مذكرات المفكر الفرنسي جان جينيه عن المقاومة الفلسطينية
«أحسست أنني لأول مرة في حياتي أصير فلسطينيا وأكره إسرائيل» كَتَبَ المفكر والشاعر الفرنسي جان جينيه في مقاله: «أربع ساعات في شاتيلا» الذي نشرته مجلة الدراسات الفلسطينية باللغة الفرنسية ثم ترجمه الكاتب المغربي محمد برادة إلى اللغة العربية ونُشِرَ في مجلة الكرمل سنة 1983م، ثم أُعِيدَ نشره مرة أخرى بواسطة منشورات مكتبة الأعمدة سنة 2016م، ولعل عبارة جان جينيه هذه التي تعبر عن شعوره بالانتماء للهوية الفلسطينية وبغضه الرافض جملة وتفصيلا لكيان الاحتلال تمثل هاجس الكثيرين من الكتاب والمؤثرين والمتابعين اليوم في مختلف دول العالم الذين صُعِقُوا من جرائم الإبادة والتطهير العرقي والفصل العنصري التي يرتكبها كيان الاحتلال في غزة وأصابتهم الدهشة والذهول من صبر الفلسطينيين وثباتهم.
لم يكتب جان جينيه من محض خياله بل من شهادة واقعية تمثل وثيقة تاريخية نادرة وشاهدة على جرائم الاحتلال الإسرائيلي، لقد وقف هناك على الأرض كشاهد على مجزرة مخيم صبرا وشاتيلا مباشرة بعد حدوثها بتاريخ 16 سبتمبر 1982م، التي امتدت لثلاثة أيام متواصلة، اختلط جينيه مع حركات المقاومة الفلسطينية وعايش يومياتهم وهمومهم وتغنى بالمقاومة الفلسطينية وأخلاقياتها وأدبياتها وشاهد جيش الاحتلال الإسرائيلي يدخل بيروت ويغدر بالاتفاق المبرم مع المقاومين وهي العادة الصهيونية التي كانت ولا تزال وستستمر ما بقي الاحتلال يفرض سطوته ووحشيته ويمارس توسعه الاستيطاني وانتهاكاته الإنسانية.
«أربع ساعات في شاتيلا» أمضاها جان جينيه بصحبة المفكرة الفلسطينية ليلى شهيد في سبتمبر 1982م، تفقد من خلالها جثث الموتى المتناثرة على الممرات والأرصفة أو العالقة في البيوت العتيقة بوحشية بالغة، حدثت هذه المجزرة برعاية وتحريض إسرائيلي صهيوني كما وثقت شهادة جان جينيه بصحبة المفكرة الفلسطينية ليلى شهيد ملابسات تلك الأحداث المأساوية، في حوار أجراه الصحفي الفرنسي جيروم هانكنس ونشرته مجلة الدراسات الفلسطينية سنة 2017م تقول ليلى شهيد: «اكتشفنا حجم المجزرة ومداها وأدركنا أنها دامت ثلاثة أيام تحت مراقبة الجيش الإسرائيلي الذي كان يطلق قنابل مضيئة طوال الليل، كانت الأسلحة المستعملة في أغلب الأوقات تتشكل من الخناجر والسواطير ولهذا لم يلحظ أحد أي شيء»، ولعلنا نتساءل إن كان أحد سيلحظ أي شيء من هذه المجزرة في المخيم الفلسطيني لو لم يكتب جان جينيه مقاله «أربع ساعات في شاتيلا» فالسياق الزمني لهذه المأساة كان بعيدا عن وسائل الإعلام وحضور العدسات ولربما كانت السرديات الصهيونية ستنجح في إخفاء الكثير من الحقائق التي رافقت أحداث هذه المجزرة أو ستغلفها بأكاذيب إعلامية واهية.
يلخص جان جينيه في مذكراته - التي حملت عنوان «أسير عاشق» والصادرة سنة 1997م عن دار شرقيات بترجمة كاظم جهاد - مأساة الفلسطيني في أرضه المحتلة وفي شتاته عن وطنه بحكايات كثيرة اندمج فيها مع حياة المقاومين الفلسطينيين فدخل بيوتهم وتنسم رائحة حاراتهم وتعايش مع حياتهم الخاصة، ولعل ما لفتني في هذه المذكرات تصويره للروح الفلسطينية في إصرارها على المقاومة حتى لو كان إدراك الموت أو الشهادة حتميًا ومصيرًا لا مفر منه في أدبيات المقاومة الفلسطينية، يقول «ما كانت النساء في أثناء الكلام عازفات عن كل عمل، كانت كل واحدة تنشغل بواحد أو اثنين من صغارها.. حتى يكبر الطفل يصبح بطلًا ويموت في العشرين لا على الأرض المقدسة وإنما من أجلها، هذا ما قلنه لي».
لقد أصر جينيه على كتابة كلمة الفدائيين «fedayeen» باللغة العربية - الكلمة الشائعة في ذلك الوقت والتي حلت محلها كلمة «المقاومين» في أيامنا هذه - في مقاله المكتوب باللغة الفرنسية، تمامًا كإصراره على زيارة بيروت إبان الحرب الإسرائيلية الوحشية عليها، ولعل ذلك إيمانا منه بجمالية المقاومة وهو الشاعر الذي احتفى في نصوصه بالهالة المضيئة التي تحيط بالمقاوم عن أرضه وحريته أينما حل، يقول في مقاله أربع ساعات في شاتيلا: «الحب والموت، هاتان الكلمتان سرعان ما تُقْرَنُ الواحدة منهما بالأخرى كلما كُتِبَتْ إحداهما، كان عليَّ أن أذهب إلى شاتيلا لأدرك فحش الحب وفحش الموت، في الحالتين ليس لدى الجسد شيء أكثر ليخبئه، الأوضاع، التعرجات، الإيماءات، العلامات، حتى الصمت، يخص هذا العالم وذاك».
في كتاب «جان جينيه والفلسطينيون» الصادر سنة 2020م عن دار ضمة للنشر والتوزيع في القاهرة، نشر الروائي التونسي حسونة المصباحي عدة مقالات ورسائل لجان جينيه وهي تعمق من فهمنا لهذا الكاتب الذي كرس أعماله الكتابية في الحياة مع المناضلين والمظلومين والتأريخ لهم في كتابة شعرية يائسة أحيانًا ونابضة بالحياة في أحيان أخرى، أعجب جينيه بجماليات المقاومة وكأنها لوحة فنية سحرته في حياته وكتاباته ويمكن أن نقتبس من هذا الكتاب قوله: «الفدائيون كانت لهم وسامة نضرة بسيطة مهداة إلى الفطنة، وتحركاتهم بسيطة ونابهة وممهدة للفعل.. أما اللغة فهي مختزلة عاكسة لرغبة في عدم مواصلة تقليد قديم، وطامحة إلى دفن صورة يرغب كثيرون بأن تظل قائمة».
تتكرر التغريبة الفلسطينية ما دام الاحتلال جاثما بآلته الثقيلة والمميتة على أرض فلسطين، فالموت حتمي والنضال مصير أبدي نحو التحرر من الاحتلال، آمَنَ جينيه بالشعب الفلسطيني وأحب مقاوميهم وتنسم هواء الحرية في تلك البقاع المحتلة، وعَلِمَ أن الطريق طويلة للشعوب التي ترغب في الخلاص من الانتهاكات التي يمارسها عليها المستعمر المتوحش، ولذلك اِخْتَتَمَ مقاله «أربع ساعات في شاتيلا» بعبارة لا نملك إلا أن نختتم بها هنا هذا المقال فهي تمثل السردية الفلسطينية التي تفرض حكايتها اليوم على العالم، «في مطار دمشق في طريق عودتي من بيروت التقيت ببعض الفدائيين الشباب الذين فروا من الجحيم الإسرائيلي، كانوا في السادسة عشرة أو السابعة عشرة، كانوا يضحكون، مثل أولئك الذين كانوا في عجلون [بالأردن]، هم أيضا سوف يموتون مثلهم، النضال من أجل الوطن يمكن أن يملأ حياة ثرية ولكنها قصيرة، هذا هو الخيار الذي اختاره أخيل في ملحمة الإلياذة».
عزان المعولي كاتب عماني