الفراغ الروحي.. مراجعات في المفهوم

20 يونيو 2021
20 يونيو 2021

خميس بن راشد العدوي -

كثيراً ما تشيع بين الناس مصطلحات لم يقفوا على أبعادها، وهذا عائد إلى ذهنية التقليد الملازمة للإنسان، حتى إن البعض يتصور بأنه يبدع في شيء ما، ولا ينتبه بأن أصل ذلك الشيء أساساً غير متقرر علمياً، ولا مُتَحَقق منه، فنرى مصطلحاً ما ينتشر بين معارف شتى، لا يكاد يجمع بينها جامع، من هذه المصطلحات «الفراغ الروحي».

هذا المصطلح يتردد كثيراً بين الناس، ولم أكن أحفل به، لأن معنى الروح لم يتحدد لدي حينها، وكنت كلما أردت التفكير فيه؛ يواجهني التفسير الشائع لقول الله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)، بأن الروح مجهول، فقد استأثر الله وحده بعلمه، وأن الإنسان لن يعرفه لقلة علمه، فكنت أمتنع عن النظر فيه. مع أن الآية لا تتحدث عن الروح الذي هو نفخة إلهية في الإنسان، وإنما تتحدث بحسب سياقها عن جبريل، فكانوا يسألون: لِمَ جاء بالقرآن إلى النبي محمد دون غيره؟ فرد عليهم: أن الروح؛ أي جبريل من أمر ربي، وأن علمكم قليل مقارنة بعلم الله. وبعد انتباهي لسياق الآية؛ دعاني للتفكير في مفهوم الفراغ الروحي.

إن مفهوم الفراغ الروحي السائد بين الناس الآن لا علاقة له بالقرآن في نشأته وأصله، بل ولا معناه، وإنما استعير من المنظومة العقدية للمسيحية، فهي الدين الأبرز الذي اهتم بالروح ومعتقداته، وركّب عليه صحة الدين برمته، فمن مرتكزات الاعتقاد فيه أن الروح القُدُس حلَّ في جسد المسيح. وربما أن ذِكْرَ القرآنِ للروح كان مهاداً لقبول المسلمين للمصطلح، بيد أنه دخل في الحقل الإسلامي متأخراً، تقريباً في القرن العشرين الميلادي، وهو قرن دسم بالاقتباس من الحقل الفكري الغربي عموماً، ومن المنظومة المسيحية خصوصاً.

لم يستقر مصطلح الفراغ الروحي لدى المسلمين على مفهوم واضح، فهو مصطلح فضفاض؛ لا قيمة معرفية محددة له، شُهِر استعماله في الوعظ الديني، ثم أخذ الناس يرددونه كلما أردوا أن يعبّروا عن الاختلال الاجتماعي، بأن يسندوه إلى الفراغ الروحي. لم يلامس المصطلحَ التأصيلُ الفقهي التقليدي، ولم يحفل به الحقل العلمي، ولأجل ذلك كثُرت الأشكال اللفظية له؛ منها: الخواء الروحي، والفضاء الروحي، والظمأ الروحي، والعطش الروحي، وتعددت استعمالاته دون أن تتحدد دلالاتها، ويكاد لا تعرف معنى لإتيان المتكلم به إلا استئناساً بسياق كلامه، وكثيراً ما يجري الخلط بين الروح وغيره، فمثلاً.. عندما يتحدث أحدهم عن التربية يورد الفراغ الروحي والتربوي، وإن تحدث عن الأخلاق عبّر بالخواء الأخلاقي الروحي، وإن تطرق للجوانب المعرفية أدخل في حديثه الظمأ الروحي للثقافة، وإن جرى الحديث عن العلاقات الجنسية ابتدع لها الجفاف العاطفي والإشباع الروحي، وهكذا.. ينوّع المتحدثون في المصطلح بحسب سياق حديثهم، حتى وجدتهم يستعملون «الخواء السياسي»، وهم لا يقصدون به شغور الموقع السياسي من شاغليه الذين يدبرون أمره، وإنما يقصدون عدم وجود الضمير الأخلاقي فيمن يدير الشأن السياسي. ففي كل هذه المصطلحات يشيرون إلى خلو النفس الإنسانية من البُعد الروحي.

الروح.. بالأساس؛ مصطلح ديني، وفيما يبدو.. أن الدين المسيحي هو أصل نشأة مصطلح الفراغ الروحي، فقد جاء في وصف نزول «الروح القُدُس» على المسيح في «إنجيل لوقا»: (وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي انْفَتَحَتِ السَّمَاءُ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ)؛ وبعبارة أخرى.. حلّ اللاهوت في الناسوت. وفي «أعمال الرسل»: (وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا)، وهنا نلاحظ ذكر الامتلاء بالروح القُدُس، وفي الضد منه ظهر مصطلح الفراغ الروحي. وكلاهما نشآ وتطورا في الحقل المسيحي.

لقد ذكر القرآن الروح بعدة معاني؛ فمنها.. جبريل الذي أتى للنبي محمد بالقرآن، وجاء وصفه كذلك بالروح القُدُس: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)، وبالروح الأمين: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ). والقرآن ذاته روح من أمر الله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا)، وكذلك.. جاء فيه ذكر تأييد المسيح بالروح القُدُس، وعيسى نفسه روح من الله: (الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)، ولكن.. هذا في سياق تجريد الناسوت من اللاهوت، بعكس المعتقد المسيحي. وما يعنينا هنا الحديث عن الروح في الإنسان عموماً: قال الله: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)، وسأنطلق من هذا المعنى للحديث عن الفراغ الروحي.

في الإنسان.. روح نفخه الله فيه، جعله متعلقاً بخالقه، وأوجد الوعي لديه بطبيعة وجوده في الحياة، كما أوجد فيه الضمير الأخلاقي، فالإنسان.. هو الكائن الأخلاقي الوحيد. فالعلاقة بين الإنسان وخالقه تكون حصراً عبر الروح، فلا ينبغي وصفه بالفراغ الروحي، ولا يمكن استيراد هذا المعنى من المسيحية؛ إذ فيها الامتلاء بالروح والفراغ منه متعلق بجانب عقدي يخص المسيحية. لستُ ضد الاستعارات والاقتباس بين الأديان، أو الثقافات، بل لا أحد يملك أن يوقف ذلك، فهو سنة طبيعية من سنن التثاقف بين البشر، وإنما أقصد أن أي مصطلح عند استعارته من أية منظومة، تنبغي معرفة أصله وتطوره ودلالاته. فالفراغ الروحي.. بحسب استعماله الشائع بين المسلمين؛ لم يستمد من البُعد القرآني، وإنما تسرب إليه من الحقل المسيحي، ولفارق الاستعمالين في كل من الحقلين لم يؤدِ الغرض المرتجى منه إسلامياً.

الإنسان.. لا يمكن أن يفرغ روحياً، لأن الروح نفخة إلهية لا يتأتى لشيء أن ينزعها منه، وإنما أفكار الإنسان وأعماله هي ما تجعله لا يتواصل عبر روحه مع خالقه بصورة سليمة. فالتربية والعلاقات الاجتماعية هي ما يحول بين الإنسان وبُعده الروحي، مثلما هو الحال في الدين. فالإنسان متدين بطبيعته؛ لأن التدين ينبع من الإيمان، والذي أصله الروح أيضاً، إلا أن أفكاره حول الدين وممارساته له تجعله ينأى عن مقاصده. اللهم إلا أن يقال بأنه غير متدين، أو أنه يعاني فراغاً روحياً، على سبيل المجاز، بيد أن هذا غير وارد غالباً لدى مستعملي المصطلح. ومع تفهمي بأن البعض يقصد بالفراغ الروحي عدم تأثير الروح أو ضعفه، وليس غيابه كلية، إلا أنه لابد من تحرير مفهوم المصطلح، ووضع الأمور في مواضعها، مع إدراك أصولها ومآلاتها.

لقد شاع بين الناس.. لاسيما من يستعمل مصطلح الروح في الوعظ بمختلف جوانبه؛ النفسي والأخلاقي والاجتماعي والديني، وَصْمُ السلوك غير السوي أو الاضطراب النفسي بأنه فراغ روحي، وكذلك.. تعليل الابتعاد عن الأحكام الدينية، وهذا الابتعاد له العديد من الأسباب، ليس من بينها فراغ النفس من الروح. بل حتى الاكتئاب والقلق رُدّا إلى هذا الفراغ؛ مع أنهما حالتان مرضيتان مدروستان طبياً، ولهما أسبابهما المحددة، ولهما كذلك علاجهما النفسي والمادي، ومثل ذلك.. الإلحاد والانتحار اللذان لهما أسبابهما المعرفية والنفسية والاجتماعية، فلا ينبغي الخلط بينهما وبين البُعد الروحي. فالإنسان يسكنه الروح؛ منذ تشكله في رحم أمه حتى موته، وإنما عليه أن يجعله حاضراً في وعيه؛ ليمنحه التصور الصحيح للحياة، ويلهمه الرشد، ويضبط بوصلة سلوكه في الحياة. فالروح.. موجود ولا يتخلى عنا، وإن قلنا بفراغ الإنسان منه؛ فمن ذا الذي يمكنه أن يقوم بعمل الله فينفخ فيه الروح من جديد؟! بل الروح فينا؛ وإنما علينا أن نوقد شعلته لينير نفوسنا، ويهدينا سبلنا إلى مراشد الإيمان وجادة الصواب.

وبناءً على ذلك.. فإن المعالجة التقويمية تنبغي أن تتوجه إلى التأثيرات التي اكتسبها الإنسان؛ فرانت على قلبه واستولت على سلوكه، أكثر من إلقاء العهدة على الروح ذاته.