرؤية العادية أو القناعات المتوقعة لان العمل المنتج هو رؤيته الخاصة وعالمه الخاص وليس الرؤية الجماعية. ويخلط الكثيرون بين عملية التلقي وعملية التذوق وهما في حقيقة الأمر عمليتان مختلفتان ولكل منهما مسارها الخاص ومستوياتها ورغم أهمية كلا العمليتين في التفاعل الثقافي والفكري والجمالي مع العمل الفني والفنان.

ولذا حتى وان كان المتلقي العادي مشاركا في تأويل العمل أو محاولا المشاركة في رؤية وفهم العمل فعملية المشاركة في الحقيقة تجربة تختلف عن عملية المساس ببنية العمل الفني. كما تختلف هذه العملية بدرجات متفاوتة بين أنواع المتلقين؛ فهناك المتلقي السطحي الذي لا يجد من العمل الفني إلا الرموز الشكلية وهناك المتلقي المحترف الذي يبحث في خفايا وخبايا العمل، وبين المحترف والسطحي في التلقي تظهر مستويات أخرى في التلقي لا يملك الفنان سلطة عليهم أو قيود تحدد عملية التلقي ذاتها.

وتختتم الأستاذة الدكتورة فخرية اليحيائية أستاذة الفنون بجامعة السلطان قابوس حديثها بالقول: إن عملية فهم العمل الفني من قبل المتلقي العادي تتوقف بشكل كبير على المحاولات التي يبذلها المتلقي نفسه من حصيلة ثقافية ومعرفية وعلى الحرص والوعي المجتمعي في غرس أهمية الفن التشكيلي في الحياة بشكل عام؛ الأمر الذي بلا شك سوف يلعب دورًا في تحفيز عمليات الذائقة الفنية التي بدورها سوف تبني جسورًا من التواصل بين أطراف العملية الإبداعية الثلاثة الفنان والمتلقي والعمل الفني. عندئذ فقط سوف تتفكك قليلا الكثير من الرموز ولن يجد المتلقي نفسه تائها بل سوف يكون مشاركًا حقيقيا في العملية الإبداعية؛ إذ إن تفاعل المتلقي مع العمل الفني هو جزء من نجاح الفنان.

السمو بالفكر

وحول السمو بالفكر يقول الفنان التشكيلي عبدالكريم الميمني: لا ريب أن الأمر في كلا الحالتين يستقي أسبابه من مشارب متعددة ولكن أساسها في ظني هو ثقافة المتلقي الفنية وما يستند إليه من ذائقة جيدة تمكنه من استيعاب ما يقدمه الفنانين التشكيليين من أطروحات متنوعة، أما الفنان فهو يقدم فنه بما يحمله من مشاعر وأحاسيس داخلية نابعة من ذاته أو من مستجدات الحياة من حوله فيتفاعل معها بأدواته لينتج لنا أعمالاً بمفردات بصرية متنوعة، وعند عرض تلك النتاجات للجمهور نجد أن طائفة من المتلقين تتملكهم بعضاً من علامات الاستفهام التي لا يجدون تفسيراً لها من قبل منتجها الذي غالباً ما يتحفظ في تفسير عمله، ولكن في الحقيقة هذا أمر وارد في الفن وله مبرره الذي يجهله المتلقي.

ويؤكد «الميمني» : حتى لا يظلم الفنان نفسه ولا يظلمه الآخرون وليكون الفنان على قدر من الاتزان الحسي والثقة بالنفس بأن ليس كل ما ينتجه من فن مطالب بتفسيره وتوضيح معانيه للمتلقي، بل لربما لو تركه يستمتع بالتفكير المستغرق في إيجاد المعاني التي يستشعرها بإحساسه الخاص يكون أفضل له من حصر فكره وإحساسه بالعمل المشاهد في معنى واحد وهو فكر الفنان، في المجمل فإن أساس الحالة التي تنتاب الفنان بعدم رغبته في تفسير إعماله لها مسبباتها الفلسفية بعيدة الأغوار ومن جملتها أن الفنان هنا يبدأ في التعامل مع موضوعه الفني بخلفية غامضة غير مُشكّلة بالنسبة إليه، فتراه يباشر التخطيط بفرشاته وألوانه على نحو تلقائي مستنداً على الموضوع الذي يود التعبير عنه دون أن يتعمق لحظتها في دراسة العمل الفني فهو يريد أن يتحرك بحرية على سطح اللوحة أو الكتلة لأن ما ينبض في تلك اللحظة هو الإحساس الداخلي، ولكنه ما يلبث حتى يبدأ في التدقيق والتنميق ومراجعة الخطوط والأشكال بعد أن يفرِّغ بعضاً من مشاعره وأحاسيسه، ثم يمضي في عمله بخطوات لا ينقصها العزم لتقديم عملاً يحمل الإبهار في الطرح فيجد اللمسة أو النقطة من الفرشاة تحدد هيئة ومكان اللمسة والنقطة التالية ويستمر على هذا الحال إلى أن يجد نفسه في النهاية أمام لوحة فنية مكتملة لا يستطيع تفسير كثيراً من أصولها وأركانها غير أنها تشكل بالنسبة إليه شيئاً متعمداً صادقاً يحقق مقصداً ووجوداً حيوياً لا نستطيع أن نعطيها معنى على غرار المعنى الذي نعطيه الكلمة أو الرمز، بل قد تكون أبعد من ذلك فتصلنا إلى معان لأشياء كثيرة يختلف مدلولها باختلاف من يشاهدها من الناس ويعطيها كل واحد من المشاهدين تفسيرها واحتمالاتها التذوقية المختلفة، وتكون بهذه التفاسير في أوج قوتها فقط عندما لا نحاول أن نهبط بها ونخضعها لتفسير واحد.

ويختتم التشكيلي عبدالكريم الميمني حديثه بالقول: إن للعمل الفني الإبداعي طقوسا خاصة وجوانب متنوعة ولحظات فريدة تختلف من فنان لآخر منها جانب البيئة التي نما فيها ذلك الفنان، أو فردية الفنان ومشاعره وموروثه الفيزيولوجي والثقافي والمعرفي، أو عامل الخبرة الفنية التي تستند عادة لتجاربه الجمالية غير المعزولة عن سائر التجارب الإنسانية، فحتى ينتج الفنان عملا إبداعيا خالصا يجب أن يكون نشاطه العاطفي حي ومتقد، ومبني على التأمل الحسي للموضوع المعالج، ويعيش معه في حالة شعورية خاصة، قد يتقاسمها الفنان مع المتلقي، أو قد تخصه دون سواه، ليصل بفكرته إلى تصور بنائي لواقع معين له مفاهيمه وصوره ولغته فالعمل الفني دائماً ما نراه متورطاً في أزمات الحياة وتقلباتها، مندمجاً في النسيج اليومي وفاعلا فيه ويتجاوز مفاهيم سطحية كثيرة يعجز الكثير من الناظرين إليها عن فهمها فكل منتج إبداعي تقتحمه العديد من الأمور المتشابكة في حياتنا غير قادرة على الانفكاك منه، لذلك على المتلقي أن يتسلح بمعرفة هذا الجانب الخفي الذي يحيط بالفنان عند إنتاجه ليستطيع أن يستمتع بالأعمال الفنية ويتفاعل معها شعورياً ووجدانياً بأفضل طرق التلقي.

خبرة طويلة

من جانبها تقول الفنان التشكيلية نايلة المعمرية: إن قراءة اللوحات الفنية والمنتجات التشكيلية وتحليلها، عادة ما يحتاج لخبرة طويلة من المتلقي والمشاهد والمتذوق الفني، والكثير من المداخلات لا يعرفها الكثيرون من الناس، مما يجعلهم غير قادرين وليسوا مؤهلين لفهم ما تعبر عنه اللوحة أو المنتج الفني، أو ما يريده الفنان أن يعبر عنه من خلاله، ولكن أتوقع جميعنا يتفق على أن تذوق الفنون لا يختلف عليه اثنين، فأحيانا نشعر باللوحة من بعيد ومن النظرة الأولى التي تقع عليها أعيننا ، دون الحاجة لأن نفهم ما تريد أن تقوله لنا، لسبب بسيط جداً وهو أنها لمست شيئا نفسياً وفكرياً ما بداخلنا.

استطيع أن أقول أن الفن التشكيلي هو خلق واع لعمل ذي دلالة ومغزى معين، فاللوحة التشكيلية في نظري هي لغة مخاطبة المتلقي من غير كلمات، لغة عالمية وسلسة يفهما كل البشر، بدليل أن الإنسان منذ العصور الحجرية وثق وكتب عن يومياته وعن مجريات حياته من خلال النقش والرسم على الحجر وعلى جدران الكهوف برسومات ومفردات لها دلالات واضحة ومفهومة عند الجميع وبمختلف العصور الزمنية.

فاللوحة هي عبارة عن مزيج من المهارة والحس والخيال الذي ينتج لنا الإبداع الفني الذي نراه ونتذوقه، وهنا قد أراد الفنان أن يعلنها ويتقاسمها مع المشاهدين والمتذوقين الفنيين والناس الآخرين، ناقلاً لهم بعضاً من خبراته الإنسانية والفنية ليبقى تأثيرها عبر الأعوام.

وتضيف «المعمرية»: رموز اللوحة أو العمل التشكيلي مثل أحرف الكتابة وعلامات الترقيم التي نعرفها والتي تساعدنا في فهم وتحديد معناها، والتي تؤثر في ردة فعل القارئ للكتاب، وإن قراءة القارئ لأي كتاب يساعده على التخيّل للمشاهد المتنوعة حسب مجريات الكتاب، أما بالنسبة لنا كفنانين تشكيلين اللوحة أو المنتج التشكيلي يلعب دور المشهد نفسه في دواخلنا النفسية والفكرية.، فاللوحة كأي إنسان، مكونة من عدة طبقات نفسية، من سطحها وحتى أعماقها، فالفنان يعمل لفترات زمنية متفاوتة وبمزاجياته ونفسيات متباينة ففهم وقراءة العمل التشكيلي هو محض تأويلات تعكس لنا من هو المشاهد وبيئته الثقافية تماماً بقدر ما تعكس لنا من اللوحة. فهو يقرأ دواخل نفسه كما يقرأ من مفردات اللوحة، وهنا أقول لا يوجد خلل لا من المتلقي ولا من الفنان التشكيلي في عدم فهم وشرح اللوحة أو المنتج الفني، وإنما هي ذائقة فنية ترتقي برقي المجتمع نفسه.

مسؤولية متكاملة

ويؤكد التشكيلي يوسف النحوي: إن «المتلقي والفنان» في نفس المسؤولية والمستوى ولا نحمل احدهما مسؤولية عن الآخر.. فالفنان مرآة البلد وثقافتها ومن واجبه إظهار الجمال والمجتمع من واجبه أن يتقدم ويتطور في تفكيره من الناحية الفنية.. وغير منطقي أن يهبط الفنان في رسالته عن مستواه بل يرفع من الذائقة الفنية ويرفع من المفاهيم اللي يريد إيصالها بمختلف المدارس الفنية والإنتاج سواء الذي يشبع ذائقته أو الإنتاج الثقافي أو الإنتاج التجاري والمتلقي.

ويضيف «النحوي» الموضوع يحتاج له سنوات ووقت فنحن في السلطنة في تتطور مستمر ولكن عندنا خلل واضح يبدأ من المدرس وحيث لا يوجد للفنون التشكيلية قيمة حقيقية حالها حال مادة الرياضيات والكيمياء مثلا .. وهناك من ينتقص في مفاهيم المجتمع لهذه المادة المدرجة بشكل عادي وغير مطور في حين أنها أساس الابتكارات والإبداع في كل المجالات.. فلابد من إعطاء مدرس الفنون التشكيلية أهميته بين المجتمع فالفنون التشكيلية ليست مادة لمجرد الحصول على درجات وإذا رسب الطالب فيها تكون ردة الفعل من ولي الأمر غير منطقية!! كما يجب إعادة النظر في طريقة التدريس بحيث تكون مادة سلسلة التعامل يستمتع الطالب بالتعامل معها حتى يستوعب قيمتها الحقيقية، وهنا مربط الفرس فإذا اهتمت الجهات المعنية بالفنون التشكيلية فالمجتمع سيتقبلها وينغمس فيها ويعي أهميتها.

وفي المقابل لا يعاتب «النحوي» المجتمع ويقول: حتى نستطيع أن نعاتب مجتمعنا فيجب أن نسأل: كم متحف مختص بالفن التشكيلي في السلطنة وأُدخل الفن في منظومة الاقتصاد وغيره؟ هنا نحتاج إلى وقت ويجب أن يتغير من المؤسسات الرسمية في تغيير المفهوم لقيمة الفن وليس فن من اجل التسلية.. لابد أن يكون للفن دوره الحقيقي في المساهمة في منظومة الاقتصاد.

ويضيف التشكيلي يوسف النحوي: الفنان عنده رسائله وأهدافه ولا يحق له أن يتراجع بل أن يتقدم وأن يساهم في الاعتدال للوصول للمتلقي أو يرفع بالمتلقي معه.. فالحياد مثلا عن مفردات وكنوز البلد المليء بالثقافة يتطلب مراجعة لحسابات الفنان.. وليس هناك ما يمنع أن يقسم الفنان نفسه شطرين فيقدم أعمالا مفهومة وأعمالا غامضة والمجتمع يفهم البساطة ويبحر في الغموض من خلال الشعور والإحساس بالعمل، وباختصار على الفنان يصعد بذوق المتلقي وببساطته حتى يستطيع أن يصل بالمتلقي لفهم لوحة تجريدية إلى أقرب وأوضح فهم ممكن.

مسألة نسبية

وترى التشكيلية سامية الغريبية أن توافق نظرة الفنان مع نظرة المتلقي مسألة نسبية تختلف من شخص لآخر وترى أنه يستحيل التوافق بينهما لاختلاف ثقافتهما ونظرتهم الفنية بأبعادها ومحتواها فالبعض نظرته سطحية والبعض نظرته تأملية في مفردات ومكونات العمل الفني ودرجات التأمل تختلف من شخص لآخر.

وتقول «الغريبية»: إن الفنان حين يخوض في فكرة عمل جديد يعمل جاهدا لتوظيف خبراته الإدراكية والتأملية والتقنية بما يتوافق مع فكرته الأساسية وخلال العمل قد تتجلى له العديد من الأفكار والمفاهيم التعبيرية وغيرها ليصل لعمل تشكيلي برؤية فنية تشكيلية ذي قيمة حقيقية، فإن كان الفنان يعيش تلك المراحل التأملية والتفكير المطول لتوظيف المفردات للوصول لهدف أو رسالة من خلال عمله فهذا يستدعي منا أن نقدر منه ذلك الجهد والإنجاز الجمالي، فليس هناك ضير أن يجتهد المتلقي بفكره وأن يعيش التأمل ليصل إلى الفكرة الأساسية أو مقدار الجهد والعمل للوصول إلى لوحة فنية بذلك الإبداع. كما أن اكتساب قدرة التذوق عند المتلقي يقتضي تحسين مدخلاته التعليمية لأنواع الفنون ومدى ثقافته، فإن قلت تلك المقتضيات فسيصبح الحوار المعرفي بينه وبين الفنان لا قيمة له كما أن نظرته الفنية للعمل ستتسم بالقصور وعدم تقديره للقيمة المفاهيمية والتعبيرية ولا حتى تقنياته، لذا قليل ما نجد الحوار المعرفي للدخول للعمل الفني المعروض ومحاكمته ببصيرة ثقافية تهدف إلى تقصي دلالاته الجمالية.

وفي الختام تقول «الغريبية»: قد يرى البعض أن على الفنان أن يصل بمفاهيمه الفنية لمدارك المتلقي وذائقته وهذا في نظري غير صحيح فالتطور الذي يشهده العالم وتقنياته المختلفة تجعل الفنان في بحث مستمر وتغذية بصرية دائمة لما يتواكب مع الانفتاح وما يشهده العالم، وحقيقة الواقع تقول أنه لا تزال العلاقة بين الفنان والمتلقي هي الأهم والأقوى فهما شريكان في الفن وبغياب المتلقي الحقيقي الذي يفهم العمل الفني لن يؤدي الفنان رسالته ودوره في المجتمع، وسيبقى الفن غير مكتمل.

ساحة فتية

من فكرته يرى التشكيلي سالم السلامي أن النظر إلى عُمر الحركة التشكيلية العمانية مقارنةً بالحركات التشكيلية العالمية مهم ويقول: ساحتنا التشكيلية ما تزال فتيَّة وفي بداياتها نسبياً، فلو قلنا بأن تاريخ الحركة التشكيلية لدينا بدأت من ٤٥ عاماً فتلك حتماً مدة قصيرة بالنسبة للحراك التشكيلي في البلدان الأوربية الذي بلغ قروناً وأزمنة، وعند الحديث عن الفنان التشكيلي العُماني وما يقدمه من أعمال فنية تلخص تجاربه المتعاقبة فإنه لا بد لنا أيضاً أن نعرج إلى الجمهور من عامة الناس دون الحاجة إلى تصنيف هذا الجمهور إلى فئات ومراتب، كأن يقال مثلاً بأن اللوحات التجريدية هي لفئات معينة من الجمهور أو أنها للطبقة المثقفة، في حين أن الفن التشكيلي وُجد للجميع دون استثناء، فبطبيعة الحال لا قيمة للفن طالما هذا الفن لا يُقدّم للعامة .. لذلك في اعتقادي بأن المسألة وقتية، والتفاوت الحاصل في فهم اللوحة الفنية وما ترمز إليه من قبل المتلقي هو أمر صحي وطبيعي، نحنُ بحاجة إلى خمسين سنة أخرى قادمة تضاف إلى رصيد نهضتنا التشكيلية لنصل إلى التكامل الحقيقي والفهم العميق بين ما يطرحه الفنان والمتلقي على حد سواء، ولو نظر كل شخص منا إلى نفسه قبل عشرين سنة على أقل تقدير سيجد بأن فهمه للحياة لا يعادل فهمه للحياة اليوم، فالتجارب والممارسة وتراكم السنوات كفيلة بخلق مجتمع واعٍ يعي ما هو الفن، الفن الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية وهو فن تعدَّى من كونه من الكماليات، بل هو أساس يحتاجه الإنسان في ملء زمان ومكان لأنه وببساطة يضفي في النفس والمحيط الجمال والتأمل، وفي نهاية الأمر كل ما على الفنان أن يخلص في إيصال رسالته الفنية للمجتمع، فنحن ما زلنا في منتصف الطريق وسيكون للحديث بقية في عمرنا القادم والأجيال التي تلينا.

سباق للتأويلات

من جانبه يقول التشكيلي فهد المعمري: عرف الفن التشكيلي الممنهج منذ القرن الثامن عشر ونهاية القرن السابع عشر بقواعد المدارس وثباتها في طرح الفكرة وإيصالها للملتقى بشكل واضح وصريح فقد عُرضت الأعمال حينها بواقعية بحتة كلاسيكية، واستمرت تلك الرسائل والوضوح في شفافية الطرح إلى أن تطور أكثر ليتجاوز الفكر الواقع، و من هذا الخط أصبح للملتقى كلمة مغايرة في تأويلاته فقد يصح الظن بعض الأحيان عن الفنان ومن وجهة نظري هنا أصبح الفن أجمل وأرقى من السابق التأويلات بحد ذاتها هي متعة غير منتهاة فهذا يقول والآخر يشارك أو يعارض مدافعاً بمفرداته وبراهينه، فلا أرى أية حرج إن كانت هي فعلاً مشكلة نسبية، فبعض المدارس التأويل والتخمين فيها يثري الحركة التشكيلية من القراء والجمهور واتفق تماماً في بعضها بسبب غموضها وغياب التوافق بين الفنان والجمهور لذا نجد الفنان متسمك بهذا الغموض والجدل الذي يدار حول لوحاته متيقناً منه أن ما يفعله الآن سيقرأ مع قادم الوقت كما حدث مع بعض الفنانين القدامى وقصص التاريخ تتحدث وتسرد لمثل هذه الأحداث، ومن رأيي الشخصي لحل لمثل هذه الإشكاليات أن ينظّر الفنان تجربته بكتابة تحكي أسلوبه واتجاهه الفني، لغرض تقريب الفكرة وإيصالها للملتقى كي يفهمه الكل في قادم الوقت خاصة إذا كانت أعماله من المدارس التجريدية البحتة والتجريب فالخامات وغيرها، ومما لاحظته فعلياً هو غياب المعارض لأوقات مطولة بالتالي ستسهم هذه الغيابات في توسعة الفجوة بين الفنان والجمهور المتلقي في الفهم وإدراك معنى الأعمال الفنية، وغياب النقاد الفننيين المتخصصين في مجال الفن التشكيلي إلا بشكل خجول بعض الأحيان في بعض الصحف كل هذه العوامل كفيلة بأن توسع الفجوة اكثر فأكثر، الفنان حينما يتمسك بأطروحات متنوعة ومثرية فهو يمارس مجالا من مجالات الفنون والآدب ربما سأعجب بالأسلوب دون فهم الفكرة أو العكس الصحيح أو استمتع بقراءة أحداث العمل اكثر من متعة الألوان وضربات الفرشاة هنالك مفاهيم كما ذكرتها ذات معايير جيدة وتثير المشاهد للتوجه وقراءة الأعمال الفنية.

لا خلل مفقود

وترى التشكيلية طاهرة فدا أنه لا يوجد أي نوع من الخلل بين وصول العمل الفني للمتلقي وإبداع الفنان إنما هنالك عدة عوامل قد تشكل منها العائق في وصول العمل الفني إلى الملتقي منها «تاريخ الفن التشكيلي» وتفاصيله و «التعليم الفني» و«المجتمع والعادات والتقاليد» وأخيرا «عبقرية الفنان وثقافته».