انتصار العمال في بريطانيا ليس تغييرا ولا تداولا حقيقيا للسلطة!
من المؤكد أن حزب المحافظين الذي حكم المملكة المتحدة لنحو عقد ونصف كان يستحق الهزيمة الساحقة التي أصيب بها. واقع الأمر أن الحزب كان يستحق العقاب الشعبي والخروج من الحكم منذ ٨ أعوام كاملة بعد فشل مقامرة زعيمه السابق ديفيد كاميرون الكبرى في ٢٠١٦ بإجراء استفتاء على بقاء أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. راهن كاميرون على أن التصويت سيكون بالرفض لكن المفاجأة الكبرى أن التصويت جاء لصالح الخروج فاستقال، ودخلت بعده بريطانيا في نفق معتم من الفشل الاقتصادي تحت حكم ٥ زعماء محافظين تنافسوا جميعا على سوء الأداء وبعضهم تنافس في عدد الفضائح السياسية خاصة بوريس جونسون.
غير أن الهالة السياسية والإعلامية الهائلة التي أحاطت بها وسائل الإعلام الرئيسية في بريطانيا والولايات المتحدة والغرب انتصار حزب العمال ووصول زعيمه كير ستارمر لحكم ١٠ داوننج ستريت هي هالة مبالغ فيها، بل وتكاد تكون مضللة وغير صحيحة.
هذه الهالة الضخمة التي أحيط بها ارتكزت على فكرتين رئيسيتين تم تسويقهما بقسوة وبكفاءة وإلحاح إعلامي.
الأولى أن فوز حزب العمال بأغلبية مريحة هو دليل على استمرار فعالية وكفاءة النظام الديمقراطي الغربي بدليل تحقيقه لأهم آليات عمله وهو حدوث تداول للسلطة بين أحزاب متنافسة (في حالة بريطانيا تداول السلطة في نظام الحزبين الكبيرين).
الثانية هي أن تحقيق حزب العمال لأكبر نصر منذ ١٩٩٧.. هو وبتعبيرات رئيس الوزراء الجديد كير ستارمر بعد الفوز سيأتي «بالتغيير» في السياسات العامة ببريطانيا سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية.
لكن حقائق الأمور تقول إن انتقال الحكم من المحافظين إلى العمال لا يعبر عن تداول حقيقي للسلطة ولن يُحدث تغييرا جوهريا في التوجهات الكبرى للسياسة في المملكة المتحدة التي صيغت خاصة منذ عهد مارجريت تاتشر.. الزعيمة صاحبة الإرث السياسي الأهم في التاريخ البريطاني المعاصر بعد وينستون تشرشل.
نعم هو يدفع بهواء جديد للمجال العام وبوجوه وزراء جدد أكثر حيوية من عناصر النخبة السياسية البريطانية الحاكمة.. ولكن من المستبعد أن يعكس تداولا حقيقيا للسلطة بالمفاهيم المعروفة للتنافس الديمقراطي بين أحزاب تعكس مصالح اجتماعية وطبقية تنتج سياسات اجتماعية واقتصادية ودبلوماسية خارجية متباينة وشديدة التمايز عن بعضها البعض.
تمكن عهد مارجريت تاتشر «التاتشرية» الذي لا يمكن فصله عن عهد ريجان «الريجانية» من إرساء قواعد ما بات يعرف بالليبرالية المتوحشة التي استندت إلى قواعد مدرسة شيكاجو الاقتصادية شديدة التطرف في إطلاق العنان للحرية الاقتصادية والقطاع الخاص والذي أنتج سياسات الخصخصة وانكماش دور الدولة إلى أدنى حد ممكن. قادت هذه السياسات المعادية للعدالة الاجتماعية إلى أضرار جسيمة في نمط توازن المصالح بين الطبقات الاجتماعية التي ميزت الليبرالية الديمقراطية القديمة (خاصة بعد إصلاحات النيو أكت لروزفلت التي قامت على أفكار كينز أو الثورة الكينزية وتغلبت على الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي) كما قضت على منجزات لا بأس بها لدولة الرفاه الاجتماعية ولتضييق نسبي في الفوارق بين الطبقات.
بعد الثورة الريجانية والتاتشرية المضادة هيمن القطاع المالي على الاقتصادات الغربية على حساب القطاع الصناعي والإنتاجي المعروف بالقطاع السلعي وكانت النتيجة أن زاد الأغنياء غنى والفقراء فقرا وتركزت الثروة في يد نخبة «أوليجاركية» جديدة كان طبيعيا وتلقائيا أن تعمل باستمرار على أن تحصر عملية تداول الحكم فيما بينها.
العقبة الأساسية التي كانت تواجه سيطرة الأوليجاركية الجديدة هي وجود حزب العمال بأفكاره السياسية ذات الطابع اليساري وهنا جاء الدور التاريخي لتوني بلير الذي بات زعيما لحزب العمال منذ ١٩٩٤ فالسياسي الطموح الذي هاله خروج الحزب من الحكم لمدة ١٨ عاما متصلة تخلص من معظم قادة الجناح اليساري للحزب وحول حزب العمال من حزب يسار الوسط إلى حزب يمين الوسط أي أنه انتقل بقيادته للحزب والحكومة منذ ١٩٩٧ إلى ٢٠٠٧ إلى طبعة أخرى مخففة من حزب المحافظين. ومن هنا صارت الأوليجاركية الحاكمة متوزعة بين المحافظين والعمال ولا خطر كبير على حكم الأوليجاركية بنت الليبرالية الجديدة المتوحشة إن جاء رئيس الحكومة من المحافظين أو العمال.
لكن التحدي لمعادلة تاتشر - بلير المتناغمة عاد من جديد مع فوز الزعيم اليساري المبدئي المؤيد للحقوق الفلسطينية جيريمي كوربين برئاسة حزب العمال عام ٢٠١٥.. وهنا عاد معها ما يمكن وصفه بالفيتو الضمني من الدولة العميقة البريطانية المتحالفة مع الطبقة المالية الغنية على عودة العمال إلى الحكم بل تعرض كوربين المؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني لأكبر عملية اغتيال إعلامي ومعنوي تعرض لها سياسي بريطاني منها اتهامه الأخطر بمعاداة السامية ما أدى لهزيمة حزبه هزيمة ساحقة في انتخابات ٢٠١٩ وخروجه بعدها من زعامة الحزب.
انتخاب كير ستارمر لزعامة العمال وهو النسخة الأقل كاريزمية من توني بلير ولكن المؤمن بخطه اليميني ترافق مع عملية تطهير قاسية للجناح اليساري ولأفكار كوربين تحت شعار تطهير الحزب من القيادات والكوادر المعادية للسامية خاصة وأن زوجة ستارمر يهودية نشطة متعاطفة مع إسرائيل ويعيش جزء من أهلها في إسرائيل. عندما استوفى ستارمر شروط عودة الحزب للصيغة التاتشرية للحكم المهيمنة على بريطانيا منذ ١٩٧٩.. صار بمقدوره وهو ابن بار وموثوق فيه للبيروقراطية البريطانية (كان مديرا للنيابة العامة لفترة طويلة) أن يتقدم مستريحا للزعامة السياسية للبلاد مستفيدا من أخطاء الزعماء المحافظين المتتابعين وفي إطار صورة إيجابية، عكس سلفه كوربين، يقدمها الإعلام له باستمرار. حقائق الأمور تقول، أيضا، إن حكم العمال لن يأتي بالتغيير الذي وعد به ستارمر. في السياسة الداخلية لن يحدثَ تغيير جوهري في السياسات الاقتصادية الليبرالية المحافظة المستمرة منذ ٤٥ عاما ولاتوجد فروق جوهرية بين العمال والمحافظين في سياسات الهجرة والمهاجرين والضرائب على الدخل.. إلخ. التحسن النسبي الطفيف قد يحدث في إنفاق أكبر ولكن محدود لحكومة العمال على مؤسسة الرعاية الصحية «إن إتش إس» والتعليم العام خاصة لتطوير الوجبات المجانية لأطفال المدارس.
لكن السياسة الخارجية لن يحدث فيها تغيير يذكر خاصة وقد تم تجربة ستارمر كمعارض وثبت أنه مؤيد صارم لعلاقة التحالف التبعي للولايات المتحدة تجاه الأزمات الدولية والإقليمية في القارة الأوروبية وخارجها. لم يقدم ستارمر كزعيم سابق للمعارضة في السنوات الخمس الماضية أي اختلاف جدي مع موقف حكومات المحافظين من الأزمة الأوكرانية وأيد الدعم العسكري والسياسي المفرط وغير المسبوق لحكومة زيلينسكي والمعادي بشدة لروسيا وبوتين. وفي أزمة غزة لم يعارض ستارمر تحالف بريطانيا مع الولايات المتحدة، بل أكثر من أي حليف غربي آخر، في دعم إسرائيل سياسيا وعسكريا وفي صد الهجوم الإيراني على إسرائيل وصد هجمات أنصار الله الحوثيين.
اختُبر ستارمر في هاتين الأزمتين الخطيرتين أوكرانيا وغزة وثبت أنه منسجم تماما مع المؤسسة الأمنية والعسكرية ذات التوجه الأطلسي العتيد، ولا يمثل أي تهديد لتقاليدها تماما كما فعل بلير عندما كان الشريك الأهم لجورج بوش الابن في غزو العراق ٢٠٠٣.
حسين عبدالغني إعلامي وكاتب مصري