لو لم تكن المقاومة موجودة كان على النظام العربي الرسمي اختراعها
ربما حان الوقت لكي يستعير العرب بعض شعارات أعدائهم ويقلبونها لصالحهم كما فعل هؤلاء الأعداء طول الوقت. ولا أظن أن هناك شعارا يستحق أن يستعيره العرب في هذه اللحظة أكثر من الشعار الذي رفعه الرئيس الأمريكي جو بايدن (لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا اختراعها أو إيجادها) مرارا وتكرارا وكأنه جملة لحنية جميلة من ألحان موتسارت، كان آخرها أثناء زيارته لإسرائيل الأسبوع الماضي. فهذا الشعار الخطير يلائم العرب أكثر بحكم ما انكشف من الحقائق الكارثية المخفية التي كشفتها ودفعتها إلى السطح عملية طوفان الأقصى.
إن الشعار الذي يجب على النظام الرسمي العربي وحكوماته أن يتبنوه الآن هو (لو لم تكن المقاومة الفلسطينية موجودة لكان على الحكومات العربية اختراعها). وسأذكر هنا مجموعة محدودة من الأسباب وليس كلها والتي تقول إن من مصلحة العالم العربي ودوله بعد ما وصلوا إليه من ضعف أن «يستقتلوا» للحفاظ على هذه المقاومة ومنع إسرائيل والولايات المتحدة من تحقيق الهدف المعلن من حرب إبادة غزة وهو استئصال هذه المقاومة واجتثاثها من الجذور. بعد طول إهمال واستهتار بأهل المنطقة ودفعهم لهامش الأحداث وتراجع أدوار الكثير من البلدان العربية انهمر كسيل الزبى على القاهرة والرياض وبيروت وعمّان وغيرها من العواصم العربية عشرات المسؤولين الغربيين ومعهم عبارات كانوا قد توقفوا عن ذكرها منذ سنين وهي «أن دور هذه العاصمة العربية أو تلك هو دور حيوي لا غنى عنه وإننا الغرب لا نستطيع أن نفعل شيئا لكبح التصعيد ومنع امتداد الحرب إقليميا أو تبادل الأسرى بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلا من خلال موافقة هذه العواصم والتنسيق المسبق معها». فحتى الدول التي فرطت في أدوارها التقليدية وتركتها لأمريكا أو إسرائيل أو حتى لإيران وأنقرة وجدت نفسها محط الاهتمام بعد طول إهمال.
ألا«يشفِ صدور قوم مؤمنين» من العرب أن يعرفوا ما أفصح عنه «زلزال» انتصار الأقصى من تزايد قيمة منطقتهم الاستراتيجية بعد طول إنكار غربي وصل إلى حد الاستخفاف والاحتقار. فقط علينا أن ننظر كيف اعتبر رئيس أكبر دولة في العالم هجوم بضع مئات من الفدائيين على إسرائيل في السابع من أكتوبر الجاري تهديدا وجوديا للأمن القومي الأمريكي! وكيف دفع بأعظم ما في ترسانته لا لمحاربة روسيا في أوكرانيا ولا الصين في تايوان وحتى ليس لمحاربة دولة كالعراق ولكن لمحاربة بضع آلاف من أبطال المقاومة بأسلحة بدائية؟
انظر لما أعطته المقاومة إلى المنطقة ودولها من رصيد في القيمة كان قد تدهور وأوشك على النفاد لدرجة أن أمريكا والدول الغربية بمساعدة إسرائيل قامت بين ٢٠٠٣ وحتى الآن بتدمير ٤ بلدان هي: العراق وسوريا وليبيا واليمن والتسبب في ملايين القتلى وملايين اللاجئين دون أن يرمش لهم جفن أو يعتدوا بقومية اسمها العرب. إذ يكتب وزير دفاع أمريكي سابق أن هجوم الأقصى هو أصعب أزمة تمر بها أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية». نعم افرك عينيك جيدا أيها القارئ العزيز.. أمريكا وليس فقط إسرائيل. وتعترف مصادر رسمية أمريكية أن ما فعلته المقاومة الفلسطينية وما قد تتطور عنه الأزمة جعلت بايدن يمر بأصعب أسبوع في فترة حكمه التي تزيد على ألف يوم. لا حظ أن ما أقض مضجع ساكن البيت الأبيض هو المقاومة والشرق الأوسط وليس الحرب في أوكرانيا امتداد الناتو في أوروبا التي تمكنه من ممارسة تهديد مباشر لحدود العدو القديم -الجديد في روسيا.
ينقل موقع «اكسيوس» الأمريكي عن عدة مسؤولين أمريكيين أن أكثر ما يقلق الرئيس ومؤسسة الأمن القومي الأمريكية العتيدة هو غضب الشارع العربي - نعم أنت لا تصدق لكنها الحقيقة - واشنطن تخشى من أن يتسبب دعمها المطلق لإسرائيل في عمليات الإبادة إلى انفجار المظاهرات المعادية لأمريكا (كانت مظاهرات الجمعة الماضية من المحيط إلى الخليج دليلا على صدق التوقع) وما قد يقود إليها من تعريض الأشخاص والمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط بل والعالم الإسلامي إلى هجمات خطيرة قد تزيد من الانقسام الداخلي في المجتمع الأمريكي.
أمريكا ترى أنه لولا هجوم المقاومة الفلسطينية في ٧ أكتوبر ما حصل أعداؤها الدوليون في محور الصين وروسيا على هذه المكاسب الاستراتيجية أقلها هو صرف انتباه الناتو والعالم كله عن أوكرانيا قبل فترة وجيزة من هجوم الشتاء الكبير الذي يقوم به الروس. وترقب واشنطن بقلق في هذا الصدد خطوة لم تحدث في أزمة دولية أن يتفق الرئيسان الحليفان شي بينج وبوتين على اللقاء على مستوى القمة في خضم أيام قليلة من أزمة دولية لتنسيق مواقفهما ضد المحور الأمريكي.
كشف هجوم طوفان الأقصى العظيم عما كان يحاك للمنطقة من جريمة كبرى ألا وهو التخطيط لعملية تطبيع مع دول عربية وإسلامية كبرى تصفي فيها تماما القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة. باعتراف الأطراف المختلفة التي كانت داخلة في التفاوض أن عملية طوفان الأقصى أوقفت أو جمدت هذه العملية التي كان كل هدفها «هو تحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين ولم تكن تهدف أبدا لحل سياسي لقضيتهم بل كانت تدور حول اتفاقيات ثنائية تتضمن اعترافا بإسرائيل مقابل ضمانات أمنية وتسليحية أمريكية للدول المتفاوضة».
كشف طوفان الأقصى عن زيف عملية السلام العربية - الإسرائيلية القائمة منذ ١٩٧٤. فلقد تبين من خلال الجنون العسكري الإسرائيلي في غزة والتصميم على ترحيل الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء المصرية أن الهدف من معاهدات السلام لم يكن كما اعتقد الزعماء العرب الطيبون!! وهو الاقتصار على إخراج مصر والأردن من الصراع العسكري وإقامة علاقات سلام ثنائي بينهما وبين إسرائيل. وإنما هو التخطيط لنكبة فلسطينية ثانية يحل بها الأمريكيون والإسرائيليون ما تبقى من المشكلة الفلسطينية على حساب كل من مصر والأردن بترحيل حالي لفلسطينيي غزة إلى مصر وترحيل لاحق لفلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن. لم يكن يصل خيال أنور السادات والملك حسين أن السلام الذي وقعوا عليه لم يكن في التفكير الاستراتيجي الأمريكي والإسرائيلي سوى مرحلة مؤقتة. وأن مرحلة أخرى ستليها سيضرب الإسرائيليون فيها عرض الحائط بما سمي بعملية السلام ويقومون عمليا بإعادة خطر الحرب على الجبهة المصرية مرة أخرى.
لولا المقاومة ما عاد الحجيج الدبلوماسي لخطب ود حكومات تم إهمالها طويلا ولا عرفنا أن ساكن البيت الأبيض قد يعجز عن النوم وتنتابه الكوابيس بسبب مظاهرات الشارع العربي وعملية مسلحة لفصيل مقاوم. وما كنا عرفنا ما يحاك للمنطقة من مصير أسود نرى فيه رأي العين أن أمريكا وإسرائيل استعملتا عملية السلام وما تلاها من تطبيع إبراهيمي مجاني كجسر متحرك مؤقت لتصفية القضية الفلسطينية وحلها على حساب دول ذات سيادة مثل مصر والأردن. أليست هذه أسبابا براغماتية بحتة كافية للحكومات العربية لاختراع المقاومة إن لم تكن موجودة؟!
حسين عبد الغني إعلامي وكاتب مصري