الخليج يحاصر التطبيع شعبيا ورسميا
عندما وقعت اتفاقات ابراهام بين إسرائيل ودول عربية بدا أن "الهرولة " إلى التطبيع مع إسرائيل ستجتاح العالم العربي فلا تترك فيه شبرا طاهرا من محيطه المغربي حتى خليجه العربي ومن سودانه في الجنوب إلى كردستانه العراقي في الشمال.
وأن إقامة حلم شمعون بيريز في سوق شرق أوسطية بالمال الخليجي والأيدي العاملة العربية والتكنولوجيا الإسرائيلية (يالها من قسمة ضيزى) قد باتت مسألة وقت.
إلا أن رياح الحق والعدل جاءت بغير ما تشتهي السفن الإسرائيلية في صورة مقاومة شعبية شملت نخبا وحركات مدنية في العالم العربي عامة وفي الخليج خاصة.
ولم تقف المقاومة عند دول لم تنضم لاتفاقات ابراهام وإنما شملت أيضا الدول التي وقعت عليها أو عقدت لقاءات مع الجانب الإسرائيلي وأعلن الإسرائيليون بعدها أنها تمهد لانضمامهم للاتفاقيات مثل السودان.
ففي البحرين اعتذرت الشيخة مي آل خليفة رئيسة الهيئة البحرينية للثقافة والآثار عن مصافحة السفير الإسرائيلي في المنامة. وكان الأهم من موقفها هذا الترحيب والدعم الواسع شعبيا الذي تلقته الشيخة من جماعات المثقفين في الخليج والعالم العربي إذ صدرت بيانات ورسائل تأييد حارة لها شمل سيدات ورجال أعضاء في الأسر الحاكمة في الخليج وسفراء وكتاب وأدباء وأعضاء في البرلمانات ومجالس الشورى الخليجية. وهو صدى بلغ من صدقه وتدفقه أنه لفت انتباه وسائل الإعلام الغربية التي تفاجأ كل مرة !! بحجم الرفض العربي الشعبي لأي تطبيع قبل إعادة الحقوق الفلسطينية.
ومن عمان الأبية التي وقفت دائما مع الحق الفلسطيني جاء موقف شعبي آخر مقاوم للتطبيع إذ رفض المنتخب الجامعي العماني لكرة الصالات لقاء الفريق الإسرائيلي في بطولة العالم الجامعية في مدينة براغا البرتغالية فجدد مواقف الشعب العماني في دعم الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية ودعم الضفة وغزة بكل ما يستطيع. ويتسق الموقف الشعبي مع الموقف الرسمي العماني الذي يربط أي تقدم في العلاقة مع إسرائيل بانصياعها لقرارات الأمم المتحدة في حل الدولتين الذي يقود لدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشريف.
في الكويت استجاب مجلس الأمة فيها للحركة الشعبية لمقاومة التطبيع فوافق على تعديلات تشدد العقوبات الموجودة في قانون مقاطعة إسرائيل وسد أي ثغرات في مواد حظر التطبيع مع إسرائيل. ونقلت صحف كويتية أن وزير المالية عبد الوهاب الرشيد تتم مساءلته من لجنة تحقيق لامتناعه عن فصل موظف أجنبي يعمل في مكتب الاستثمار الكويتي في لندن ومرتبط بعلاقات مع إسرائيليين نفس الوقت.
في بغداد أصدر البرلمان العراقي بالإجماع بما في ذلك النواب الأكراد قبل 3 أشهر قانونا غير مسبوق يجرم التطبيع مع إسرائيل بعقوبات تصل إلى حد "الإعدام".
وفي السودان تقوم الحركة الشعبية لمقاومة التطبيع بجمع أكثر من مليون توقيع لرفض التطبيع مع إسرائيل وتأكيد أن اللقاءات الإسرائيلية التي تمت مع مسؤولين عسكريين سودانيين لا يعكس الموقف الشعبي السوداني.
وفي مصر والأردن اللتين بدأت فيهما الحركات الشعبية لمقاومة التطبيع لأنهما أول دولتين وقعتا معاهدات سلام مع إسرائيل، عادت هذه الحركات إلى استعادة زخمها وعادت حركات نصرة فلسطين ومقاومة التطبيع إلى تدشين أنشطة وتحركات رافضة للتطبيع ومقاومة خطة بايدن إدماج إسرائيل في المنطقة عسكريا واقتصاديا. وشنت وزيرة أردنية سابقة هجوما كاسحا على مسيرة التطبيع الاقتصادي الرسمي الاردني/ الإسرائيلي التي تمت منذ معاهدة وادي عربة وأثبتت بالأرقام أنه صب في صالح إسرائيل ولم يفد الأردن في شئ.
ولكن ما الذي يفسر هذا النجاح الشعبي ونجاح الجماعة الثقافية العربية في الخليج وغيره في وقف مسيرة التطبيع وإطفاء الهرولة التي بشرت بها اتفاقات ابراهام.؟؟ أعتقد أن ذلك يعود لجملة من الأسباب هذه بعض منها:
١- المبالغة في عمليات التطبيع الذي شهدته الأعوام الثلاثة الأخيرة على المستوى الرسمي والذي وصل إلى مجالات أمنية وتقنية وعسكرية حساسة قد تشكل تحديات للأمن الخليجي والعربي.. مثل صدمة كبيرة لمشاعر الرأي العام وأثار مخاوف حقيقية على الهوية الوطنية والقومية والدينية.
هذه الصدمة خلقت استفزازا عاما ونفورا شعبيا من خطوات التطبيع المتسارعة تحول إلى عمل مقاوم رافض للتطبيع. ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى المثل العراقي: إذ أدى التطور السريع والسري في العلاقات الإسرائيلية مع سلطات إقليم كردستان العراق والحديث عن مقار استخبارات تديرها إسرائيل هناك إلى مخاوف أمنية شديدة على الأمن الوطني للعراق كما شعرت الدول المجاورة مثل إيران وتركيا بخطر على أمنهما من هذا الاقتراب الإسرائيلي المباشر لحدودها وكان الرد هو أكثر قانون عربي متشدد ضد التطبيع مع إسرائيل وصل إلى حد عقوبة الإعدام.
٢- الهرولة العربية الرسمية للتطبيع جاءت ضد حركة التاريخ ففي الوقت الذي عقدت فيه اتفاقات ابراهام كان العالم ينتقل إلى التعامل مع إسرائيل باعتبارها دولة فصل عنصري بغيض "ابارتهايد" كنظام جنوب أفريقيا العنصري الذي سقط لمعاداته لحركة التاريخ. وقد دفعت دول عديدة منها إسرائيل ثمنا فادحا لاقترابها من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إذ ثبت أنها استثمرت في الاتجاه الخاطئ عندما سقط هذا النظام كنمر من ورق. في الحرب الإسرائيلية / الفلسطينية الأخيرة مايو٢٠٢١ انطلقت المظاهرات في الدول الأوروبية والولايات المتحدة تضم الأجيال الشابة في دول الغرب بما فيهم يهود ضد العنصرية الإسرائيلية وتحالفت حركات شعبية مثل حياة السود مهمة ومنظمات حقوق الإنسان العالمية وبي دي اس المقاطعة للمنتجات والأكاديميات الإسرائيلية في تشكيل صوت ضمير عالمي عالي وفي بلورة رائعان دولي معادي لـ عنصرية إسرائيل.
٣- الشعور العام في العالم أن الولايات المتحدة الحامي الأساسي لوجود إسرائيل لم تعد القوة الوحيدة المهيمنة على العالم وأن نظام متعدد القطبية يتشكل لابد وأنه سينهي المعايير المزدوجة التي فرضتها واشنطن على العالم وجعلت إسرائيل استثناء لا يمكن المساس بها ومحاسبتها على جرائمها التي تنتهك القانون الدولي والإنساني.
٤- الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وقدرته الهائلة على رفض كل الصفقات المشبوهة التي تقضي على قضيته العادلة كصفقة القرن.. الخ. وهو صمود فرض على النخبة السياسية الفلسطينية وقيدها به من خلال الوحدة المذهلة التي أبداها الفلسطينيون داخل الخط الأخضر مع الفلسطينيين في الضفة وغزة. والتي أظهرت كذب الأسطورة الإسرائيلية التي أوهمت العالم بها عقودا أن هناك ما يسمى عرب إسرائيل المندمجين بسلام في الدولة العبرية. إذ فضح فلسطينيو ال ٤٨ الممارسات العنصرية الإسرائيلية تجاههم ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الرابعة كما كان يفعل البيض مع الأفارقة في جنوب أفريقيا وناميبيا.
حسين عبد الغني إعلامي وكاتب مصري