الباحث حارث البطاشي: على القارئ الحاذق تجنب التسليم المطلق بالحقائق إلا بعد البحث والتحري والتثبت
مكتبة الشيخ محمد بن شامس موقوفة للباحثين عن العلم والمعرفة -
أعمل حاليا على إخراج موسوعة سلاسل الذهب كاملة في طبعة حديثة -
تضم مكتبة الشيخ محمد بن شامس البطاشي الكثير من الإسهامات العلمية والمخطوطات الكبرى، حيث أوقف الشيخ «البطاشي» مكتبته بما تحتويه من كتب ومخطوطات ووثائق وقفا مؤبدا لمن أراد أن ينتفع بها من طلبة العلم ومن عموم المسلمين.. سعى ابنه المحقق حارث بن محمد البطاشي المشرف على المكتبة للنهوض والارتقاء بها وتطويرها وترسيخ مكانتها بين المكتبات الوقفية والأهلية والعامة، وقد أصدرت المكتبة عدة كتب يأتي في مقدمتها «تمهيد قواعد الإيمان وتقييد شوارد مسائل الأحكام والأديان» للشيخ المحقق سعيد بن خلفان الخليلي في 15 مجلدا، وهو الكتاب المحقق الفائز بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في دورتها التاسعة في مجال «تحقيق التراث العماني» عن فرع الثقافة.. يحث حارث البطاشي الخطى لإقامة مبنى خاص بالمكتبة من أجل تمكين الجمهور من الوصول إلى مكنونات المكتبة والاطلاع على تراث والده المطبوع والمخطوط والوقوف على سائر محتوياتها.
بداية، نود الاطلاع على أهمية الجائزة في مسيرتك البحثية أو «الجائزة عموما في مسيرة المبدع» وكيف تؤثر في مسيرة أي إنتاج أدبي أو علمي؟
- لا ينبغي النظر إلى الجوائز من ناحية مادية بحتة ولا أن يجعل الباحث همه الحصول على الجوائز، ولكن عليه أن يخلص العمل ومتى ما بذل الجهد وأتقن الصنع فستأتي إليه الجوائز من غير أن يسعى إليها، ولا يمكن إغفال دور هذه الجوائز في رفع الروح المعنوية للباحثين وهي حافز لهم لتقديم المزيد من العمل وتجويده وصولا به إلى أعلى مراتب الكمال المنشود.
أطلقت في 2010 مشروع مكتبة الشيخ محمد بن شامس البطاشي لتكون الذراع الموازي لخزانة الكتب والمخطوطات والوثائق التي تركها «الوالد» وكان أول ثمارها «تمهيد قواعد الإيمان وتقييد شوارد مسائل الأحكام والأديان» وهي جوابات العلامة المحقق سعيد بن خلفان الخليلي «1287هـ» وهي أول طبعة محققة من الكتاب، وكان قد طبع قبل ذلك من وزارة التراث والثقافة «آنذاك» والكتاب صدر في نسخ عديدة ولا شك أن أحدثها ما تم تحقيقه من قبلكم.. يا ترى ما الجديد الذي سعيتم لتقديمه للقارئ؟
- كتاب تمهيد قواعد الإيمان وتقييد شوارد مسائل الأحكام والأديان للإمام العلامة المحقق سعيد بن خلفان الخليلي من أشرف كتب المتأخرين وأجلها قدرا وأعلاها شأنا عند علمائنا، وأصل التمهيد أشتات رسائل وجوابات وبحوث وردود عن المحقق الخليلي وعن غيره من علماء عصره، قام بجمعها وضمها إلى بعضها الشيخ العلامة محمد بن خميس السيفي وقد جعلها في أربع قطع كبيرة ورتبها على حسب الأبواب الفقهية، فجعل تحت كل باب من أبواب الفقه أو الشريعة عموما ما يناسبه من المسائل المجموعة وربما كرر المسألة الواحدة في أكثر من باب إذا كانت معانيها تحتمل ذلك.
وأضاف الشيخ السيفي إلى جوابات المحقق الخليلي كتبا وبحوثا ورسائل مستقلة بذاتها للمحقق الخليلي فدمجها مع الجوابات تحت عباءة التمهيد وذلك من قبيل كتاب إغاثة الملهوف فإنه ورد بأكمله في التمهيد ولكنه لم يرد في موضع واحد وإنما جاء مفرقا في غير موضع ولم يلتزم فيه الشيخ السيفي بترتيب المحقق الخليلي فقدم وأخر، وكذلك رسالة الجهاد أضافها الشيخ السيفي إلى جوابات المحقق وأدخلها في التمهيد مع أنها من حقها أن تكون كتابا مستقلا، ومثلها رسالة أخذ الخراج من الساحل وتفسير سورة الفاتحة وكتاب الدرة النورانية وغيرها، ومما أودعه الشيخ السيفي كتاب التمهيد مقرونا بالجوابات وهو ليس منها وقد عملت في التحقيق على تمييز هذه الكتب والرسائل والردود عن جوابات المحقق الخليلي فأفردت لها جزءا خاصا بها هو الجزء الثالث عشر.
ومن ضمن ما اشتمل عليه الكتاب جوابات ورسائل عن غير المحقق الخليلي لا سيما جوابات الإمام أبي نبهان والشيخ سلطان بن محمد البطاشي والشيخ ناصر بن جاعد الخروصي جعلها مرتب التمهيد الشيخ السيفي متداخلة مع جوابات المحقق الخليلي لا تتمايز عنها إلا بعبارة: ومن غيره، أو ومما هو مضاف إلى التمهيد، أو ومما هو مضاف إلى شيخنا البطاشي، ونحوها من العبارات التي يفهم منها أن الكلام التالي لها ليس عن المحقق الخليلي وفي أحيان عديدة تسقط هذه العبارات فيلتبس الأمر على القارئ ولا يميز كلام المحقق من كلام غيره من العلماء الآخرين، وهذه الإضافات عن العلماء المذكورين لا يخلو منها باب من أبواب كتاب التمهيد وهي في مجموعها تؤلف جزءا كبيرا أفردتها فيه في أول الأمر، ثم عدلت عن ذلك ونثرتها في الكتاب بيد أني خالفت المرتب في طريقة عرضها حيث جمعت إضافات كل باب وضممتها إلى بعضها وجعلتها في نهاية الباب وأشرت إليها باسم الزيادات.
وكتاب تمهيد قواعد الإيمان طبعته وزارة التراث في اثني عشر جزءا وأفرغت القطعة الواحدة منه في ثلاثة أجزاء، في حين أني قسمت القطع الأربع إلى ثلاثة عشر جزءًا مع جزأين خاصين بالفهارس هما الجزء الرابع عشر والخامس عشر، وقمت بطباعة الكتاب كاملا اعتمادا على طبعة وزارة التراث ثم قارنتها بالنسخ المخطوطة، ولم أتمكن من معرفة النسخة التي اعتمدتها وزارة التراث عند طبعها للتمهيد، ولم أعتمد من بين النسخ المخطوطة نسخة تكون أصلا للمقابلة عليها لعدم ظفري بالنسخة الأم التي خطها العلامة السيفي بيده ولأن النسخ التي بحوزتي ليس من بينها نسخة تطمئن إليها النفس من حيث وضوح الخط، والخلو من الأغلاط والسقطات وإنما هي متفاوتة في تلك الأمور، وثَبَت الاختلاف بين النسخ في الهامش وما كان ساقطا من نسخة أو أكثر، ووضعته بين معقوفين ونبهت عليه في الهامش، وقد نبهّت ما أشكل معناه كلمة كانت أو عبارة وقد اتفق رسمه في جميع النسخ في الهامش واجتهدت في تأويل المعنى، ولم أنبه على الأخطاء الواردة في رسم الآيات القرآنية وهي كثيرة جدا ولم تسلم نسخة منها بل هي كثيرة في جميع النسخ وإنما قمت بكتابتها صحيحة على وفق المصحف الشريف وتجاهلت خطأ الناسخ ولم أنبه عليه في الهامش، واعتمدت في تحقيق كتاب إغاثة الملهوف ورسالة الجهاد والرد على الشيخ المنذري على نسخ أخرى، بها إضافة إلى نسخ التمهيد، وعدَّلت من ترقيم الأبواب وجعلت كل جزء يبدأ بالباب الأول ونبهت في الهامش على ترتيبه في أصل المخطوط، ووضعت عنوانا لكل مسألة جديدة يدل على مضمونها، وقد حذفت كلمتي (منه وعنه) الواردتين في صدر كل مسألة، وميزت الزيادات الواردة في التمهيد مما لم يكن من كلام المحقق الخليلي وجمعت زيادات كل باب بعد أن كانت متفرقة بين ثنايا الباب الواحد وجعلتها في نهاية الباب وعنونتها باسم زيادات الباب كذا، كما ترجمت لأصحاب الزيادات الثلاثة وهم الإمام أبو نبهان وابنه الشيخ ناصر والشيخ سلطان بن محمد البطاشي في مقدمة الكتاب بالإضافة إلى ترجمة رابعة للشيخ محمد بن خميس السيفي مرتب التمهيد، ووضعت بعض علامات الترقيم في المتن والهامش لا سيما النقطة وعلامة الاستفهام وعلامتي التنصيص وما دعت إليه الحاجة من غير استيفاء لجميع علامات الترقيم ولا إحاطة بجميع المواضع التي تحتاج إلى ترقيم، كما صححت ما تنبهت له من كلمات وعبارات بها خطأ نحوي وهذه الكلمات والعبارات ترد في كلام السائلين، وخرّجت الآيات القرآنية في الهامش ذاكرا السورة ورقم الآية، كما خرّجت الأحاديث وجعلت من مسند الإمام الربيع رحمه الله مرجعا أولا فإذا كان للحديث ذكر في مسند الربيع أتيت بروايته في الهامش، وأشرت إلى تخريج الحديث من باقي كتب الحديث المعتبرة وما لم أعثر له على تخريج وهو قليل بينته في الهامش، وما ذكر بمعناه من الأحاديث أتيت به بلفظه وما كان فيه إشارة إلى حديث من غير ذكر له بحثت عنه وذكرته بلفظه في الهامش، إضافة إلى ذلك ترجمت للأعلام العمانيين المشهورين، ومن لم أعثر له على ترجمة أشرت إليه في الهامش وذكرت تعذر ترجمته، وكان مرجعي في تراجم الأعلام العمانيين كتاب إتحاف الأعيان للشيخ سيف بن حمود البطاشي إلا ما ندر من تراجم للمتأخرين استقيتها من مصادر متنوعة ولم أشر إلى المصدر في الهامش مكتفيا بهذا الإعلام في المقدمة، أما تراجم غير العمانيين فكان المرجع الأول فيها كتاب الأعلام للزركلي وما لم أعثر عليه في الأعلام بحثت عنه من مصادر أخرى، كما عزوت الشواهد الشعرية والأبيات إلى قائليها وقد أذكر أبياتا من القصيدة سابقة على البيت أو تالية له، ووضحت معنى بعض الكلمات المشكلة بالرجوع إلى معاجم اللغة.
وقد قام والدي رحمه الله بوضع تعريف لأغلب المصطلحات العمانية الدارجة والقليل المتبقي استدركته بنفسي وما كان من تعريف الوالد نسبته إليه في الهامش، وعرفت كذلك المصطلحات الفقهية والقبائل والبلاد العمانية والفرق والمذاهب الإسلامية وعرفت بالكتب والمصادر الواردة في التمهيد وترجمت باختصار لمؤلفيها.
وقد أفردت جزأين خاصين بفهارس الكتاب يشتمل على فهارس الموضوعات والآيات الكريمة والأحاديث النبوية والأعلام والمذاهب والفرق والبلاد والأشعار، وقد ألحقت بالفهارس كشافا بالمصطلحات العمانية الواردة في أجزاء التمهيد لتكون مرجعا مفيدا للباحثين والمهتمين، علقت في الهامش على بعض المسائل الواردة في الكتاب، واستحدثت جزءًا خاصا بمؤلفات المحقق الخليلي وردوده المطولة على العلماء ورسائله العلمية جعلته الجزء الثالث عشر وجمعت فيه ما تفرق في أجزاء التمهيد الأخرى من مؤلفات المحقق وهي في مجملها كتب مستقلة فرأيت من الأنسب لها أن تكون بمعزل عن الجوابات لذلك خصصت لها جزءًا خاصا.
كما أن الترجمة للعلم في أول وروده في الكتاب ثم إذا تكرر أحيل إلى الجزء الذي ترجمت له فيه، وكذلك بالنسبة لتخريج الأحاديث وتعريف المصطلحات والمذاهب والقبائل والبلاد أعرفها في أول ورود لها فقط ولا أكرر التعريف بعد ذلك، كما أضفت كلمتي مسألة وجواب في بعض المواضع التي رأيت الحاجة داعية إليهما ونبهت في الهامش إلى أنها من عمل التحقيق، وأثبت بعض العناوين الفرعية للمسائل الطويلة ونبهت عليها في الهامش. كما أني لم أتدخل في ترتيب كتاب لطائف الحكم في صدقات النعم للمحقق الخليلي الوارد ضمن كتاب تمهيد قواعد الإيمان ولم أفعل معه ما فعلت مع كتاب إغاثة الملهوف من ترتيب وجمع لأن كتاب إغاثة الملهوف أتى به المرتب كاملا غير منقوص وكل ما قمت به تجاهه أن جمعت ما تفرق من أجزائه وقدمت ما تأخر من فصوله وأبوابه، أما كتاب لطائف الحكم فقد استشهد المرتب بمواضع منه وأتى بما يوازي نصف الكتاب فلم يكن سهلا أن أضيف إليه النصف الآخر وهو كتاب كبير لذلك اكتفيت بما اكتفى به المرتب جزاه الله خيرا وتركت الأمر على حاله، وعملت مقدمة للكتاب تناولت فيها المؤلِف والمؤلَف والعمل المصاحب للتحقيق.
حدثنا عن مشروعات التحقيق والنشر لآثار والدكم الشيخ العلامة محمد بن شامس البطاشي رحمه الله ومنها ما نُشر مؤخرا وما تنوي نشره ولم يسبق نشره من قبل.. حدثنا عن تلك المشروعات وما ننتظره في قادم الوقت؟
لا يخفى عليك أن والدي رحمه الله ترك للمكتبة الإسلامية ما يربو على خمسين إنتاجا ومؤلفا ما بين الموسوعات المطولة متعددة الأجزاء كسلاسل الذهب وغاية المأمول والكتب المفردة الأجزاء أو الرسائل التي تعنى ببحث موضوع معين، وهذا الكم من المؤلفات يتوزع على فنون عديدة من علوم الدين واللغة، وهو كذلك متنوع في أصل وضعه من نظم أو شعر أو نثر، ولنأخذ مثالا على ذلك موسوعة سلاسل الذهب في الأصول والفروع والأدب، هذه الموسوعة تعد أضخم موسوعة نظمية في تاريخ الإسلام بعدد أبيات يقدر بـ 124,000 بيت وهي دليل على عبقرية الناظم وطول نفسه لا سيما إذا علمنا أنه نظمها في مدة يسيرة لا تتجاوز الثلاث سنوات ولم يكن متفرغا للنظم خلالها بحكم مشاغل الحياة، هذه المنظومة حوت أغلب أبواب الفقه الإسلامي وأصول الدين وأصول الفقه وتاريخ عمان والسيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين وحوت أبوابا في السلوك وفي تهذيب النفس وفي الآداب العامة، وتولت وزارة التراث القومي والثقافة -آنذاك- طباعة السلاسل في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وقد طبع كاملا في عشرة أجزاء وتبقى منه جزء التاريخ لم يطبع بعضه في طبعة التراث، ثم رأيت أن أقوم بتحقيق هذا الجزء غير المطبوع مع ضبط أبياته بالتشكيل وأضفت إليه كتاب السيرة وتاريخ عمان كاملا وأفردته في مجلد هو المتمم لموسوعة السلاسل وأخرجته للقراء قبل ثلاث سنوات من الآن وتولت طبعه ونشره مكتبة الشيخ محمد بن شامس البطاشي وأخرجت معه أربعة مؤلفات أخرى لوالدي جميعها تطبع للمرة الأولى وهي الرحلة الدينية إلى الرحاب القدسية وهي منظومة لوالدي في رحلة له إلى حج بيت الله الحرام سنة 1376 هجري، عدد أبياتها يناهز أربعمائة بيت وهي من أدب الرحلات، واستغرقت الرحلة من ساعة خروج والدي ورفقته من بلدة المسفاة إلى أن قفلوا راجعين إلى المسفاة ثمانية أشهر واثني عشر يوما تخللتها كثير من الأحداث والمواقف والقصص. نظم ذلك والدي جميعه في قالب نظمي بديع، ورأيت وأنا أعد الكتاب للطبع أن من المناسب أن أضع شرحا مختصرا لمجريات الرحلة وأعلق على بعض الأحداث الواردة في النظم مع ضبط النص بالشكل، والكتاب الآخر هو تحفة الأصحاب على ملحة الإعراب وهو منظومة في النحو والصرف اختصر فيها والدي ملحة الإعراب للحريري فجاءت نظما سهلا سلسا تنجذب نحوه الأسماع وترتاح إليه القلوب وهي آخر ما نقحه الوالد من مؤلفاته، والكتاب الثالث رسالة عن وادي ضيقة عنوانها وادي ضيقة أكبر وادٍ بعمان وهذه الرسالة فريدة من نوعها وفرادتها في كونها تبحث في جغرافيا الأودية في عمان وهذا مجال لم ينل حظه من الدراسة والتأليف، لقد خبر والدي وادي ضيقه والمنطقة المحيطة به وتعدى إلمامه بالجغرافيا إلى معرفته بالبلدان وقبائلها وأنسابها وأعلامها فكانت منه تلك الرسالة تعريفا بالمكان والمكين، ورابع الكتب التي نالت شرف طباعتها المكتبة رسالة عن ولاية قريات تكلم والدي في رسالته هذه عن أصل تسمية ولاية قريات وعن موقعها الجغرافي وعن حصون الولاية وأبراجها وعن رجال العلم فيها وأشهر القادة الذين أنجبتهم هذه الولاية العريقة وقبل إخراج هذه الكتب الخمسة بمقدار 20 سنة علقت على كتاب والدي إرشاد الحائر في أحكام الحاج والزائر ووضعت عليه شرحا لطيفا فجاء بحمد الله في جزأين أسميته «عقد الجواهر شرح إرشاد الحائر في أحكام الحاج والزائر» وهو أول كتاب للوالد أعتني به وثمة أعمال أخرى من نتاجات والدي شرعت من سنوات في جمعها وضمها إلى بعضها والتقصي عنها من مضانها مثل شعره المتفرق والذي أغلبه في أيدي الناس، فجمعت قدرا لا بأس منه من قصائده وإن كان المفقود كثيرا وكذلك جواباته الفقهية تقصيت ما أمكنني أن أتقصاه وجمعت ما وجدته في مكتبة الوالد متفرقا وما كان بحوزة أهل العلم والمستفتين من الناس، وهذا الشعر وهذه الجوابات عملي فيها إلى الآن الجمع فقط، بانتظار أن أصل إلى مرحلة أتوقف فيها عن الجمع وأشرع في تقديم المجموع للتحقيق ثم للطباعة.
على مر العصور أسهم التحقيق في التعريف بالمنتج الديني أو الأدبي أو الثقافي أو السياسي في حقب متتالية، ولكن هنالك مواضع يستطيع فيها المحقق فرض رأي (بحسب فهم) قد يكون مغلوطًا أو ربما غير مكتمل ويصبح بعد ذلك مصدرا يعتد به.. فكيف يحقق (الباحث) الأمانة من جانب، وما الذي يستطيع أن يفعله القارئ في حالة الاستشكال في فهم صحة النصوص خاصة المحقق منها من قبل أشخاص قد يكونون غير أوفياء للنص الأصل أو ربما لهم مآربهم الأيدولوجية والسياسية؟
المحققون ليسوا على درجة واحدة من الفهم والإلمام فهناك المحقق المجتهد الذي يمكنه بما أوتي من علم ومعرفة أن يفرض رأيا أو يناقش مسألة أو حتى يرد قولا على صاحب الأصل ولكن دون أن يغير في أصل النص الذي اعترض عليه وليجعل رأيه أو اجتهاده تعليقا في الهامش يستدرك به على صاحب الأصل هذا أمر محمود يشكر عليه صاحبه إن كان أهلا لهذا الاجتهاد أو الاعتراض، أما من لم يبلغ هذه الدرجة وهذه الأهلية فالأولى به ألا يجعل من نفسه في محل نقد لأهل العلم ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه، على أن ثمة أشخاصًا كما ذكرت تجردوا من الأمانة التي ينبغي أن يتصف بها كل من تصدى لتحقيق النصوص العلمية وانحرفت بهم عصبيتهم إلى طريق أهل الأهواء والتحزبات، وربما عمدوا إلى تضليل القارئ وإيهامه بأن الفهم الصحيح للنص هو ما أورده المحقق وإن كان هو الخطأ بعينه والقارئ الحاذق لا يسلم عقله لفلان المحقق أو لغيره بل يسعى إلى استقصاء المعلومة من أكثر من مصدر ويتجنب التسليم المطلق بالحقائق إلا بعد البحث والتحري والتثبت.
ما التحقيق الذي يعد مشروعك الضخم الذي تسعى له وما زال في بواكير التكّون ولم يتحقق؟
أعمل فعليا في الوقت الحالي على إخراج موسوعة سلاسل الذهب كاملة في طبعة حديثة وقد فرغت من تحقيق النص وضبطه ومراجعته على النسخ المخطوطة وعلى نسخة مطبوعة مصححة بقلم والدي وعليها استدراكات وزيادات بخط يده، وقد جعلت هذه النسخة المطبوعة هي النسخة الأم وهذا المشروع ضخم وقد بلغت عدد أجزاء سلاسل الذهب بعد التحقيق 40 جزءًا، وعملت في التحقيق على تقطيع الأبيات ووضع شرح عليها يكون مصدره الأصول التي نظم منها والدي سلاسل الذهب كالنيل وشرح النيل وطلعة الشمس ومشارق أنوار العقول ومنهج الطالبين ولباب الآثار وتحفة الأعيان وغيرها من الكتب المعتبرة، وشُكّلت الأبيات كاملة وتخريج الآيات والأحاديث الواردة في الشرح وتعريف بعض الأعلام والمصطلحات وأسأل الله أن يرى هذا العمل النور في أقرب سانحة.
كما هو معلوم فإن البحث والتحقيق يحتاج إلى جهد كبير وتركيز عال ودقة متناهية في تفاصيل النتاج بينما يفرض الواقع انشغال الفرد في تفاصيل حياته اليومية .. كيف تستطيع المواءمة بين الجانبين في ظل العمل والجهد الكبير الواضح الذي قدمته سابقا وما تطمح إليه لتقديم صورة حديثة لمكتبة علمية ضخمة لوالدكم الشيخ العلامة رحمه الله؟
في يقيني أن تنظيم الوقت كفيل بأن يواءم بين متطلبات العقل والجسد بحيث لا يطغى جانب على آخر ولنا في سلفنا المبارك قدوة ومثال يحتذى، فقد وضعوا لنا المصنفات الضخمة والموسوعات المطولة مع ما هم فيه من شظف العيش والسعي في طلب الرزق وقلة ذات اليد، واستحضر في هذا المقام والدي رحمه الله وأذكر مثابرته في التأليف والنظم إذ نظم السلاسل في وقت ترادفت عليه فيه الأشغال وفي ظرف سياسي استثنائي كانت تمر به عمان وكان في وضع لا يتيح له حرية التنقل، ومع ذلك أخرج للعالم أضخم موسوعة نظمية عرفها المسلمون وكان ينظم وهو يعمل في السقي وحرث الأرض فكان يجمع بين العلم والعمل وكان ينظم ويكتب على ضوء القمر حتى تم له مراده.
