ما الذي وصلت إليه فلسطين بعد 30 سنة من أوسلو ؟
في هذا الشهر من العام أعاد العرب كل أخطائهم التاريخية في التفاوض التي وقعوا فيها في العصر الحديث من أول اتفاقية لندن لمحمد علي ١٨٤٠ والتي حطمت جزئيا أول مشروع متكامل للنهضة العربية أو أخطاء وفد الثورة العربية الكبرى في مفاوضات مؤتمر الصلح في باريس ١٩١٩ وما سبقه من كارثتي سايكس - بيكو ووعد بلفور.
ففي شهر سبتمبر وقع العرب على اتفاقيتين -بينهما ١٥ سنة- أعادا تشكيل خريطة الشرق الأوسط وقلبا العالم العربي رأسا على عقب كما لم يحدث منذ سقوط الخلافة العباسية منذ قرن من الزمن تقريبا.
هاتان الاتفاقيتان هما اتفاقية كامب ديفيد في ١٧ سبتمبر ١٩٧٨.. واتفاقية أوسلو ١٣ سبتمبر ١٩٩٣.
بعد ٤٥ عاما على كامب ديفيد.. من حق الأجيال العربية الجديدة أن تعرف ما الذي صارت إليه أحوال أمتهم نتيجة لهذه الاتفاقية وبعد ٣٠ سنة من أوسلو.. من حق الأجيال الفلسطينية الجديدة أن تعرف ما الذي صارت إليه قضيتهم من ضعف ومن قوة.
في هذا المقال نركز على نتائج أوسلو وعلى ما وصف بسذاجة من البعض آنذاك وبتآمر من البعض الآخر إما بأنه «غصن الزيتون العربي» وأنه «سلام الشجعان» تارة أو بالزعم أنه يرسم الطريق المضمون لحل وسط تاريخي «حل الدولتين» الذي يقسم الأرض «قسمة ضيزى» بين الإسرائيليين والفلسطينيين فتنشأ دولة فلسطينية على ٢٢٪ من مساحة فلسطين التاريخية بجانب الدولة الإسرائيلية التي أقيمت بعد نكبة ٤٨.
ومثلها في ذلك مثل كامب ديفيد مثلت أوسلو أيضا النموذج الصارخ في كيف ينتهي بك الأمر للتوقيع على اتفاقية سيئة رغم أن «الطرف العربي» كلا على حدة في ساحته الوطنية كان قد حقق قبلها تعديلا معقولا في ميزان القوى بالمعنى الاستراتيجي فعلى الجبهة المصرية كان العرب قد حققوا في الأيام الثمانية الأولى من حرب أكتوبر ١٩٧٣ أعظم أداء عسكري عربي في الحروب العربية الإسرائيلية، وعلى الجبهة الفلسطينية كانت انتفاضة الحجارة الأولى في ١٩٨٧ التي استمرت ٤ سنوات كاملة قبل أوسلو مباشرة، وأبهرت العالم وقتها بأسلوب نضال فلسطيني جديد يعتمد على العصيان المدني والمقاومة الشعبية بنسبة ٩٠٪ وليس على العمل المسلح، وشمل جميع الأراضي المحتلة لكن المفاوض العربي الرئيسي في كليهما أخفق في ترجمة التحول النسبي في موازين القوى لصالحه.
وبعد مرور ٣ عقود على أوسلو ربما صارت أسهل مهمة للتحليل السياسي هي بلورة ورصد كوارثها على القضية والأراضي والوحدة الوطنية الفلسطينية. ليس فقط لأنها ماثلة بحقائقها المخيفة علي الأرض بل أنها بشهادة الإسرائيليين -والصدق ما شهد به الأعداء- أن نتائج أوسلو كتبت شهادة الوفاة لأي أمل لقيام دولة فلسطينية وأن وعد الدولتين الذي ورد فيها وكان يفترض أن يتم عام ١٩٩٩ قد بات حلما بعيدا من الماضي.
يستفيد ويتفق أسلوب التفاوض الإسرائيلي الذي وجهه الغرب مع عرفات في أوسلو تماما مع أسلوب التفاوض الغربي المتمرس الذي يظهر شيئا، ويضمر شيئا آخر تماما والذي كشفت أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية السابقة في ديسمبر ٢٠٢٢ عن نموذج حديث له. إذ اعترفت أن رعاية فرنسا وألمانيا لاتفاقيتي مينسك للسلام بين روسيا وأوكرانيا في ٢٠١٤ و ٢٠١٥ لم تكن تهدف إطلاقا لإرساء السلام وإنما لمنح كييف الوقت الكافي لتعزيز قدراتها العسكرية ودحر الروس، وأن أوكرانيا ومعها حلف الناتو، استغلت هذه الفرصة وأنها باتت اليوم أقوى بكثير من وقت توقيع الاتفاقيتين.
ففي أوسلو تكشف أوراق ووثائق رسمية إسرائيلية أن المعتدل إسحاق رابين -الذي كان قد تعهد قبل المفاوضات مباشرة بكسر كل أرجل وأيادي الشعب الفلسطيني إذا استلزم الأمر لدحر الانتفاضة- أنه أبلغ مجلس وزرائه إنه لا نية لديه مطلقا للانسحاب من يهودا والسامرة «الضفة الغربية» ولا نية لديه مطلقا لإزالة أي مستوطنة إسرائيلية في الضفة. وكشفت الأوراق وهم الأسطورة الأمريكية - الاسرائيلية منذ نحو عقدين ونصف أن مسيرة أوسلو انتكست بسبب قيام اليمين المتطرف بقتل رجل السلام إسحاق رابين وهو الوهم الذي ما زال يردده بعض الكتاب والباحثين العرب حتى الآن. فالرجل كان واضحا مع أعضاء حكومته أن كل ما أعلنته وانجزته الانتفاضة الأولى من أهداف متفق عليها من كل مكونات الشعب الفلسطيني كثوابت لا يمكن التنازل عنها سيتم إلزام المفاوض الفلسطيني بالتخلي عنها وهكذا ماحدث بالفعل في مقابل اعتراف باهت بمنظمة التحرير الفلسطينية تخلى المفاوض الفلسطيني عن إزالة المستوطنات وحق العودة واتفاق قاطع على إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية تاركة كل ذلك إلى ما يسمى مفاوضات الوضع النهائي.
كانت النتيجة استخدام الإسرائيليين الاتفاقية لقضم أقل قليلا من ٥٠ ٪ من مساحة الضفة الغربية زرعت مكانهم ١٢١ مستوطنة ومايقرب من ١٠٠ بؤرة استيطانية. أي أن حل الدولتين سقط عمليا مع سيطرة الاحتلال على نحو ٨٧ - ٨٨٪ الآن من مساحة فلسطين وتعهد سابق من رابين أن المنطقة «ج» الواقعة تحت السيطرة الكاملة لإسرائيل بمقتضى أوسلو والتي تضم ٦٠ ٪ من أراضي الضفة لن تعود بأي شكل من الأشكال للفلسطينيين.. الحديث هنا عمليا عن أن الإسرائيليين لن يتنازلوا نهائيا عن استيلائهم على ٩٠ ٪ من فلسطين التاريخية.
الأخطر هو ما تنبىء به الذكرى الثلاثون لأوسلو من أن قوانينها الإسرائيلية - الأمريكية مازالت فاعلة وبقوة فالانقسام الفلسطيني وكل طرف منهما بعيد عن الاحتكاك اليومي بالآخر قد يصبح شيئا يتحسر العرب والفلسطينيون عليه إذا وقع الطرفان في فخ منصوب كشفت عنه أيضا المصادر الإسرائيلية. فحسب هذه المصادر أقنعت الإدارة الأمريكية حكومة نتانياهو مؤخرا بالسماح لمعدات عسكرية متقدمة وفرتها الإدارة للسلطة الفلسطينية بالانتقال من الأردن وذلك لتقوية قدرة السلطة على «ضرب المقاومة الفلسطينية المتزايدة بالضفة الغربية في جنين وطولكرم ونابلس التي تغذيها بشكل أساسي حركة الجهاد الفلسطيني» بعد أن أخفق جيش وشرطة الاحتلال في وضع حد لها وباتت الضفة بسببها في تقدير مؤسسة الأمن القومي الإسرائيلي لا تقل خطورة من قطاع غزة. بعبارة أخرى فإن اتفاقية أوسلو التي داست إسرائيل على كل بنودها السياسية مازالت ترتيباتها الأمنية فقط هي التي تعمل فتدفع وتضع الفلسطينيين فعليا -إذا لم ينتبهوا- على شفا حرب أهلية فلسطينية لن تقتصر على حماس وفتح هذه المرة بل ستشمل ربما جميع الفصائل.
ولا يقتصر حصاد أوسلو على الخسائر في الأرض وفي تفكك النسيج الوطني ولكن أيضا في تهميش الفلسطينيين وبلسان العدو الإسرائيلي يتم التباهي الآن بأن القضية الفلسطينية لم تعد لها أي أولوية في العالم العربي وأن التطبيع مع الدول العربية يسير على قدم وساق ولا يشترط فيه من قام بالتطبيع حلا مسبقا وعادلا للقضية الفلسطينية ويدللون على ذلك بالتطبيع الرسمي الذي تم من ٣ دول عربية ضمن الاتفاقات الابراهيمية والتطبيع الفعلي مع ٣ بلدان أخرى. بل يتباهون بأن الدول الإسلامية مثل: إندونيسيا والنيجر.. إلخ باتوا ركابا محتملين في قطار التطبيع السريع.
على أن التطرف الاستيطاني وإجرام المستوطنين وانكشاف الوجه العنصري لسياسات الأبارتهايد الإسرائيلية في العقود الأخيرة ولد مكاسب فلسطينية منها ولادة جيل لا يعترف بالفصائلية ولا يقتات على وعود وأوهام أوسلو وإنما يستخدم أساليب المقاومة سواء المدنية أو العسكرية ونجح في خلق مفهوم جديد لوحدة الساحات الفلسطينية لا يتجاوز الانقسام بين غزة والضفة فحسب بل يتجاوز الانقسام بين أراضي الخط الأخضر ما قبل 1967 والأراضي المحتلة بعد 1967 ويوحد وجدان الشعب الفلسطيني من البحر المتوسط لنهر الأردن.
حسين عبد الغني إعلامي وكاتب مصري