عن صعود «محورية الفرد» وهبوطها

17 يونيو 2023
17 يونيو 2023

يتساءل الفرد أمام حالة الاستقطاب الأخلاقي الراهنة في عالمنا عن أي قيم تُراد لهذا العالم؟ وما مدى قدرة المجتمعات في (ذاتها) للتصدي لحالة الاستقطاب الراهنة. خصوصا إذا ما تحدثنا عن أن القضية الأخلاقية قضية أصبحت (سائلة)، وهي أيضا قضية اشتباكية في مداخلها وفي أدوات الاستقطاب التي تستخدم لتمريرها، فما لا يُكسب من (استقطاب أخلاقي) بفضل الشعارات ووسائل الإعلام والمحتوى الاتصالي، قد يُكسب من خلال (أدوات - ضغوط - تعهدات - التزامات - أزمات) اقتصادية أو سياسية أو مؤسساتية. ومن هنا فإن أكبر التحولات التي ولدتها موجة العولمة المعاصرة إنها قوضت من قدرة/ فعل بعض المجتمعات في الانتصار لقيم محلية (خالصة) بالمُطلق. غير أن أبرز ملامح هذا الاستقطاب وممهداته هو صعود (التمحور حول الفرد) الذي تعزز تحديدا خلال العقدين الفائتين. وهنا أتحاشى استخدام مصطلح (الفردية)؛ لكوني أميل إلى وجهة النظر التي يتبناها عالم الاجتماع على وصفة، الذي يؤكد على ضرورة فصل المفهوم على لبوسه وحمولته السلبية المطلقة ويفرق بشكل مُقنع بين (الفردية) و(الذاتية). حيث يرى أن الفردية هي أن «يأخذ الإنسان موقفا معينا من قضية ما أو مجموعة قضايا وأن يكون الفرد بالضرورة واعيًا بأبعاد موقفه». فيما يرى أن (الذاتية) هي «اللحظة التي يرى فيها الفرد أنه محور الوجود أو مركز الكون في مسار حياته الاجتماعية، وأن يفهم الأشياء من خلال مصلحته الذاتية».

في الحالة الراهنة لصعود محور (التفضيلات - الخيارات - المصالح - القناعات - الاعتقادات - المنافع) الفردية في مقابل (الجمعية)؛ يكون سؤال (المرجعيات) أساسا مهما لمعرفة المسار الذي يقود إليه هذا الصعود في أي مجتمع للحفاظ على حالة (التماسك الاجتماعي) وللإبقاء على حالة (التضامن المجتمعي). ذلك أن أي حالة استقطاب - أيما كان وجه هذا الاستقطاب - إنما تدل على ضعف المرجعيات وعدم وضوحها وتماسكها. ولكن هل يتجه العالم إلى تزايد في مستويات (الفردية) فعلًا؟ في 2017 نشر هنري سانتوس وفريقه البحثي دراسة بعنوان: «Global Increases in Individualism». قاموا من خلالها بدراسة عدد من البلدان المتقدمة اقتصاديا عبر فحص أمد زمني يمتد لـ 51 عاما من البيانات حول الممارسات والقيم الفردية في 78 دولة. حيث كشفت النتائج أن النزعة الفردية آخذة في الارتفاع بالفعل في معظم المجتمعات. وعلى الرغم من أن بعض الدراسات التي بدأت تنشر مؤخرًا تؤكد على علاقة طردية بين مستويات (الفردانية) وبعض جوانب (النمو الاقتصادي). إلا أن مخاطر هذا الاتجاه الواسع نحو (التمحور حول الفرد) إنما تتمثل في عدة أبعاد منها: تآكل القيمة الاجتماعية الجامعة، وإمكانية ظهور حالة (فقدان المعايير)، عوضًا عن ظهور نزعات تضارب المصالح وتكييفها بأدوات وأساليب جديدة، وإمكانية أن تكون سلطة (التفضيلات الذاتية) مسوغا لارتباك أخلاقي عام، يضعف القاعدة الأخلاقية والقيمية للمجتمع. في كتابه «التربية والمجتمع» يقول دوركايم: إن وظيفة التربية هي تشكيل الكائن الاجتماعي الذي يوازي بين الكائن الفردي وبين ما يتطلبه نظام الجماعة من (أفكار ومشاعر وعادات) تكون محمولة في صيغة عقائد دينية وأخلاقية وتقاليد قومية ومهنية وآراء جمعية مشتركة. وفي تقديرنا فإننا عندما نتحدث عن النظام التربوي، فنحن لا نتحدث عن مرحلة عمرية معينة، أو سياق التنشئة في المراحل المبكرة، وإنما نتحدث عن عملية متواصلة تلعب فيها المؤسسات الاجتماعية أدوارا مختلفة إزاء الفاعلين الاجتماعيين لضمان إيجاد حالة عامة من التوافق بين (الفردية) وبين (الجمعية) بما يحفظ استقرار النسيج العام للمجتمع.

لا يمكن اليوم القفز على الدعوات لتعزيز اتجاهات صادمة للنظام الأخلاقي العام وشرعنة تلك الاتجاهات، وليس مستبعدا تسلل تلك الاتجاهات كأوراق ضغط سياسية واقتصادية، تتحول بموجبها الأجندة والمآرب إلى (أدوات هيمنة عالمية). ونحن نعتقد أن سبيل المواجهة لا يقتصر فقط على الجانب الإعلامي. وإنما يمتد لثلاثة عناصر أساسية وهي:

-الكيفية التي نخلق بها حالة الاكتفاء العام ونقلص فيها الاعتمادية التي تعرض مجتمعاتنا ودولنا للضغوطات.

-الطريقة التي نبني فيها نظاما تربويا محدد القيم والمرجعيات يعزز قيمة (الأسرة)، ويمحور السياسات الاجتماعية باتجاه مركزية (الأسرة).

-الآلية التي نبني من خلالها محتوى اتصالي/ ثقافي مُقنع في الداخل، مؤكد على القيم العامة، ومؤثر في خارج السياق (مضاد) لما تحمله الحالة المعاصرة من تيارات وضخ إعلامي واتصالي.

وفي الحالة المحلية نعتقد بأن الدفع والتركيز بما أوردته أولوية «المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية» في «رؤية عُمان 2040» من أهداف استراتيجية وبرامج أصبح اليوم ضرورة حاسمة. ليس فقط على مستوى تحقيق المستهدفات من مؤشرات، وإنما بالتنقيب في الحالة الاجتماعية العامة والحالة القيمية، نعتقد كذلك بضرورة تطوير مسح القيم العامة ليكون إطارا مرجعيا لتتبع حالة التغير القيمي في المجتمع في أوجه القيم المتعددة، يمكن أن يتكون من محور (القيم الفردية - القيم الاجتماعية - القيم المهنية - قيم الجدارة والإنجاز) كمحاور مبدئية لتكشف الوضع العام القائم، ليتطور لاحقًا لقياس المواقف والتعبير عن الاتجاهات في محاور أخرى، سيسهم ذلك في تقديرنا في فهم جزء من التغيرات الطارئة على نسق اتجاهات المجتمع، وبالتالي استدراك مصادر تلك التغيرات، وإيجاد المقاربات المثلى للتعامل معها، أو التكيف معها. ويبقى عنصرا مهما في استدامة القيم الجامعة هو الطريقة التي يشترك فيها أفراد المجتمع في مشروعات (الصالح العام). وقد تكون هذه المشروعات (خيرية تضامنية). أو مشروعات تقودها مؤسسات المجتمع المدني، ذلك أنه يثبت من خلال مجمل الدراسات أن انخراط الأفراد في مشروعات الصالح العام من شأنه أن يؤكد على المعنى والقيمة الاجتماعية ويجعل الأفراد أكثر اتصالا بها وتمسكا بها. ترتبط هذه المقاربة بالكثير من الأفكار التي أوردناها سابقا في هذه المساحة حول ضرورة تفعيل ما يعرف بـ «اقتصاديات التضامن» والنظر إلى مؤسسات المجتمع المدني عبر مقاربة جديدة تتسق واحتياجات المرحلة. يقول عالم الاجتماع كلير أندريه في مقالة «المجتمع الصالح» أنه «ندما ينخرط المواطنون في التفكير في الكل، فإنهم يجدون أن مفاهيمهم لمصالحهم تتسع، ويتعمق التزامهم بالبحث عن الصالح العام».

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان