Untitled-2
Untitled-2
المنوعات

لوحات عدنان يحيى ومنحوتاته .. الفن بوصفه وثيقة على الأحداث

28 يناير 2020
28 يناير 2020

عمّان - «العمانية»: عبر مسيرته الفنية الطويلة، وثّق الفنان التشكيلي الفلسطيني عدنان يحيى، تاريخ شعبه ونضاله ضد الاحتلال الإسرائيلي، من خلال لوحات رمزية سريالية نُفذت بالألوان الإكريليكية والزيتية، وبمنحوتات خزفية من السيراميك، وبأعمال أخرى تجمع بين اللون والنحت.

تتضمن أعمال يحيى المولود في مدينة إربد الأردنية عام 1960، تكوينات لأشكال تشير إلى «الجنرالات» الذين يمثلون «القوى الكبرى»، ويرمزون إلى فكرة الطغيان والظلم، ومعظم هذه الأعمال لوحات كبيرة تذكّر بفكرة النصب التذكارية أو «التماثيل»، وإذا كانت التماثيل تُظهر الجنرالات تاريخيًا في وضعية تستعرض قوتهم و«بطولاتهم»، فإنها في لوحات يحيى تُبرز خلاف ذلك، حيث أبعاد الجسد مشوّهة وغير متناسقة، والألوان باهتة، والأعضاء مبتورة أو منتفخة أو متحللة، وغالبًا ما تحيط بالتمثال مجسمات صغيرة يمكن لمسها باليد، تشير إلى التابعين الذين يخدمون «الجنرالات» وينقلون الحرب والدمار والكوارث أينما حلوا أو ارتحلوا.

وبوضوح ومباشرة، يقدم الفنان الحاصل على شهادة الدبلوم من معهد الفنون الجميلة في عمّان، نقدًا للظلم والقمع والاستبداد، كما يظهر في لوحاته المنفذة بالحبر الأسود والتي عرضها في أواخر الألفية الثانية (1999)، فهناك كومة من البشر المذبوحين تتراكم أجسادهم بعضها فوق بعض، وتحت هذا الفعل التراكمي تختفي وجوههم وملامحهم وحتى أبعادهم الإنسانية، ويتم التعامل معهم كما لو أنهم لا شيء يُذكر.

وأكثر ما يثير في هذه اللوحات السوداء القاتمة والمزعجة، إظهار مَن نجوا من الذبح وهم يعبّرون عن ردود أفعالهم بشكل مرعب؛ إذ نرى امرأة تمسك طفلها وتطلب المساعدة، ورجلا كبير السن يسحب شابًا من الكومة بينما يعتلي الحزن العميق ملامحه، وأطفالا ينسحبون بعيدًا بانكسار، ووجوها تحدق في الكومة البشرية، وأجسادًا تهرع راكضة ومبتعدة عن المشهد، وهي لا تعي أنها خلال ركضها المرعوب تدوس على الجثث المكوّمة فوق بعضها بعضًا.

ويخصص يحيى مساحة كبيرة من أعماله للممارسات التي ارتكبها الاحتلال ضد شعبه الأعزل. ومثال ذلك لوحاته عن مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا، حيث الشاحنات تدوس جثث الضحايا، وتقف فوق الجثث امرأتان مسنّتان تُشبهان تمثالين أفريقيين محفورين بالخشب، بينما تتدلى الأسلحة فوق الجثث، وقريباً من المشهد المؤلم يدٌ وحشية تشبه في امتداد أصابعها جذور الشجر المتشابكة وهي تحيط بالناس وتمتص حياتهم. هذه اللوحات تطرح برمزيتها فكرة التشويه والتفكك والتآكل الذي تُحدثه يد الطاغوت في الحياة البشرية.

وجاءت معظم ألوان اللوحات بين الأسود والرمادي الشاحب لتعبّر عن أفعال القتل الجماعي. وفي ما يمكن تسميته تجاوزًا «بورتريه»، يصور الفنان بألوان تحيل إلى تدرجات العفن والصدأ، رؤوس الطغاة العملاقة بوجوههم التي تبدو متحللة الملامح، مع إشارات إلى الرتب العسكرية بمدلولاتها الوحشية.

خلال تجربته الممتدة، قدم عدنان يحيى أعمالاً تقترب من فن الكاريكاتير، طرح من خلالها فكرته الناقدة بطريقة مباشرة ولكن بشكل غير مألوف، لأنّ ما شهده الشعب الفلسطيني يمثل ظلمًا صارخًا بينما تبدو ردود الفعل على ذلك مدعاة للسخرية المرة والسوداء. وهل أقدر من فن الكاريكاتير على النقد الساخر المرّ؟ وفي ما نفذه من منحوتات من السيراميك، اعتمد عدنان يحيى على أسلوب عامودي للتشكيل يبدأ من الأسفل وينتهي في الأعلى، وبخاصة في أعماله التي تُظهر بشاعة المجازر بحق الفلسطينيين واللبنانيين، حيث القاعدة يخرج منها شاهد قبر ذو ألوان معتمة وقاتمة تدل على حجم المأساة التي عاشها الضحايا، وعلى هذا الشاهد كلمات مستوحاة من شعر محمود درويش، وفي أعلاه تقف آنية كتلك التي تُستخدم لوضع الورد في داخلها، وهي تحمل تشكيلا لوجه الضحية، وقد اخترقه الرصاص وترك فجوات فيه، لكن الوجه ظل واضح المعالم وينظر بتحدّ كأنما يبشر بأنه سينبت ويزهر من جديد.

هذا التشكيل المقلوب كليًا، حيث جسد الضحية يعلو فوق شاهد القبر، دلالة واضحة على رسالة استمرار المقاومة جيلا بعد جيل.

وفي عمله «قانا»، اختار عدنان يحيى أن تكون الآنية على شكل تمثال الحرية الذي قاربَ شكل الخوذة العسكرية التي تلتهم بدمويتها أرواح الأبرياء. وفي عمله «جنين» عبّر عن تلك المذبحة من خلال نصب يعلو الشاهد وهو على شكل كرة أرضية عليها طائر يستغيث السماء. وفي منحوتته «القدس»، تتخذ الآنية شكلا تجريديًا دائريًا عليه حروفيات تشير إلى عروبة القدس. إلى جانب ذلك تبدو منحوتة الآنية في عمله «صبرا وشاتيلا» متصدعة وتخرج من قلبها يد بيضاء مصنوعة من الطين وفي وضعية تدين الظلم الذي يُرتكب بحق الشعب الفلسطيني، وهناك منحوتات لقبر تعلوه جثة في وضع يشبه الصلب.

في هذه الأعمال التي تشكل مجموعة منها مقتنيات لمتاحف ومؤسسات من مثل مؤسسة خالد شومان-دارة الفنون، والمتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، والمتحف الوطني القطري، ومعهد العالم العربي بباريس، يعبّر عدنان يحيى عن فكرته بكل ما تحمله من وضوح وإدانة وبشاعة لا تمتّ للجمال بصلة، وهو يقلب كل المعطيات من الأسفل إلى الأعلى، وكأنه بذلك يود التأكيد أن الموت يحمل أملاً قادمًا وحياة أفضل، وأن العدالة ستتغلب على الظلم والقهر يومًا.

أعمال عدنان يحيى التي تدين الظلم الذي يتعرض له شعب فلسطين، تترك دائمًا نافذة للأمل والحلم بغد أفضل. ويؤكد الفنان في شهادة إبداعية له أن تصوير أو نحت الأحداث المهمة هو بمثابة «وثيقة» من وثائق الفن المعاصر، وأن اللوحة السياسية «قوة من قوى الفكر الفعال للإنسانية»، وهي تحثّنا على عدم نسيان «مساوئ الطغاة».

ويضيف بقوله: «الموقف الإنساني في هذه الأعمال الفنية مرتبط بعلاقة أشكال، وليس بعلاقة شحنات لونية عاطفية، لأن الوظيفة الجمالية في هذه الأعمال، هي جزء مهم من البناء الثقافي الذي أسعى له».