الخلاص الاستسلامي للشخصيات الرئيسية في الرواية العربية وورطة الخيبات
كيف عمّق غموض الصورة النمطية للعربي وتأثيرها على المجتمع -
استطلاع - فيصل بن سعيد العلوي -
يرى كولن ولسون في كتابه (فن الرواية) الذي ترجمه للعربية محمد درويش أن (داروين وماركس وفرويد ساهموا بتغيير وجه الحضارة الغربية، ولكن تأثير الرواية كان أعظم من تأثير هؤلاء الثلاثة مجتمعين».. وخلص الروائي والباحث المغربي الدكتور إبراهيم الحجري في كتابه صورة الشخصية الرئيسية في الرواية العربية إلى «أن الشخصيات وخاصة الرئيسية في الرواية العربية راوحت مكانها وما استطاعت الخروج من عباءة خيبات الإنسان العربي منذ الهيمنة الاستعمارية وقد انعكست الأحداث والانتكاسات على الفرد مثلما انعكست على المجتمعات فصارت الأزمات التالية للإنسان العربي وإحباطاته المتكررة مادة دسمة للروائي العربي يجول في عوالمها السردية التي تقارب الذات العربية وتحاورها في حالات التشظي والصراع والمقاومة من أجل البقاء»..
حول فكرة استسلام الشخصيات في الرواية العربية لحالة التشظي والإنسان العربي المخذول والمفرغ من بشريته والانعتاق بالواقع المأساوي الذي أصبح أحد أهم الملامح الغامضة التي تعكسها مرآة الرواية في الإخفاقات نحو مزيد من الإخفاق وفي خيبات أحداثها نحو مزيد من الخيبة بدلا من مواجهة الخصوم.. نستطلع آراء مجموعة من الروائيين بحسب وجهة نظرهم وربما الدفاع حول ما تقدم من استنتاج بات واضحا في الكثير من الروايات العربية سواءً شئنا أم أبينا..وكيف تساهم الشخصية الروائية في تبديد غموض الصورة النمطية للعربي وتأثيرها على المجتمع؟
في سياق الفكرة الرئيسية التي نطرحها في هذا الاستطلاع يرفض الروائي السعودي عبده خال التسليم بهذا الاستنتاج الانهزام المبكر للاستطلاع في صياغته حيث يقول: كان من الضروري التزام الحياد لمناقشة القضية أو الاستطلاع، إذ أن المعد (الصديق فيصل بن سعيد العلوي) قد جنح للانهزامية في صياغة الاستطلاع متمشيا مع استنتاج الدكتور إبراهيم الحجري في كتابه صورة الشخصية الرئيسية في الرواية العربية، وهو استسلام مبكر من قبل المعد قبل الوصول إلى آراء المستطلعين وتكوين محصلة لبؤرة لما قيل في المقدمة، إذ كان بالإمكان الوقوف أمام تهم الدكتور إبراهيم الحجري احتجاجا على فرضية الانهزامية لدى الروائيين العرب، بدءًا بحجة عدم مقدرة الدكتور الحجري على قراءة كل الروايات العربية من محيطها إلى خليجها ليكون رأيه الذي بدأ الاستطلاع به، رأيا ضمن آراء عديدة لا يرتهن عليه كقاعدة للحكم، فرأي الدكتور الحجري استند على نتاج من قراءته لبعض الرويات التي قرأها، فكم رواية قرأ؟ عشرة.. عشرين..مائة، فمهما كان العدد المقروء فهو لا يمثل المجموع الروائي العربي، وعليه يعد حكمه حكمًا جزئيًا لا يعتد به كحكم مطلق.
إن استسلامنا الداخلي بوقع الهزيمة يجعل حياتنا منهزمة في كل جوانبها حتى في الجوانب الإبداعية، والتي لا ترتهن أو تقيد بالهزيمة الحضارية، فالإبداع ذاته حالة حضارية لا تخص مكانا عن مكان، ولا تسير على قضبان تطور الدول المتقدمة، أقول هذا كون القصّ مزيجا تكون منذ أن نشط العقل البدائي الأول للبحث عما يمكن من صياغة وجودية من خلال تضفير المستحيل مع الواقع.
ويضيف الروائي عبده خال: لو ألقينا الضوء على الدول المتقدمة إبداعيا سوف نجدها دولا متأخرة في السلم الحضاري التقني، فالإبداع وتحديدًا الرواية تحمل شعلته دول أمريكا اللاتينية، وبعض دول إفريقيا، ثم تتوزع خارطة الإبداع على بقية الدول، ونلحظ أن الإبداع مؤسسة فردية ينهض به المبدع بغض النظر عن موقعه الجغرافي، فكم من مبدع أنتج نصا حضاريا متقدما عما تعيشه دولته من تأخر في السلم الحضاري مقارنة بوضعية بيئته.
وكنت أهجس روعة ما كان يراه كولن ولسون في أن تأثير الرواية كان أعظم من تأثير عظماء البشرية في تحريك الحياة.. ولو تماشى الاستطلاع مع رأي كولن ولسن تحديدا مع شخصية البطل اللامنتمي فلربما جاز لنا إطلاق سراح الأحكام المقيدة، فالوجودية الإنسانية هي اغتراب اجتماعي إذا اعتبرنا أن المبدع غير متصالح مع واقعه الرث، وهذا يؤدي إلى إيجاد عالم إبداعي يخترق الأسباب الصلدة لكي يوشم الفكر الإنساني ببصمة متفردة، وتلك البصمة قد توجد في أي بقعة جغرافية، فلسفة ليست لها إقامة جبرية في الدول المتحضرة، وكم من فلسفة عظيمة ولدت لدى مبدع ما لم يتم التنبه إليه بسبب موقعه الجغرافي المهزوم، وأجدها فرصة للإشارة إلى أن من هزائمنا العربية عدم تصدير أدباء العالم العربي، والتصدير الذي أقصده ترجمة العلوم والفنون إلى لغة عالمية كالإنجليزية مثلًا، فالعيون المتحضرة لا تراك بلغتك، فلنقرب ذواتنا بلغة يفهمها المنتصر حضاريا، فهما كنت تمتلك فلسفة وحلولًا للإنسانية لن يشار إليك وأنت تحمل لغة لا تنتج شيئا تقنيا، إلا أنها تنتج إبداعيا متجاوزا لو تم إعادة رونقه بالترجمة.. كما أن التأثير الروائي ليس مقتصرا على نقل الواقع بويلاته، بل هناك رويات استشرافية متجاوزة نكبات الواقع إلى المستقبل، فثمة أفكار يؤمن بها أبطال روايات عربية، ويجدفون في واقعهم المتردي بحثا عن أفق مستقبلي يليق بالإنسان والإبداع معا.. ولأننا ما زلنا نعيش (عصر الهزيمة) وهو الكتاب، الذي ناقش فيه ويلسون أسباب اختفاء البطل في الثقافة الإبداعية الأوروبية في الستينيات كان علينا مناقشة أسباب تهميش البطل الابداعي في الثقافة العربية، لكي لا نكون مهزومين بشكل دائري.
الشخوص مرايا متشظية
من جانبه يرى الروائي العماني محمود الرحبي أنه من الصعب فصل الشخصية الروائية في الروايات العربية عن الواقع العربي حاضرًا وتاريخًا، وذلك بسبب أن الشخوص الروائية في حقيقتها مرايا متشظية تعكس هذا الواقع.. فكاتب الرواية كثيرا ما يسقط شعوره وقراءاته وأسئلته الخاصة على شخصيات رواياته، وذلك لكي تقول ما يشعر به بصدق، وهذا الشعور يمكن أن ينبثق من الخيبات كما يمكن أن ينبثق من الأتراح. وإذا كانت الشخصية الروائية تعيش هذا الالتباس أو الحالة الرمادية بين الواقع المرير والحلم بالخلاص، فإنها نتاج الواقع الذي نعيش، وهو واقع كما يلمس الجميع يشهد صراعا على مستويات عدة، فالفرد في العالم العربي مسير بالمطلق وضحية ظروف كونية وحسابات وتوازنات، عليه وحده في نهاية المطاف أن يدفع ضريبتها معزولا. لذلك فإن الرواية وهي تحبك مفارقات الواقع ودفائنه، لا يمكنها أن تخترع واقعًا وهميًا من أجل أن تبرز جانبا مشرقا في الحياة، بل إنها تعبر عن الحياة من وجهة الواقع نفسه، فهو من يوجه مسيرة الشخصيات وفقًا لقوانينه وإكراهاته. فحتى روايات أمريكا الجنوبية التي تعجبنا قراءتها بسبب واقعيتها السحرية، شخوصها كذلك ينطلقون من واقع تلك الدول وتاريخها. ولكن الكاتب وبطريقته (السحرية) -إن صح التعبير- وعبر اللغة بالأساس، يجتهد في التعبير عن تفاصيل هذا الواقع تعبيرا أدبيا، أي تعبيرا بلاغيا، في مقابل التعبير التقريري المباشر، وهذا مكمن سر (الخلطة السحرية) لأدب أمريكا اللاتينية.
روايات النائحة
مؤكدا اعتقاده بأنه ليس من مهمة الرواية (العربية، الصينية، الغربية الخ) ولا من واجبها الأخلاقي أن تكون «إصلاحية» أو «صيانية» لعناصر ما يمكن أن تسمّى «الهوية» يقول الروائي العراقي أحمد سعداوي: لعلّ من طبيعة الرواية الجدلية على مستوى الأفكار والرؤى أنها تحاور تلك المطالب التي تصدّرها خطابات فكرية وعقائدية وأيديولوجية، من أفراد أو جماعات أو مؤسسات، ولكن ليس من «روائية الرواية» أنها تخضع لهذه المطالب، أو تتحوّل إلى منصّة لها. بل إن من سوء حال الرواية العربية، على سبيل المثال، أنها خضعت لجو العواطف السياسية والأيديولوجية في الحقب والعقود الماضية. لا أن تفككّها وتسائلها.
فالرواية تقترب من جوهرها الإنساني حين تشكّك بهذه الخطابات المكتملة في الخارج، خارج الرواية، وتكون قريبة من صخب الآراء والتصوّرات الإنسانية، وأن تكون صوتَ من لا صوت له من عامّة الناس، لا صوت النخب فحسب، هذه النخب القادرة على صناعة خطابها بنفسها من دون الحاجة إلى الرواية.
ويضيف «سعداوي»: إن البعد المعرفي للرواية يتجّلى في نقد السائد من التصوّرات أيًا كان مصدرها، انتصاراً لحقّ الإنسان الفرد في الحياة وأن يكيّف الأفكار لحياته لا العكس. من جانب آخر، لا بدّ للرواية من «مسافة عاطفية» مع موضوعاتها التي تناقشها، وأن لا يخضع الكاتب للانفعالات العامّة، فتغدو كتابته أشبه بردّ الفعل العاطفي أو الاستجابة الإعلامية، فيغرق في البكائيات الوطنية، ولوم وجلد الذات، من دون فحص معرفي يحمل قيمة التجاوز والإحاطة. وهذا مهوى تسقط فيه الأعمال الروائية السريعة التي تحاول ملاحقة حدث عام يهيّج الانفعالات، فيكتب الكاتب وهو داخل الحالة لا عنها. ويغطس في مبالغات عاطفية واستنتاجات متشائمة أو متفائلة محدودة الأفق. إن الرواية الجيّدة مكتملة العناصر تحاول، إن كان الكاتب يقصد ذلك أم لا يقصد، إنصاف الإنسان الفرد من حبائل المجموع، إن كان المجموع نظامًا سياسيًا أو عقائد اجتماعية أو منظومة تصوّرات سائدة، أو دولًا عظمى مهيمنة عالميًا.ويؤكد الروائي العراقي أحمد سعداوي أن الهزائم والانكسارات والخيبات هي صناعة المجموع، ولا يمكن تجاوزها معرفيًا وعاطفيًا إلا بالنقد، وفحص مشاركة الفرد في الفعل الجماعي المؤدي إلى هذه الانكسارات، وأيضا، فحص مسارات أخرى يتّخذها الفرد من دون عبء هذه الانكسارات. وهذا كلّه طبعًا لا علاقة له بتلك الرواية «النائحة اللاطمة» التي تصوّر الانكسارات وكأنها نهاية العالم، فهذه بالتأكيد ترسل رسائل خاطئة معرفيًا وثقافيًا، وتقوم بشيء ليس من مهّمات الرواية ولا وظائفها.
فقدان الأسئلة الكبرى
من جانبه يقول الروائي المغربي مصطفى الحمداوي: تعد الشخصية الرئيسية في الرواية هي الشخصية الحاملة في الأغلب لموقف الكاتب من مجتمعه ومن محيطه ومن العالم أيضا بل تختزل هذه الشخصية البعد الفكري والتفاعل مع كل الأحداث بما فيها السياسية والوجودية والأسئلة الكبرى التي تطرح من خلال شخوص الرواية. إذا عدنا مثلًا إلى الرواية العربية أو ما أسميه الرواية الكلاسيكية هي الحقبة التي عرفت الازدهار الأول في الرواية العربية رواية نجيب محفوظ وغيره.. جميع الأحداث في الرواية والشخصية فيها في النهاية لا تعبر عن أي قلق ولا سؤال وجودي يستفز الفكر ويستفز المتلقي لمحاولة التفاعل مع هذه الأسئلة بل هي مجرد شخصية شرقية كما هو متعارف على المخيال الغربي عن الشخصية المشرقية.. أقول هذا الكلام ليس تقليلًا من قيمة أحد ولكن التأكيد على أنها رؤية لمكان وحدث، وفي هذه المرحلة كانت الرواية العربية رغم قوتها ووصولها إلى نوبل العالمية إلا أنها لم تطرح أسئلة كبرى!!
وحينما يتحدث الطاهر بن جلون وأمين معلوف بالفرنسية ونعده أدبًا عربيًا وهم يتحدثون في رواياتهم عن واقع عربي من خلفية عربية فبن جلون يقدم في روايته للغرب الصورة التي يريدها الغرب وربما يقزم إمكانياته كثيرا جدا في سبيل إرضاء الغرب وبالتالي فهو يعطي قراءات عميقة في رواياته بل يقدم شبه الفلكلور الذي يعجب القارئ الغربي والجهات الناقدة والمحتضنة لهذا النوع من الأدب وتحتفي به، وتكون سعيدة به لأن الغرب يحب هذه النوعية من الكتابات ويحتفي بها مع الأسف.
وعودة إلى (فكرة الاستطلاع) فإني أؤكد أن كل الروايات التي نهلت من حروب النكسة أو تناولتها بصيغة أو بأخرى لم تقدم شيئًا للقارئ لتعطيه الحافز.. الطموح والقوة ليكون على الأقل قادرا على الشعور بأنه يستطيع.. مشكلتنا في العالم العربي في سقوطنا في هذا المصطلح، فالإنسان الفاشل المخذول الذي يشعر أنه لا يستطيع لا يمكنه أن يبدع لأنه يؤمن بقرارة نفسه أنه إنسان فاشل وهذا ما روجت له بعض الروايات العربية إضافة إلى الواقع الذي كان سائدا.. في إطار الرواية نتحدث عن الرواية التي هي روجت لهذه النكسة من خلال عدة روايات لجمال الغيطاني وغيره وغيره ومع الأسف لم تستغل النكسة لتشحن القارئ بطاقات وتحديات وبإعطائه نفسًا جديدًا ليكون فردا قويا في مجتمعه ومحيطه ويستطيع الإنجاز والإيجاد والإبداع.
ويختتم الروائي المغربي مصطفى الحمداوي حديثه بالقول: اختصارا لكل ما قلت فالشخصية في الرواية العربية هي شخصية تعكس واقع الشخصية العربية في الواقع العربي شخصية مهزوزة مترددة وغير واثقة من نفسها وغير مبالية أحيانًا وشخصية متكبرة لا تعني إلا قلة ثقة بالنفس.. شخصية مفعمة بالوهم والعبث والخرافة وأشياء كثيرة من السلبيات.. الروائي لم يفعل أي شي إلا أنه عكس واقع الشخصية العربية بكل اعتلالاتها بكل تراكماتها السلبية ليشكل من خلالها ويبلورها في الرواية على شكل بطل يحمل المواصفات نفسها وبنفس الخصائص والمميزات ورغم وجود رواية هنا أو هناك استطاعت الدخول للعالمية ونجحت لكنها مجرد استثناءات وانفلاتات من حين لآخر لا يمكن البناء عليها لم نستطع مثلًا أن نجعل العالم يقرأنا مثلما قرأ الأدب الأمريكي أو اللاتيني.. لأننا فشلنا في أن نتوغل في عمق الأشياء وظللنا مجرد متابعين عن بعد ولم نجرؤ على دخول الموضوعات الكبرى المتعلقة بالموضوعات الحساسة ذات التأثير الوجودي والفلسفي حتى الديني..
نتاج منظومة
ومن وجهة نظره يرى الروائي العماني سليمان المعمري أنه إذا كانت إحدى مهام الكاتب أن يتبنى نبرة، ويحتفظ بها ويجعل القارئ يتقبلها كما يقول عبدالفتاح كيليطو، فإن هذه المهمة الجليلة هي أيضًا واحدة من أهم مهام الروائي الذي يعتمد في تنفيذها على شخصياته المختلقة، لا سيما الشخصية الرئيسية التي نتحدث عنها هنا. ولكن من المنصف قبل أن نسائل الروائي العربي عن التغيير الذي أحدثتْه شخصيته الروائية الرئيسية والتأثير في الناس أسوة مثلا بشخصية مدام بوفاري، أو آنا كارنينا، أن نسائل محيطه الحياتي عن الحياة الحديثة التي عاشها وأفرزت رواياته وشخصياته، ذلك أن الرواية هي نتاج منظومة معقدة من تشابكات الواقع والحياة، ففي ظل وضعٍ سياسي محبِط، واقتصادي متداعٍ، وغياب الحريات بما فيها حرية المغامرة (جنبًا إلى جنب مع حرية التعبير والكتابة)، لن تستطيع الشخصية الروائية العربية الذهاب أبعد من هذه الخيبات التي يدور في فلكها الأبطال. ليس الروائي إلا ابن مجتمعه وبيئته ومناخه السياسي العام، وبالتعبير الكليشيهي هو مرآة كل هذه المناخات من خلال شخصياته التي لن تستطيع تغيير وجهة حضارة، هي أصلًا تفتقد لمقومات هذا التغيير. صحيح أن الروائيين يفترض أن يكون لهم دور في قيادة هذه المجتمعات إلى الحضارة، إلا أن هذا الدور لا يمكن تحقيقه ما لم تتحقق أدوار أخرى في هذه الحضارة تشكّل باقي المنظومة. ونحن عندما نسمع اليوم -على سبيل المثال- أن الشخصية الرئيسية في رواية «مذكرات محكوم عليه بالإعدام» لفيكتور هوجو أو مثيلتها في رواية «الفراشة» لهنري شارييرك ان لهما دور في إذكاء الوعي بإلغاء حكم الإعدام في فرنسا، فهذا لأن فرنسا كانت زاخرة أيضا في الوقت نفسه بساسة وعلماء اجتماع وقانونيين واقتصاديين ونخب اجتماعية ومجتمع مدني أدى عملهم مجتمِعًا إلى هذه النتيجة، وهذا ما نفهمه أيضًا من العبارة التي استشهدتَ بها في مقدمتك لكولن ويلسون الذي وضع تأثير داروين وماركس وفرويد جنبًا إلى جنب مع تأثير الروائيين. أما في ظل وضعنا العربي الراهن فإننا لا نعدم روائيين جيدين، أو شخصيات روائية مذهلة ومرسومة بدقة، ولكن فيمن سيكون تأثيرها إذا كانت نُخَبُنا متآكلة!. الوضع كله تلخصه طرفة عربية سردتها الروائية العراقية إنعام كجهجي في معرض حديثها عن قدرة الرواية العربية على التغيير خلال ندوة في ملتقى تونس الأول للرواية عام 2018، هذه الطرفة تسرد أن أحد الأمراء العرب كانت له جاريتان، الأولى جميلة الصوت، وكانت حينما تبدأ بالغناء يبدأ المستمعون بتمزيق ثيابهم، والثانية سيئة الصوت، وحينما كانت تغني كانوا يبدأون بترتيق الثياب التي مُزِّقت بعد غناء الجارية الأولى!.
أحداث فجائعية
وتؤكد الروائية الأردنية هيا صالح أن الرواية العربية لم تتمكن من الخروج من البناء السردي الواقعي بمعناه التاريخي القارّ في الذهن منذ عصور وعصور، ولا التحرر من أركان هذا البناء التي ظلت حاضرة بقوة في عناصر الرواية وبخاصة شخصياتها التي اشتركت، رغم تلونها وتعددها واختلافها، في محددات واضحة المعالم كرغبتها في التحرك ضمن خطوط زمنية ومكانية محددة، وتقديم تفسيرات لمحيطها والإغداق بالأقوال وسوق المبررات من غير أن يُترك لأفعالها أن تجلي الجوانب الخفية والعميقة منها، بحيث تصبح الشخصية تابعة للحدث الروائي لا العكس. تلك الشخصيات تتحرك ضمن أحداث فجائعية سببتها الصراعات والحروب التي تلتهم ولا تزال المنطقة برمتها، وهي في هذا الحراك تمسكت بالبكائية والاستلاب من غير أن تمتلك قوة وفاعلية للتغيير أو التأثير الإيجابي الذي يستشرف المستقبل من خلال قراءة الماضي، أو ذلك الرامي إلى تغيير الواقع وطرح الوسائل المبتكرة والمقنعة والقابلة للتحقق من أجل الوصول لمثل هذا التغيير، وربما يصح القول هنا أن شخصيات الروايات العربية تعاني من القصور وفقدان الرؤية.. هذه الشخصيات المستلبة جاءت في العديد من الأعمال الروائية العربية، ذات طابع مأساوي، مستكينة، متأزمة داخليًا، ومغلوبة على أمرها ولا حول لها أو قوة، وقد تموضعت أفعالها في بوتقة واحدة هي تصوير ما يعانيه الفرد والمجتمع في دائرة مغلقة من الصراعات تبدو في لحظة ما صراعات قدرية محتم عليه خوضها.
وتضيف «هيا صالح»: ما أراه هنا يعود إلى أن منطقتنا العربية تشتعل منذ عقود بالحروب والصراعات التي تغلي فوق أرضها كمرجل لا يهدأ وبركان لا يخمد، وهذا ما قدم مادة دسمة للروائي ليتناولها في رواياته، لكن هذا التناول ظل في مجمل الأعمال سطحيًا، يصف المعاناة ويوثقها ويعززها، دون أن يقدم مساهمة في زحزحة الصخرة التي تسد علينا نور الحياة، وأيضًا لم يمتلك القدرة على طرح قضايا الحروب والصراعات ضمن رؤية فلسفية فكرية إنسانية أعمق، كالبحث عن الخلاص الجمعي تأسيسًا على وعي جمعي تتأكد فيه هوية الفرد من خلال الجموع دون أن يسلبها ذلك خصائصها وفرادتها، والتأكيد أيضا على التغيير الإيجابي الذي تتضافر فيه الجهود للخروج من الأزمة.
وتختتم الروائية الأردنية حديثها بالتأكيد على أن الرواية العربية تحتاج اليوم إلى الخروج من دائرة الطمأنينية واليقين إلى دائرة الشك واللايقين، لتتعامل مع واقعها الذي هو أقرب للفنتازيا والغرائبية والسريالية، واقع يفتقد للنظام ويُبنى على منظومة متداعية سواء على صعيد جغرافيته التي مزقها الاستعمار ولا يزال، أو على صعيد إنسانه، حيث فقدت الذات العربية إيمانها بالانتماء والهوية، وصار حلم الإنسان العربي هو الخروج إلى بلدان المهجر بحثًا عن الاستقرار والأمن والكرامة والحرية.. كل ذلك يحدث في حين أن الرواية العربية لا تزال مكتفية بالتمسك بالماضي والبكاء عليه أو النظر للحاضر ولعنه.. وكأنها في قطيعة حقيقية مع العصر وإنسانه.
تحرير الفكر من القيود
وعن مساهمة الشخصية الروائية في الموازنة بين الفكر والعقل وتبديد غموض صورتها وتأثيرها على المجتمع تقول الروائية العمانية الدكتورة زوينة الكلبانية: لا كتابة ولا إبداع دون إعمال العقل.. فالشخصية الروائية المؤثرة والفاعلة تسهم في تحرير الفكر من قيود الوهم والجهل والنهوض بالفرد والمجتمع، واحتضان كل السواد والبياض والجمال والقبح الذي يعمُّ الحياة، وصناعة التغيير وبناء وعي ناضج خلاق يُعلي من شأن القيم ويدعو للعدالة والتسامح.. مع الحرص على تحصين الفكر من الطمس أو التزييف والاستبداد. أما مدى التأثير فيقاس بمدى صدق الشخصية واقترابها من هموم الناس وملامستها لجراحهم وقضاياهم.. وقدرتها على الغوص في مكامن النفوس وخلجات القلوب، وما تثيره من تأملات وتساؤلات وما تطرحه من رؤى مستقبلية، إذ تجعل المتلقي يتماهى معها، يرى من خلالها ما وراء الحكاية ويستقرأ ما وراء الواقع. وتضيف «الكلبانية»: الشخصية الروائية تعكس نظرة الكاتب ورؤيته للأحداث. يصوغها وفقًا لمرئياته ويضفي عليها من روحه ومن تجاربه وهواجسه وعذابات الآخر وإخفاقاته بما ينسجم مع قناعاته وتوجهاته الفكرية بأسلوب تعبيري رمزي متخيل يحلّق في فضاءات إبداعية متعددة.. سأحاول المقاربة بين الرأيين المطروحين، إعمال العقل والتفكير لا يعني إقصاء كل ما يتصل بالواقع.. فالواقع هو الذي يسهم في تشكيل الرؤية ويساعد العقل على النمو.. أؤمن بأن الأدب مرآة للواقع وأي أزمة لها انعكاساتها وتداعياتها في سلوك الأفراد والمجتمعات، ولها مبرراتها في أجواء الرواية، وأبعادها التأويلية والتفسيرية مهما كانت مغايرة لأفق توقعات المتلقي ومخيبة لآماله.. فالانهيار النفسي للشخصيات يوازي الانهيار العام في الواقع وتشظيات الأوطان المكلومة. وترى «الكلبانية» أن الشخصية الروائية شهدت انعطافا منذ منتصف القرن العشرين من حيث الاهتمام بالفرد وآماله وآلامه وخيباته وتشظياته، ورصد ما يعتمل في دواخل النفس البشرية من عذابات وتوترات وقلق ومخاوف دون مواربة وتقول: إن تكرار حالات التشظي والصراع والمقاومة من أجل البقاء في الشخصيات الروائية كما ذكر «الاستطلاع» لا أجده يمثل ظاهرة سلبية أو نمطية. فالنفس البشرية ليست عبارة عن قالب واحد، بل كل شخصية في أي عمل روائي لها سماتها ومحدداتها الخاصة. إنها شخصيات نامية مبادرة تنتظم في بُنى سردية محكمة وأنساق خطابية متعددة وبتقنيات متنوعة وأمكنة وأزمنة مختلفة مغايرة لمثيلاتها في التجارب الأخرى فرضتها تصدعات مجتمعية وصراعات وحروب وثورات لا تزال إلى اللحظة تداعياتها مستعرة، إضافة إلى التطور التقني والانفتاح الفكري الذي يستوجب تسليط الضوء عليها بشكل مكثف، وذلك من باب محاولة فهم التحولات التي طرأت على المجتمعات وما لهذه الشخصيات المرتبكة الحائرة من دلالات رمزية ذات مغازٍ إنسانية عميقة. ما دامت الحياة مستمرة صور القهر والظلم تتسع وتكبر يومًا وراء الآخر إذ نجد هذه الشخصيات بأبعادها الاجتماعية والثقافية والإنسانية والنفسية لها وجود على أرض الواقع ممتدة على مساحات شاسعة، لذا الاعتراف بها وبعقدها النفسية اللامتناهية، وإبداء مواقفها وصراعاتها مع ذاتها والمجتمع. هو لون من ألوان التطهير الذي ينشده الكاتب،وهي مصدر غنى التجريب الروائي. وفي الختام تقول الروائية العمانية زوينة الكلبانية: إن ما يبدو على السطح انهزامًا واستسلامًا وتشظيًا هو البلسم لجراحاتنا ويحمل من قيم العدالة والنبل والانتصار للإنسانية الشيء الكثير.. جميعنا يتمنى أن تشرق على حيواتنا المثالية المنشودة من حيث تحقق الخير والجمال والعدالة بكل ألوانها والسلام والديمقراطية، لكن الاعتراف بالواقع والرضا بمعطياته باعتباره مرجعية والانطلاق منه نحو المتخيل السردي هو المدخل إلى الدهشة والجمال والإبداع.
