1230941
1230941
إشراقات

التدبُّر والتفكُّر.. في موازين الشرع الحكيم

25 يناير 2018
25 يناير 2018

عبــادة جـلـيلـة -

ميمونة بنت حميد الجامعية -

عبادة التفكر هي عبادة جليلة شريفة عظيمة القدر، حيث نجد أن الكثير من الآيات القرآنية تحث عليها، مع الإشارة الصريحة إلى النفس الإنسانية «وفي أنفسكم أفلا تبصرون»، والنظر إلى البيئة القريبة وما فيها من وسائل يستخدمها الإنسان «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت»، كما نجد في سورة الروم دعوة إلى التفكر في الكون كله وما فيه من مخلوقات إذ تفتتح آيات كثيرة منها «ومن آياته...» ثم تنتهي كل آية «إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون»، «لآيات لقوم يعقلون»، «لآيات للعالِمين»، «لآيات لقوم يسمعون»، كذلك بشأن تدبر القرآن «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها»، وبتدبر آيات الله يستطيع الإنسان أن يتأمل هذا الكون ويقرأ ما فيه من آيات بينات تعينه على فهم الحياة عموما، وعلى الربط بينها وبين آيات القرآن على وجه الخصوص، فإن تدبر الآيات القرآنية وجد آيات الكون ماثلة أمامه، وأن جاب بفكره أرجاء الكون وجد كتاب الله مفتوحا على صفحة هذا الكون الواسع.

والمسلم مطالب بالجمع بين التدبر والتفكر والتأمل، وقد قيل عن التدبر بأنه: تصرف القلب بالنظر في العواقب، والتفكر: تصرف القلب بالنظر في الدلائل، أما التأمل: النظر المؤمل به معرفة ما يطلب، ولا يكون إلا في طول مدة، فكل تأمل نظر، وليس كل نظر تأملا، وقيل التأمل: تدبر الشيء، وإعادة النظر فيه مرة بعد أخرى ليتحققه».

وللتفكر أثر عظيم في قلب المسلم، حيث ينتابه تطلع وشوق لما في الآيات من غذاء ورواء روحي، فيبحث فيها عما يسكن قلبه، ولا يهدأ باله حتى يقضي شوقه، فيسبع جوعته، ويروي غلته، وفي قلب المتدبر حاجة ماسة لا يجدها إلا في آيات الله الكونية والقرآنية.

إن المتفكر في الكون الفسيح، وفي خلق الله العظيم يعينه لأن يكون قادرا على صناعة المفاهيم، وبلورة الرؤى، واستخلاص العبر، وكشف السنن، وتشخيص الأزمات، وهو يحاول أن يعمل فكره في تحديد المشكلات، والوقوف عليها بغية إصلاحها بالعثور على حلول لها، ويعدل رؤيته للواقع، وفي حكمه عليه، فهو في حالة مستمرة من التلمس للمنهجية الصحيحة في التفكير السليم.

كما أن إعمال العقل بالتفكير يعني محاولة لاستقصاء الخبرة، وتقليب لمحصولها من أجل اتخاذ قرار، أو حل مشكلة، أو إصدار حكم، كما أنه يساعد على بناء نماذج عقلية واعية تعمل وفق نسق منظم، بمنهجية واضحة المعالم.

ولعل أهم ما يعين على التزام التفكير والسعي إلى استشعاره على أنه عبادة وجود الدافع: والشعور بأنه طريق لابد أن يبذل فيه الجهد، فهو ليس ممهدا كما يتصور الأغلب، لذلك لابد من الرغبة الداخلية القوية في السير فيه «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، ولا شك أن أرقى الدوافع هو ذلك الذي يتصل برضوان الله سبحانه وتعالى، بحيث يدفع المسلم إلى إضافة شيء جديد للحياة، يساعد الناس على أن يحيوا حياة طيبة كريمة، ويتمكنوا من حل مشكلاتهم التي تواجههم وبمقدار ما يخلص الإنسان لله تعالى في مقاصده يجد من توفيقه ومعونته له، وما يعضد هذا كله أن يكون لدى الفرد صفتي التركيز والاهتمام: وهما فضيلتان متداخلتان، أي أن الواحد منا إذا اهتم بشيء، فإنه يركز، وإذا ركز على شيء استنفر كل طاقاته للاهتمام بكل ما يتعلق به، والمجال رحب للغاية وفسيح أكثر مما نتصور لأن يبدع الإنسان في تفكيره ليقوي إيمانه فيتقرب إلى خالقه، وقد قيل عن المعرفة بأنها وقود العقل، بما تقود الإنسان لأن يكون مؤمنا شاكرا.

ونجد في الكون وفي القرآن من مهارات التفكير المختلفة؛ من قوة التأثير والإقناع، والتمييز، والبرهنة على صحة الكلام، وأنواع التفكير، والتأثير في المشاعر، والتشبيه، كما أعطانا القرآن الكريم العديد من النماذج على اتخاذ القرار وحل المشكلات والربط والتحليل والتقييم والتطبيق والتخطيط والتلخيص والمقارنة والملاحظة والتصنيف والتفسير، فمثال على المقارنة «أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم»، وعلى حاسة السمع «قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا»، وعلى «اتخاذ القرار» ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين»، ولا يتسع المقام لذكر مثال على كل نوع.

إن أهمية تكرار الإشارة الربانية بالنظر إلى هذا الكون، ذلك أن الكون كتاب مفتوح، يحمل بذاته دلائل الإيمان، وآياته ويشي وراءه من يد تدبره بحكمة، ويوحي بأن وراء هذه الحياة الدنيا آخرة، وحسابا وجزاء، إنما يدرك هذه الدلائل، ويقرأ هذه الآيات، ويرى هذه الحكمة، ويسمع هذه الإيحاءات «أولوا الألباب» فمن الناس الذين لا يمرون بهذا الكتاب المفتوح، وبهذه الآيات الباهرة مغمضي الأعين غير واعين! وهذه الحقيقة تمثل أحد مقومات التصور الإسلامي عن هذا «الكون»، والصلة الوثيقة بينه وبين فطرة «الإنسان»، والتفاهم الداخلي الوثيق بين فطرة الكون وفطرة الإنسان ودلالة هذا الكون بذاته على خالقه من جهة، وعلى الناموس الذي يصرّفه وما يصاحبه من «غاية» و«حكمة» و«قصد» من جهة أخرى، وهي ذات أهمية بالغة في تقرير موقف «الإنسان» من «الكون» و«إله» الكون سبحانه وتعالى، فهي ركيزة من ركائز التصور الإسلامي للوجود.

ثم يكثر التوجيه إلى هذه المصادر، والظاهرة في الكون والمكنونة في النفس، لتلقي المعرفة من كتاب الله المفتوح، كتلقي المعرفة من كتاب الله المقروء في تناسق وتوازن، يجمع بين مصادر المعرفة كلها، في غير تصادم ولا تعارض «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».

إن السياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويرا دقيقا، وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي، يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح، في التعامل مع الكون، وفي التخاطب معه بلغته، والتجاوب مع فطرته وحقيقته، والانطباع بإشاراته وإيحاءاته، ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب «معرفة» للإنسان المؤمن الموصول باللّه، وبما تبدعه يد اللّه، فيجد فيه كل ما يحتاجه لتستقيم حياته وتطمئن نفسه.

وفي الآية يقرن الله ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر اللّه وعبادته «قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ» وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، من هنا يسلك هذا التفكر مسلك العبادة، ويجعله جانبا من مشهد الذكر، فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين: الحقيقة الأولى: أن التفكر في خلق اللّه، والتدبر في كتاب الكون المفتوح، وتتبع يد اللّه المبدعة، وهي تحرك هذا الكون، وتقلب صفحات هذا الكتاب، هو عبادة للّه من صميم العبادة، وذكر للّه من صميم الذكر. والحقيقة الثانية: أن آيات اللّه في الكون، لا تتجلى على حقيقتها الموحية، إلا للقلوب الذاكرة العابدة.

وأن هؤلاء الذين يذكرون اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبهم وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار؛ هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح.

«وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال، إنها لحظة تمثل صفاء القلب، وشفافية الروح، وتفتح الإدراك، واستعداده للتلقي، كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع، إنها لحظة العبادة، وهي بهذا الوصف لحظة اتصال، ولحظة استقبال، فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، ملهما للحقيقة الكامنة فيها، ولإدراك أنها لم تخلق عبثا ولا باطلا، ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة «رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».

أي: «ما خلقت هذا الكون ليكون باطلا، ولكن ليكون حقا، الحق قوامه، والحق قانونه، والحق أصيل فيه، فليس متروكا للفوضى، وهو يمضي لغاية، فليس متروكا للمصادفة، وهو محكوم في وجوده وفي حركته وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل ».

هذه هي اللمسة الأولى، التي تمس قلوب «لِّأُولِي الْأَلْبَابِ» من التفكر في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، بشعور العبادة والذكر والاتصال، وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون، فتطلق ألسنتهم بتسبيح اللّه وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلا».

إن النظر في الكون من أهم المعينات على سلامة القلب ومن ثم سلامة الجسد، كما أن سلامة القلب مدعاة إلى تعميق الإيمان لدى المتأمل، فيوقظ الله تعالى أفكاره، ينبه عقوله، يلفت نظره، فحين يقف على الآية التالية «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا»، أي: هذه الأرض جهزت لبني آدم، وهيئت لاستقبالهم «أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ . بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»، ومع ذلك فالأرض مستقرة رغم حركتها. فمن يعمل عقله يتفكر من جعل الأرض مستقرة على مسارها، «إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا» «أإله مع الله...» من يستطيع في الكون كله، أن يبقي الأرض على مسارها؟

«من جعلها تزيد من سرعتها إذا اقتربت من القطر الأدنى؟ من جعل هذه الزيادة تدريجية ، تسارع منظَّم ، من جعلها؟ يد من؟ يد الله سبحانه وتعالى، من وفر في الأرض الهواء؟»

وكذلك الهواء مع الأرض، والهواء متحرك «إِنْ يَشَأْ يُسْكِن الرِّيح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِد عَلَى ظَهْره إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَات لِكُلِّ صَبَّار شَكُور».

هناك رياحٌ لطيفة، رياحٌ معقولة، تبدِّل الأجواء، تنقي الأجواء، وهكذا، من وفر لهذه الأرض أشعة الشمس الدافئة المنيرة، المعقمة، من وفر الطعام والشراب، من خلق النبات، هذا كلّه من قوله تعالى «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا»، من أعطى الأرض الحرارة المناسبة؟ من جعل الليل والنهار بطولٍ يساوي حاجتنا إلى النوم والعمل؟

ومما يؤلم انصراف كثير من الناس عن النظر في هذا الكون الفسيح، فأكثر ما في الكون يذكر الإنسان بآيات اللّه الدالة على وحدانيته وقدرته وهي كثيرة مبثوثة في تضاعيف الكون، لا تقتصر على شيء دون شيء، ولا حال دون حال، فحيثما مد الإنسان ببصره وجد آيات اللّه تطالعه في هذا الكون العجيب«إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»، فهي معروضة للأبصار والبصائر، في السماوات وفي الأرض، يمرون عليها صباح مساء، آناء الليل وأطراف النهار، وهي ناطقة تكاد تدعو الناس إليها، بارزة تواجه العيون والمشاعر، موحية تخايل للقلوب والعقول «تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ»، ولكن أكثر الناس لا يرونها، ولا يسمعون دعاءها، ولا يحسون إيقاعها العميق، فما فيه من آيات مبذولة للعالمين، لا احتكار فيها لأمة ولا جنس ولا قبيلة، ولا ثمن لها ولا شرط يعجز عنه أحد، إنما هي ذكرى للعالمين، ومائدة عامة شاملة معروضة لمن يريد ومع ذلك أكثر الناس هم معرضون، يقول الله تعالى: «وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ».

إن أكثر الناس يمرون على الآيات المبثوثة في صفحة الوجود فلا ينتبهون إليها، ولا يدركون مدلولها، كالذي يلوي صفحة وجهه فلا يرى ما يواجهه، فما الذي ينتظرونه؟ « تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ»، إن هذا الإعراض لا يؤهلهم للإيمان، ولا يجعلهم ينتفعون بدلائله المبثوثة في الآفاق. كيف يشعر الإنسان بوجود الله؟ هو أن ينظر إلى خلق الله ويتفكر فيه «وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»، ويقول سبحانه: «فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ . جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ . لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».

فالإيمان هو الذي يفتح القلوب لتلقي الأصداء والأضواء والإحساس بما فيها من آيات اللّه المبثوثة في الأرض والسماء، والإيمان هو الذي تخالط القلوب بشاشته فتحيا وترق وتلطف وتلتقط ما يذخر به الكون من إيحاءات خفية وظاهرة، تشير كلها إلى اليد الصانعة، وطابعها المميز في كل ما تصوغه وتبدعه من أشياء ومن أحياء، وكل ما خرج من هذه اليد فهو خارق معجز لا يقدر على إبداعه أحد من خلق اللّه.

قد لا يدرك الإنسان مصيره حين يختار طريقا غير الطريق المرسوم له من قبل الخالق، فكانت إحدى النساء تقول:«ألا يكفي أن ننظر إلى المرضى وهم ممدون على الأسرة، فلم النظر في السماء ولم التأمل في النجوم»؟

إن التفكر في المرضى هو جزء من التأمل في خلق الله، ولكن لا يغني عن التفكر فيما نصت عليه الآيات الصريحة من التأمل في السماء وما فيها، وهذا الجواب يقود لموقف مماثل لإحدى النساء المشاركات حين تساءلت في نفسها ما الجدوى من مشاهدة النجوم؟ فجاءها الجواب سريعا من شاشة التلفاز وهي على جلستها وكأن الله أرسل الجواب على لسان المتحدث آنذاك، يقول سبحانه تعالى: «وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ»، «أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

«مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ» بنواميسه التي أودعها فطرة الطير وفطرة الكون من حولها، وجعل الطير قادرة على الطيران، وجعل الجو من حولها مناسبا لهذا الطيران وأمسك بها الطير لا تسقط وهي في جو السماء «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» فالقلب المؤمن هو القلب الشاعر ببدائع الخلق والتكوين، المدرك لما فيها من روعة باهرة تهز المشاعر وتستجيش الضمائر.

وهو يعبر عن إحساسه بروعة الخلق، بالإيمان والعبادة والتسبيح والموهوبون من المؤمنين هبة التعبير، قادرون على إبداع ألوان من رائع القول في بدائع الخلق والتكوين، لا يبلغ إليها شاعر لم تمس قلبه شرارة الإيمان المشرق الوضيء. «خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ . وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ . بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ»

الكون معرض من خلاله ندرك قدر الخالق، وحتى يتحقق ذلك لا بد من التجول فيه، أما الغافلون فيعرفون أن هناك الله لكن معرفتهم سطحية «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ . قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ . بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».

إذا نظرنا إلى الكون ماذا يقدم لنا من خدمات، ننظر إلى جسمنا ماذا يقدم لنا؟ والمعدة والأمعاء وبقية الأجزاء ماذا يقدم كل منها للإنسان؟ الخدمات المقدمة لا تعد ولا تحصى، سندرك حينئذ أن الخالق عظيم، وعندما يطلب منا علينا أن نستجيب.

إن لحظة تأمل واحدة كافية لارتعاش القلب بقشعريرة الإدراك الرهيب، والتأثر المستجيب؛ ولكنهم «يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ» لذلك لا يؤمن الأكثرون! وحتى الذين يؤمنون هم في جهاد مع النفس لئلا يتسلل الشرك الخفي إلى قلوبهم في أي صورة من صوره المتعددة، وسلاحهم في جهادهم الذكر الكثير، يقول الحق سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ».

فالإيمان الخالص يحتاج إلى يقظة دائمة تنفي عن القلب أولا بأول كل خالجة شيطانية، وأن يستشعر أن كل ما في الكون هو من صنع الخالق وما أوجده الخالق سبحانه إلا لحكمة، فكل مخلوق في هذا الكون يحمل رسالة وخلقه لم يكن عبثا، يقول الله تعالى في سياق الحديث عن التفكر في الكون «رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»، فالإيمان الخالص يحتاج إلى حسم كامل في قضية السلطان على القلب وعلى التصرف والسلوك فلا تبقى في القلب دينونة إلا للّه سبحانه، ولا تبقى في الحياة عبودية إلا للمولى الواحد الذي لا راد لما يريد.

وللقرآن أسلوب فريد في تناوله للأحداث وتصويره لها فهو «تصوير حيّ منتزع من عالم الأحياء، تصوير تقاس الأبعاد فيه والمسافات، فالمشاعر تترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية، أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة.. ثم تتوالى الحركات النفسية، تجاه لمسات الكون.. فما العلاقة الوجدانية بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق، وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار؟»

إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره، معناه عند أولي الألباب أن هناك تقديرا وتدبيرا، وأن هناك حكمة وغاية، وأن هناك حقا وعدلا وراء حياة الناس في هذا الكوكب، ولا بد إذن من حساب، ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال، ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء.

فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة، تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع، لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار، فيكون الدعاء إلى اللّه أن يقيهم منها، هو الخاطر الأول، المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود ... وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر، ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء الطويل، الخاشع الواجف الراجف المنيب، ذي النغم العذب، والإيقاع المنساب، والحرارة البادية في المقاطع والأنغام! ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار ... لا بد من وقفة أمام قولهم: إنها تشي بأن خوفهم من النار، إنما هو خوف قبل كل شيء من الخزي الذي يصيب أهل النار، وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولا رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار. فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من اللّه، فهم أشد حساسية به من لذع النار! كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من اللّه، وأن الظالمين ما لهم من أنصار ... على أن مما يحول بين لذة عبادة التفكر وبين قلب المرء هو بعده عن منهج الله، فيحرم نعمة التفكر، فما أن تلج المعصية إلى القلب يظلم إذ تطفئ المعصية نور القلب الذي كان يبصر آيات الله العظيمة، فإذا ما تخلص القلب وتطهر من أدرانه وتاب توبة نصوحا عاد قلبه سليما معافى «ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم»، وعدم استشعار الإنسان لنعم الله هي من الحرمان، فإذا ما تخلص القلب من عوالقه كان مستعدا في أي لحظة للقاء الله، وقد اشترط سبحانه وتعالى بأنه لا يقبل إلا صاحب القلب السليم «إلا من أتى الله بقلب سليم»، ومما يعين على سلامة القلب المواظبة على تدبر آيات الله، وإسقاط هذه الآيات على السلوك والواقع المعاش فيكون الإنسان قرآنا يمشي على الأرض متأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ما استدرجه شياطين الإنس والجن يكون سريع العودة إلى الله، فلا شيء أكثر من المعاصي تزيل النعم، ولا يعيدها غير التوبة والندم والإقلاع عن المعصية والعزم الأكيد بعدم العودة إليها. (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب).