«طوفان الأقصى» والتواطؤ العربي .. رد الاعتبار للثورة الأم
لم تكن الذكرى الـ٧٢ لثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، مجرد تكرار لروتينها الذي لا يكاد يتغير منذ عام ١٩٧٤وهو العام الذي شهد بدء الحملة الممنهجة لقوى وحلفاء المركز الرأسمالي التي تحدت هذه الثورة نفوذها وهددت مصالحها.
اشتدّت تلك الحملة ضراوة مع تباعد أجيال عربية جديدة عن تجربة يوليو وقائدها جمال عبدالناصر الذي غيّبه الموت في ١٩٧٠، ومع التطور المذهل في وسائل التواصل الاجتماعي ذات الإيجابيات الهائلة ولكن التي تعاظمت فيها عملية تشويه المعلومات والأشخاص إلي درجة غير مسبوقة في التاريخ.
هذه المناسبة تتحول لمولد يختلط فيه، الحابل بالنابل، والحقائق بالأكاذيب، وأوجه النقد المستحقة بأوجه الهجوم المغرض، وتحشد فيه كل القوى المعادية لمشروع ٢٣ يوليو كل أسلحتها ورجالها، لكن هذا العام ورغم استمرار إقامة المولد حدثت تغيرات نوعية كثيرة في المشهد الممجوج تجعله وبحق مختلفا نوعيا عن السنوات السابقة.
هذه المرة مثلًا كانت حفلة الهجوم الضاري تتحرك بحذر أكبر وبضراوة أقل بكثير من الأعوام السابقة وكانت حملة الدفاع والنقد الموضوعي أكبر بكثير من الأعوام الماضية، كما انضمت تيارات سياسية لدعم المشروع وقائده كانت إما تتجنب المخاطرة بإعلان تقديرها للتجربة وإما تنجرف في تيار الهجوم على جوانب فيها.
الأهم هو انضمام أجيال جديدة لم تعرف عبدالناصر ولا زمنه من جهة، وشخصيات مؤثرة على «السوشيال ميديا» لقولة حق كانت تميل لإخفائها في مواجهة الموجة العالية السنوية التي تحظى بدعم أصحاب النفوذ المالي الدولي والإقليمي وتيارات وطبقات محلية وإقليمية أضر مشروع يوليو بمصالحها ونفوذها.
على سبيل المثال لا الحصر كتب مؤثرون على «فيس بوك» و«تويتر» في ٢٣ يوليو ٢٠٢٤ كتابات صريحة ترى أن المشروع كمشروع فكري وسياسي وحتى التجربة رغم أخطائها كانت محصلتهما إيجابية، فوصف القاص الكبير الدكتور أحمد الخميسي ثورة يوليو بأنها «بهجة التاريخ»، وكتب آخرون أنها رغم النكسات والهزائم فإنها ظلت المرحلة الأهم في التاريخ العربي العام الحديث من حيث شعور الأمة العربية بكرامتها وعزتها وحرية قرارها، وهي الفترة التي كانت فيها الجماهير العربية قادرة على تشكيل ضغط وأثر على مسار الأحداث.
وفي يوليو هذا العام تحرر سياسيون ينتمون لليسار العربي الكلاسيكي الذي شارك وضحى في نضالات مرحلة الاستقلال ومواجهة الردة والتسوية السياسية مع إسرائيل بعد «كامب ديفيد» تحرروا مما يسمى ابتزاز مجموعات «اليسار الجديد».
كتب رموز منهم «ستبقى ثورة يوليو هي النقطة الوحيدة المضيئة منذ زمن الاستعمار.. فهي ثورة الحرية والاستقلال الوطني.. وهي ثورة البناء والتصنيع والتقدم.. وهي ثورة العدالة الاجتماعية.. وسيبقى عبدالناصر أهم زعيم وطني أنجبته مصر والذي لا يدانيه في مكانته أحد، في تاريخنا الحديث».
حديث الأجيال الجديدة كان الأهم إذ ركزوا على أن ما وصلوا إليه من نجاح أكاديمي أو مهني ورغم مرور خمسة عقود ونصف العقد على وفاته إنما يرجع في جزء منه للحراك الاجتماعي غير المسبوق الذي أوجدته مظلة التعليم المجاني «شخصيا وأسريا أدين لتجربة عبدالناصر من انتقال طبقي إلى الطبقة الوسطى ثم إلى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى عبر سلم التعليم، فلولا منجزه وفضله لكنا نعاني الفقر والتهميش».
السؤال هو لماذا اختلف المشهد هذا العام؟
اللافت للنظر أن الأسباب التي جعلت ذكرى يوليو هذه المرة مختلفة، هي نفسها الأسباب التي أدت لقيام ثورة يوليو نفسها. إذ اندلعت ثورة ٢٣ يوليو كرد فعل واستيعاب «الضباط الأحرار» لخبرة القضية الفلسطينية وبالتحديد حرب ١٩٤٨ والأداء المزري للنظام العربي الوليد -نحو ٧ دول مستقلة آنذاك تجمعت تحت راية الجامعة العربية- في هذه الحرب. أداء قاد للهزيمة ووقوع القسم الأكبر من فلسطين تحت الاحتلال وقيام الكيان الصهيوني.
في الأشهر العشرة الأخيرة وفي مواجهة حرب طوفان الأقصى الجارية يتكرر عجز النظام العربي في القضية الفلسطينية وإن بصورة أفدح. فهو تحول من عجز وعدم استعداد وجهل بحقيقة تسليح العصابات اليهودية وخبراتها القتالية إلى تواطؤ وتنسيق من بعض العرب مع نتنياهو في مسعاه لهزيمة المقاومة وتمكين إسرائيل من تنفيذ أكبر عملية تجويع حتى الموت لنحو مليونين ونصف المليون غزاوي.
في هذه الحرب اسُتدعيت فيديوهات عبدالناصر وأقواله عن القضية الفلسطينية، خاصة التي سجّل فيها انحيازه المطلق للمقاومة الفلسطينية وإيمانه بأنها وجدت لتبقى ولتنتصر. واسُتدعيت حقائق تم طمسها إنه وأحد ضباطه -مصطفى حافظ- كانا أول من شكل مجموعات مقاومة مسلحة في قطاع غزة منذ النكبة.. أنه من ساند المسلحين -عرفات وصحبه- الذين أطلقوا الرصاصة الأولى في ٣١ ديسمبر 1965 وأنه من مكنهم من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على حساب الزعامات التقليدية. وهو من فتح باب التسليح لهم على مصراعيه بتقديمهم للقيادتين السوفييتية والصينية آنذاك، وأصبحت (م. ت. ف) حتى لحظة خروجها المشؤوم من بيروت 1982 من أهم حركات التحرر الوطني في العالم.
تذكر الجميع كيف حقن ناصر الدماء بين المقاومة والحكومة اللبنانية باتفاق القاهرة في نوفمبر 1969. بل وكيف راح هو نفسه شهيدًا لفلسطين بعد جهد مضنٍ لوقف حرب ما عرف بـ«أيلول الأسود» وإنجاز مصالحة أردنية -فلسطينية في سبتمبر 1970.
لكن أكثر ما رد الاعتبار ليوليو في «طوفان الأقصى» هو ربطها للأمن القومي المصري بالأمن القومي العربي الجماعي وجعل القضية الفلسطينية هي قلب هذا الأمن الجماعي. إذ قارنت الشعوب العربية والإسلامية وحتى الشباب الغربيون الذين نزلوا الشوارع من أجل فلسطين بين استجابة مصر يوليو لكل نداء عربي للنجدة والتضامن وبين السكوت المخزي النظام العربي الحالي.
بين استجابة حكم يوليو لكل دعوة عربية غير آبه بالتضحيات وغير آبه بتحدي الاستعمار القديم -بريطانيا وفرنسا- أو الاستعمار الجديد -الولايات المتحدة-. لم يكن يمر عام دون أن تلبي مصر دعوة لمعركة قومية لها تضحياتها الجسيمة سواء جاءت من بلد أو من حركة تحرر عربي، من الثورة الجزائرية إلي الثورة اليمنية، ومن منع عبدالكريم قاسم من غزو الكويت 1963 إلى منع نزول القوات الأمريكية إلى لبنان ١٩٥٨ والوقوف مع سوريا ضد الحشود الإسرائيلية مايو 1967 ولم يندم على ذلك رغم أن ذلك أدى لتجرع مرارة نكسة يونيو.
قارنت الشعوب سلوك «وامعتصماه» وسلوك «صلاح الدين» في الاستجابة لاستغاثة الأمة الذي لم يتكرر من وقتها إلا على يد يوليو وناصر بالحاضر المخزي الذي تجري فيه مذبحة الإبادة الجماعية للفلسطينيين في الضفة وغزة ويفرض الحصار التام للغذاء والدواء وتهدم المساجد والكنائس في غزة وانتهاك المسجد الأقصى، فلا يرف للنظام العربي جفن ولا تتحرك فيه نخوة.
لكن ما أعاد الاعتبار أكثر لمشروع يوليو هو أن العالم العربي اكتشف ما اكتشفه في حرب 1948 من أن إخفاق معظم وحدات النظام العربي في نصرة القضية الفلسطينية يعود إلى أسباب بنيوية داخلية تتعلق بتركيب هذه النظم وعجزها عن حل التناقضات الداخلية في مجتمعاتها وعجزها عن القيام بوظائف الدولة الحديثة في تحقيق الوحدة الوطنية والتنمية الاقتصادية والخدمات العامة وتقريب الفوارق الاجتماعية وتحقيق المشاركة العامة. إخفاق يعود في جزء منه إلى تبعية هذه الوحدات للغرب خاصة واشنطن في مشروعها السياسي لبناء حلف عربي/ إسرائيلي ومشروعها الاقتصادي بالعمل في التنمية طبقًا لتوجيهات مؤسسات الغرب المالية.
بعد حرب ٤٨ وفشل العرب في فلسطين وبسبب تدهور الأوضاع الداخلية في مصر التي كان شاهدا عليها حريق القاهرة ٢٦ يناير ٥٢ وتساقط الحكومات وراء الأخرى قامت ثورة يوليو فتغيرت خريطة العالم العربي، فهل تكون «طوفان الأقصى» إيذانا بتغيرات عربية كبيرة كما فعلت حرب 1948؟.