هل ستغير حرب غزة العالم؟
يميل المحللون إلى تشبيه الأزمات الدولية، فيقارنونها -مستعملين مصطلحات نهاية العالم- بالأحداث العالمية التي غيّرت النظام الدولي؟ فهل هذا الحدث سراييفو أخرى؟ أم ميونخ؟ أم أزمة الصواريخ الكوبية؟
يزعم عنوان تقرير في صدر صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية أن «الحرب تغير الديناميات العالمية» ويمضي ليقول إن الحرب الجارية بين إسرائيل وحماس لا تخاطر فقط بجحيم إقليمي ولكنها تؤثر على توازن القوى العالمي تأثيرًا دراميًّا لا يختلف عن الحرب الروسية على أوكرانيا.
لقد بدا أن الحرب الأوكرانية وضعت الخطوط العريضة للنظام الدولي في ما بعد الحرب الباردة، وبموجبها تواجه كتلة غربية بقيادة الولايات المتحدة محور الدول الاستبدادية الصيني-الروسي الذي يهدد النظام الدولي الليبرالي القائم منذ ما بعد 1945.
قد يجادل البعض بأن سردية «الحرب الباردة الجديدة» هذه لا تقيم وزنًا لواقع أن المصالح الاستراتيجية لموسكو والصين أو حتى لواشنطن وباريس غير متوافقة دائما.
ومن هنا فإن الصينيين لم يجاهروا بدعم الحرب الروسية على أوكرانيا، ونأى الفرنسيون بأنفسهم عن نهج الـ«انفكاك» الذي اتبعته أمريكا مع الصين، وتوازن القوى العالمي قد يتغير مرة أخرى بناء على نتيجة حرب أوكرانيا.
ومع ذلك، فقد شجعت حرب غزة أفرادا في مجتمع السياسة الخارجية بواشنطن على محاولة توسيع سردية «الحرب الباردة الجديدة» لتشمل الحرب القومية العرقية الجارية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتشمل في سياق أكبر، صراعا بين قوتين إقليميتين هما إسرائيل وإيران ووكلاؤها الإقليميون.
إن القول بأننا نواجه الآن مصادمة بين محور صيني-روسي-إيراني-حمساوي وكتلة غربية متحالفة مع إسرائيل يعكس قراءة بدائية للطريقة التي أثرت بها هجمة حماس على مصالح لاعبين كبار.
وتذكروا أن الرأي السائد في السادس من أكتوبر كان يرى أن إسرائيل والمملكة العربية السعودية -في سياق طموح استراتيجي أمريكي- في طريقهما إلى تطبيع علاقاتهما، وكان يمكن لهذه العملية أن تفضي إلى صياغة شراكة عربية-إسرائيلية موالية لأمريكا ورامية إلى احتواء إيران وشركائها الإقليميين.
كان من شأن هذا النصر الدبلوماسي الأمريكي أن يمثل لطمة كبيرة لمصالح الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وخاصة لأن التقارب السعودي-الإسرائيلي كان ليصحبه اتفاق أمني بين واشنطن والرياض وكان ليسمح للسعوديين بالشروع في برنامج نووي.
من وجهة نظر حماس، كان الاتفاق السعودي الإسرائيلي -الشبيه كثيرا بالاتفاقيات الإبراهيمية السابقة عليه- كفيلًا بأن يطرح مصالح الفلسطينيين إلى مؤخرة السياسة الخارجية، ويثبت أنه بالإمكان التوصل إلى سلام بين العرب وإسرائيل دونما حل للقضية الفلسطينية.
لقد كثر الكلام في أعقاب حربَي العراق وأفغانستان عن «انسحاب» أمريكي من الشرق الأوسط كان يفترض به أن يؤدي إلى فراغ استراتيجي في المنطقة، وكان نجاح الصين الدبلوماسي في التوسط في اتفاق بين السعوديين والإيرانيين على إنهاء حرب اليمن الأهلية قد اعتبر جزءًا من مسعى بكين إلى ملء الفراغ الناجم عن «انسحاب» الولايات المتحدة.
من هذا المنظور الجيواستراتيجي، كان من شأن الاتفاق الإسرائيلي-السعودي الذي طرحته واشنطن أن يعيد تأكيد القوة الأمريكية في الشرق الأوسط بتكلفة زهيدة نسبيا، فيترتب على ذلك أن تتمكن الولايات المتحدة من مواصلة تحدي النفوذ الروسي-الصيني في أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادي على الترتيب.
فضلًا عن ذلك، كان من شأن الاتفاق الأمني السعودي-الأمريكي أن يتيح للأمريكيين الضغط على السعوديين للمساعدة في إدارة أسواق الطاقة العالمية ويضغط لتقليل أسعار النفط والغاز التي ارتفعت من جراء حرب أوكرانيا.
ومن نافلة القول إن هجمة حماس الناجحة على إسرائيل لم تضر فقط بمصالح شريك لأمريكا وإنما ألحقت لطمة قوية بالخطط الأمريكية لإعادة صياغة الشرق الأوسط.
من المهم أن نأخذ بعين الاعتبار أن من أسباب ترحاب السعوديين ودول خليجية أخرى بفكرة إقامة علاقات مع الدولة اليهودية هو التصور بأن إسرائيل تمثل قوة تكنولوجيا عسكرية جبارة قادرة على موازنة القوة الإيرانية، وبمعاناة إسرائيل من خسارة في قوتها الرادعة إثر هجمة حماس، قد تكون هذه الصورة تغيرت.
فضلًا عن أن مواجهة ضغط «الشارع العربي» بسبب ارتفاع الخسائر بين المدنيين من جراء القصف الإسرائيلي لغزة، قد تجعل المملكة العربية السعودية ودولا سنية عربية أخرى تعيد النظر في علاقتها بإسرائيل وتنأى بأنفسها عن راعيها الأمريكي.
كل هذه التطورات تمثل أخبارا طيبة للروس والصينيين الذين يستفيدون من الخسائر الأمريكية ويرجون أن ترغم حرب الشرق الأوسط واشنطن على إعادة تقييم طموحاتها الاستراتيجية في منطقتي المحيطين الهادي والأطلنطي.
في الوقت نفسه كانت روسيا تقوّي علاقاتها بإيران التي أمدتها بالطائرات المسيّرة وأسلحة أخرى للمساعدة في خوض حرب أوكرانيا، بينما قامت الصين -التي يعتمد اقتصادها على نفط الشرق الأوسط- بتقوية تعاونها مع إيران، فوجّه كلا البلدين الدعوة لإيران للانضمام إلى منتدى بريكس بلس الاقتصادي لمواجهة الهيمنة الأمريكية الجيواقتصادية، لذلك يفترض بالبلدين أن يكونا راضيين إذ يريان طهران وشريكتها ينتصران في الجولة الأخيرة من الصراع مع الشراكة الأمريكية-الإسرائيلية.
في سياق الحرب الباردة الجديدة، ترجو الصين وروسيا أيضًا أن تفوزا بقلوب وعقول أمم ما يعرف بالجنوب العالمي، ولقد وفرت لهما حرب غزة فرصة لذلك بفضحها المفترض لـ«النفاق» الأمريكي من خلال الاحتجاج بأن الأمريكيين يدعمون الإسرائيليين والأوكرانيين لأنهم «بيض» ولا يقيمون وزنًا لمصالح الفلسطينيين لأنهم شعب «أسمر» من شعوب العالم الثالث.
دعكم من أن أكثر من نصف اليهود الإسرائيليين هم من أصول شرق أوسطية، وأن الفلسطينيين مصنفون من القوقازيين، ودعكم من عدم الاعتراف بالنفاق الصيني-الروسي، فالصينيون يقمعون أقليتهم المسلمة من الأويجور والروس يخوضون حرب إبادة للمسلمين في الشيشان حتى ليبدو قطاع غزة بالقياس إليها أقرب إلى سانتا مونيكا، وعلى أي حال، فكرة أن الجنوب العالمي يبتلع التسويق الصيني-الروسي لحرب غزة يتجاهل الواقع، فالهند -رمز الجنوب العالمي- حليف استراتيجي للولايات المتحدة وشريك قريب للدولة اليهودية.
في الواقع، كان رد الفعل الصيني-الروسي على حرب غزة ذا طبيعة انتهازية، يرمي إلى استغلال مشكلات أمريكا، وهذا يختلف كثيرا عن القول بأن مصالحهم الاستراتيجية تتسق تمام الاتساق مع مصالح إيران أو أنهم يدعمون حماس.
والحق أن الروس يحافظون على علاقات وثيقة مع إسرائيل بما أنها موطن لمئات الآلاف من المهاجرين الروس، وقد سمحت لإسرائيل بمهاجمة أهداف عسكرية في سوريا المجاورة التي تعد -لأسباب عملية كثيرة- محمية روسية، وهذا يفسر جزئيا مقاومة إسرائيل للضغط الأمريكي من أجل الانضمام للتحالف الموالي لأوكرانيا.
بالمثل، تحتفظ الصين بتعاون دينامي مع إسرائيل في القطاعين التكنولوجي والعلمي، وشأن حالة روسيا، لا يدعم الإسرائيليون استراتيجية أمريكا المعادية للصين.
وأيضًا لا تشترك الصين وروسيا بالضرورة في مصالح واحدة في الشرق الأوسط، فبالإضافة إلى قرب روسيا الجغرافي فإن لها علاقات تاريخية بالمنطقة ترجع إلى حرب القرم، في الوقت نفسه، فإن انخراط الصين في غرب آسيا -القائم أساسا على مصالح اقتصادية- أكثر اضطرابا.
على أي حال، ما من شك في أن الروس والصينيين استفادوا من المشكلات التي ألحقها الإسرائيليون بالأمريكيين في المدى القصير وأنهم سوف يواصلون استغلالها ما أمكنهم هذا.