
رحيل الأديب الجوّاب للعالم المستشرف لأوان ساعة الرحيل
وفاة الشاعر محمد الحارثي عن 56 عاما و13 إصدارا أدبيا -
كتب - محمد الحضرمي -
توفي الشاعر العماني البارز، محمد الحارثي عن عمر يبلغ 56 عاما، تاركا للمكتبة العمانية زهاء ثلاثة عشر عنوانا بين شعر ومقالات وأدب رحلات وعمل روائي، وتحقيق للآثار الشعرية الكاملة للشاعر أبو مسلم البهلاني، ومنذ أول عمل صدر له عام 1992م، بعنوان «عيون طوال النهار»، عن منشورات نجمة بالدار البيضاء بالمغرب، وحتى آخر عمل أدبي له صدر له هذا العام بعنوان «الناقة العمياء»، عن منشورات الجمل، بين هذه السنوات البالغة ربع قرن عمل محمد الحارثي على تطوير صوته الشعري والأدبي، بعد أن عرف في بداياته بكتابة القصيدة العمودية، ثم انحيازه بعد ذلك إلى كتابة قصيدة التفعيلة، ثم قصيدة النثر، وشق له صوت شعري خاص بمزج النثر بالشعر، والمتخيل بالواقع، وهذا ما يلمسه القارئ لعمليه: «الكتابة بقلم الرصاص» الصادر عن دار الانتشار اللبنانية، و«الناقة العمياء».
وها هو محمد الحارثي يطوي صفحة العمر بالرحيل مبكرا، بعد أن عاش سنواته الأخيرة في ضنك من المرض، وبات جسمه العليل لا يقوى على مواصلة الرحلات التي عرف بها، نتج عنها كتابان هما: عين وجناح رحلات في الجزر العذراء، زنجبار، تايلاند، فيتنام، الأندلس، والربع الخالي»، وعمله الثاني في أدب الرحلات الصادر عن دار مسعى بعنوان «محيط كتمندو».
يرحل محمد الحارثي ويترك في نفوس أصدقائه ومحبيه غصة وحرقة في القلب، حيث تجمعه صداقات مع معظم الأسماء في الساحة الثقافية العمانية والعربية. محمد الحارثي جوّاب الآفاق، وطوّاف المدن حول العالم بحقيبة صغيرة ودفتر يحمله معه، يسجل فيه مشاهداته ورؤاه، محمد الحارثي الذي ملأ الصحف المحلية أدبا رفيعا بكتاباته الشعرية ومقالاته النثرية الشبيهة بالشعر، بلغته الندية العذبة، يرحل أخيرا تاركا الساحة الأدبية العمانية والعربية، بعد أن أهداها أكثر من عشرة عناوين، وكان معرض الكتاب الأخير هو آخر اللقاءات به، فرغم المرض جاء يزحف بجسده العليل إلى مقر معرض مسقط الدولي للكتاب، ليوقع على آخر عمل له بعنوان: «الناقة العمياء».
اشتهر كتبه عين وجناح بين القراء، لأنه حصل على المرتبة الأولى لجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي عام 2003م، وفي آخر إصدار له يوثق محمد الحارثي سيرته الأدبية، متضمنة إصدارته، حيث ولد في المضيرب عام 1962م، صدرت له هذه الأعمال: «عيون طوال النهار»، شعر، صدر في المغرب 1992م، و«كل ليلة وضحاها»، شعر، صدر في كولونيا 1994م، و«أبعد من زنجبار»، شعر، صدر في القاهرة 1997م، وقصيدة شعرية بعنوان «فسيفساء حواء» وزعها الشاعر ضمن نشر منزلي أنجزه بالحاسوب بعدد 150 نسخة فقط، و«لعبة لا تمل»، شعر، صدر في كولونيا عام 2005م.
ثم بدأ يشتغل بأدب الرحلات فصدر له: «عين وجناح، رحلات في الجزء العذراء، زنجبار، تايلاند، فيتنام، الأندلس، والربع الخالي»، صدرت طبعته الأولى في بيروت عام 2004م، وطبعته الثانية في كولونيا بألمانيا عام 2008م، وطبعة ثالثة صدرت في سبتمبر عام 2009 ضمن مشروع كتاب في جريدة، الذي ترعاه منظمة اليونيسكو.
كما صدرت له الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني، تحقيق ودراسة، بغداد/ بيروت 2010م، وصدر له كتاب «ورشة الماضي» أوراق في السرد، الشعر، السينما، وسير الترحل، بيروت 2013م، و«عودة للكتابة بقلم رصاص»، شعر، بيروت 2013م، ورواية بعنوان «تنقيح المخطوطة»، صدرت في بيروت/ بغداد 2013م، و«قارب الكلمات يرسو»، مختارات شعرية، مسقط 2015م، وتجربته الثانية في أدب الرحلات بعنوان «محيط كتمندو»، رحلات في الهيمالايا، صدر الكتاب عن دار مسعى بالمنامة 2016م، وأخيرا «الناقة العمياء»، شعر.
وأحدث موت الشاعر محمد الحارثي تفاعلا نشطا في وسائل التواصل الاجتماعي، في صفحات الفيسبوك، أو عبر تغريدات التويتر أو الواتس أب، لينتقل الخبر إلى العالم سريعا، محدثا حزنا كبيرا في الوسط العماني والعربي.
من عمله الأخير «الناقة العمياء»، نختار هذين النصين: ترى كم كان محمد الحارثي يستشرف أوان ساعة الرحيل!.
1 - ليلة رأس العام 2016
الموت أستاذ، وتلاميذه حولي .. أحمد راشد ثاني
مُرَقَّد منذ ثلاثة أسابيع في مستشفى جامعة السلطان قابوس، بسبب احتشاء القفص الصدري بأمواهٍ راكمها ملحُ الطعام، لم تعد أقراص «الفيُوريسّيمايد» المُدرّة للبول نافعة، وعضلة القلب بالكاد تعمل كماكينة ديزل معطوبة، بنسبة 25% قابلة للنقصان.
أقرأ كتاب مارك كيرلانسكي: تاريخ الملح في العالم .. رغم ذلك تبدو الليلة بعيدة عن
اشتهاء الملح والصراع عليه، وتخزينه وفرض الضرائب.
فكل ذلك (وفقا للمؤلف) ضرب من المشهدية
الفائضة والغباء.
المُمرضات الفلبينيات علقنَ البالونات وأشرطة الفرح الملونة،
احتفاء بمقدم العام الجديد..
السرير المجاور كان خاليا بعد استلام الله وديعته قبل يومين،
تلك الليلة كنت أفكر فيمن سيخلف الشيخ الراحل؟.
لم يطل انتظاري
لأنهم جاؤوا بمريض غائبٍ عن سُنَّة الوعي
قبل أن تدق ساعة منتصف الليل
ليستنطقه طبيب من قسم الطب السُّلوكي.
حاله أفضل مني:
لن يعرف الفارق بين الأعوام في نهاية المطاف.
غرة يناير 2016
2 - قسطرة
Angiography
بعد شهر من العذاب الإكلينيكي؛
اضطررت لترك مستشفى الجامعة،
لأصعد الطائرة على كرسي مُدولبٍ كالمُقعدين.
تساءلت لماذا أرادوا قتلي؟
لتبرير فشلهم أمام الله والسلطان.
ها أنا ذا نزيل الغرفة 517 في مستشفى بانكوك للقلب.
ما أسعدني، ما أسعدني
ثمة غرفة
ثمة شُرفة
وسماء ماطرة أحيانا..
وجباتُ طعام أشهى مما ذقت طوال حياتي.
سقاياتُ وريدٍ ينبضُ بالكاد،
حبوب زرقاء وخضراء وبيضاء وسوداء كحلوى الأطفال.
شفطوا خلال 48 ساعة 9 كيلوجرامات
من بحيرة الماء المتراكم دهرا في قفصي الصدري ..
طبيبي يشبه ضفدعة القلب الرَّفاص
لطيفٌ مُبتسمٌ دوما ..
مِسماع أذنيه دقيقٌ
يَسبرُ مجرى نبضات القلب كضفدعة
المحو المسحور.
أجرى عملية قسطرة للقلب، وأخبرني:
عملية القلب المفتوح في 20 أبريل2013م
لا خطأ فيها، لكن القلب ضعيفُ الضَّخ، وقد يستدعي الأمرُ استزراع مُنظم ضربات للقلبِ القُلَّب
علَّك تُحمى في حالات الشِّدة من موتٍ قسري.
مستشفى بانكوك، 24 يناير 2016م.
محمد الحارثي يرحل قبل أن يحقق حلمه بغرس راية الشعر على إفرست -
حمود بن سالم السيابي -
كان عند أقدام «إفرست» إلا أنه لم يتسلقه فالعواصف الباردة بعثرت الحلم.
وحين جلس بجوار قبطان الطائرة «بوذا» ليرى إفرست من المرايا تراجع الحلم إلى الاكتفاء «بلمس إفرست بقلبه». وبينما يجتهد مساعد الطيار في استعراض قمم إفرست كان الشاعر محمد الحارثي يتخير أجمل القمم الباردة ليغرس راية الوطن ككل العشاق وليعلي راية الشعر ككل الموجوعين.
ولد محمد الحارثي تحت تعريشة الشعر.
وكما تتدلى الجلاجل في مهاد الرضع كانت عناقيد القصائد تتدلى بين يديه وهو يشرب مع رضاعة الحليب رنين «الخرخاش» وسهاد أمه. وكانت أمه تعد له «تحويجة الجيهو» لينام، فيخاتلها أبوه ليضيف لخلطة «الجيهو» ثمالات القصائد الجاهلية.
وبدلا من أن ينعس الطفل مع آخر تلويحة لفتائل القناديل يصحو الحارثي ليداعب الخرخاش فتشعشع خمور الأندرين في كؤوس عمرو بن كلثوم، وترقص صبايا الملك الضليل، وتتلألأ بقايا وشم خولة في عيون طرفة ابن العبد.
وقبل أن يلثغ الحارثي باسم أبيه وأمه، ويتعرف على وجوه أحمد بن محمد والقابل والمضيرب وإبراء كان يقود خيول الشعراء وأيائل القصائد فيتخذ من رفصة البيت وجدر السواقي منابر للشعر فيلتئم «عكاظ والمجنة وذو المجاز». وبعد أن أكمل الثانوية تيمم شطر ديار آل ثاني ليدرس في جامعة قطر علوم الأرض فكانت قارات الشعر هي عوالمه ومجاهله في التنقيب عن حومل وسبط اللوى وبرقة ثهمد.
وبدلا من أن يتخرج عالما جيولوجيا ينبش في الحجارة الكريمة للوطن وينقب عن الذهب الأسود والغاز والعقيق والزبرجد عاد من قطر ومعه تساؤلات نزار «أتراها تحبني ميسون» وجدليات إيليا أبي ماضي في طلاسمه المعروفة.
والتحق بمركز العلوم البحرية ليغوص بمشرطه في الأسماك وعوالم القيعان فاستقال ليهرب على أول موجة مجنونة تباعد بينه وبين هذا القتل اليومي المتعمد للكائنات البريئة.
إلا أن اليم لم يلقه بالساحل بل قذفه على لجج من جمر وشوك وعظام وفتات أصداف وزجاج ليحتج ويثور ويثأر على كل شيء بدءا بثمالات القصائد في فنجان جيهو الطفولة، إلى كسر قوالب شعر أبي الحكم إلى الانحياز لتفعيلة نزار ونازك الملائكة، إلى ركل كل ذلك ليتآخى مع سركون بولص وجبرا إبراهيم وأدونيس وجبرا وسماء عيسى وسيف الرحبي وزاهر الغافري.
ويشكل مع عبدالله الريامي ثنائيا شعريا فيعلقان «نجمة» في سماء الرباط، ليكتب «عيونا طوال النهار» ويغرق الريامي في رصد «فرق الهواء». وبينما ينضج مشروعه الإبداعي في «كل ليلة وضحاها» و «أبعد من زنجبار» و«لعبة لا تمل» يعاوده الحنين لسبلة أبيه ونونية أبي مسلم ونشيج السواقي واصطفاف النخل في مقاصير العائلة فيتذكر بيته وأمه وليالي السطح وفنجان الجيهو وثمالات القصائد الجاهلية فيعود ليجالس ناصر بن عديم ويتدارس زفراته وأشجانه ولواعجه وتصوفاته ليجمعها في سفر ضخم تتلألأ به المكتبة العمانية تحت عنوان «الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني». ولم تنجح صوفيات أبي مسلم في تهدئة الروح الثائرة فيرى نفسه في حماسيات «تلك البوارق حاديهن مرنان» ليشتعل جمرا وعنادا وثورة على نفسه وعلى الجميع.
وكان الترحال والتنقل من فندق إلى فندق ومن ثمالة بنٍّ إلى إكسير حزن سلوته لينسى، فركب «عينا وجناحا» ليحط في «الجزر العذراء» ثم يواصل السباحة في مجاهل آسيا فيحتويه «محيط كاتمندو». ولقد كان الحادي عشر من رمضان آخر قصيدة صامتة يطبق عليها بجفنيه، وسجل جواز سفره السابع والعشرين من مايو كآخر رحلة تحمله من السرير إلى الحدباء.
لقد غادر الشاعر الكبير والرحالة الأشهر محمد الحارثي دنيانا التي لم تتصالح معه ولا اتسعت لأحلامه ولعل الحارثي أخطأ كالكثيرين، وتسرع كالكثيرين، وثار كالكثيرين ولكنه يبقى ذلك الشاعر الذي يكبر الوطن في قلبه بقياساته لا بقياسات مساطر الآخرين، فصدم البعض وضاق به البعض ولم يلتمس له العذر البعض.
وبرحيل الشاعر الكبير محمد الحارثي يكون الوطن قد خسر ومضة من ومضاته، وتقلصت مساحة الضوء التي تزين سماءه.
لقد حلم الشاعر الحارثي أن يتسلق إفرست ليزرع راية الوطن فعانده الحظ فاكتفى بلمسه بقلبه، وعلينا أن نكبر بحلمه لنغرس اسمه راية على سارية الشموخ لتتعلم الأجيال نبض الحرف ووجع الشعر.
مات محمد الحارثي، عاشت الرحلة ثلاثية الأبعاد -
محمود الرحبي -
رحل محمد الحارثي تاركا صخبه منثورا شعرا نثرا ونثرا شعرا في صفحات أكثر من كتاب.
وإن كان محمد شاعرا في الأصل، إلا أنه وجد ضالته في كتابة الرحلات، وقد أتاحت له حياته الميسورة أن يسافر وقتما يفكر في السفر.
كان يمكث في عمان ورأسه محلق في نقطة بعيدة من الهند أو آسيا.
يعيش فيها أدق التفاصيل ثم يسجلها في كتاب رحلات ثلاثي الأبعاد نابض بالحياة (يُرى ويُقرأ ويعاش) فمن يقرأ كتابيه الضخمين «محيط كتماندو» و«عين وجناح»، فهو في الحقيقة لا يقرأ معلومات سياحية كاتالوجية، إنما يعيش رحلة بكل خطوات صعودها الجبلي وتموجاتها البحرية وصخب شوارعها ومونولجات بشرها وروائح أطعمتها.
وبنفسيات بشرها الذين يلتقيهم ويوشج معهم العلائق ويجالسهم ويدخل بيوتهم.
في آخر لقاء لي به قبل أشهر قليلة من انهيار صحته ثم رحيله، في مقهى بمدينة الحيل، كان يحدثني عن كتاب جديد له في الرحلة أيضا وهذه المرة عن بلد يقع ضمن شبه القارة الهندية ( سيريلانكا). التقيت محمد الحارثي أول مرة في المغرب، كنت طالبا حينها وكان مقيما لفترة ليست بالطويلة، وقد أسس برفقة أصدقاء منشورات «نجمة» وهناك أصدر ديوانه الأول (عيون طوال النهار) بلوحة للفنان المغربي الجميل أحمد بن سماعيل.
تنقل بعدها محمد في أكثر من مكان عبر العالم، ولكن تركز مكوثه أكثر في بلدان غير عربية، وخاصة بلدان الهند وآسيا أو تلك الواقعة بينهما كالنيبال، حيث ترك سفرا جميلا حمل عنوان «محيط كتماندو» وهي عاصمة النيبال ومحيطها الهندي والآسيوي.
في آخر أيامه عاش محمد صراعا مع أكثر من مرض، كانت الأمراض تصارعه فيصرعها في أحيان كثيرة ليخرج بكامل حياته وعنفوانه شادا الرحيل إلى أفق جديد.
أذكر ذات مرة في المنتجع الصحراوي (واحة نهار) وهو فندق بري كان يمتلكه أخوه المرحوم عبدالله الحارثي، والذي كان كذلك لديه منتجع في قلب الصحراء أطلق عليه «ألف ليلة»، وقد نال شهرة واسعة بعد زيارة ملك السويد له.
قال لي محمد: (الحياة تختبر مدى قوتي) متحدثا عن الأمراض التي غدت تسكن جسده، وضابطا ساعته وهاتفه على مواعيد أدوية عديدة.
لا شك أن برحيل محمد الحارثي يتوقف مسار إبداع عماني متدفق خبر الدنيا طولا وعرضا، شرقا وغربا، ونال منها جرعات من الصراع والألم والسعادة والتأمل والشعر.
فيما يلي مقتطف من كتابه الرحلي (عين وجناح) الفائز بجائزة ابن بطوطة: ( أفقنا من النوم متأخرين وشربنا القهوة في «الفور سيكند ستريت» الذي يعد من أكثر شوارع نيويورك حيوية وحياة بصخب مقاهيه وحاناته ودور العرض السينمائية والمسرحية فضلا عن تمركز أرقى محلات الأزياء والعطور على ضفتيه، بعدها انتعلنا المترو النيويوركي القبيح (ولا مقارنة هنا بأي محطات مترو موسكو) إلى حي الرونكس الذي تتكدس فيه حيوات مهاجرين من أصقاع الأرض: أفارقة، هنودا، عربا، صنيين، لاتينو- أمريكيين..
كنا نتلذذ بالسير في ذلك الكرنفال العجيب من الأجناس (ثقافات، سحن، روائح بضائع من مومبي ودمشق وكاراكاس وكنشاسا، عندما لفتت انتباهي لافتة: (مطعم اليمن السعيد) الذي وجدت نفسي أجر صديقي إليه لتناول الغداء، مأخوذا برائحة السلتة والعصيد اليمني الشهير.
لم يكن الغداء اليمني الذي تشهيت عصيدا يمنيا تقليديا، وإنما ندوة دسمة في العروبة وأشباهها دارت رحاها بين الطاولتين المجاورتين لنا اضطررنا - باستمتاع لا ينكر- إلى متابعتها والإنصات لحفيف سهامها التي تقاذفها مهاجرون يمنيون ومصريون فحواها»: تلك المغامرة التي لا جدوى منها سوى «إراقة دماء أبناء مصر الأحرار عشان شوية قبايل يتناحرون في اليمن» وعن حق العروبة الذي دافع عنه عبدالناصر» بشجاعة رجل صنعاني لا يخشى في الحق لومة لائم» ظل النقاش البائس يتناوب بين السادات وعبد الناصر والملك فيصل والإمام والنكسة، إلى أن استل الصنعاني ذؤابته إلى ساحة أخرى، مؤكدا لمحاوره المصري أن عالم الجيولوجيا فاروق الباز هو من حدد موقع الوادي الذي هبطت فيه مركبة « أبولو - 11 عام 1969 على سطح القمر، وان ذلك ما كان ليتم لولا عبدالناصر، مغطيا بمعلوماته الدقيقة عن عصر الفضاء مباريه في النقاش مستمتعا وهو يرتشف الشاي بدوي الحجر العلمي الذي ألقاه في وجه خصمه.
لكن المبارزة، في آخر الأمر، لم تكن متكافئة لسبب بسيط هو تلك الروح التهكمية العالية لدى المصري الذي ألمح إلى فاروق الباز نفسه قائلا: « آه، آه.. لو كان عندكو واحد زيه ف صنعا كنت حتقلبوا المريخ قعدة قات!».