الحداثة وما بعدها: معضلة البحث عن المعنى

19 فبراير 2022
19 فبراير 2022

لم تظهر حضارة في التاريخ أكثر التباسا وتعقيدا من حضارة الغرب الحديث. وما قولنا هذا إلا قصد الوقوف على المعنى المستتر لحداثات حجبتها غوايات الثورة التقنية، فأدخلتها كهف اللامعنى. والذين ذهبوا إلى اعتبار الصفة الرئيسة للأزمنة الحديثة "نقض المطلق"، إنما رموا إلى استبيان المعضلة الكبرى التي استبدت بجوهر الحداثة ولما تفلته شباكها بعد. نقض المطلق والنزوع نحو النسبي هو المبدأ المؤسسس لعقيدة الحداثة: وسنرى تصديقا لهذا ما آلت إليه المدارس والتيارات الحداثية المختلفة - مثل الاسمية والوجودية، والذاتية والنفعية، والوضعانية، واللا أدرية ...إلخ - حيث تحولت النسبية إلى وثن معرفي يهيمن على عقل الحضارة الحديثة وروحها.

ولقد جاز القول إن التشاؤم المنغرس في الحياة الحديثة ما كان سوى حاصل نزعة ترى إلى العالم بوصفه سلسلة متصلة من النسبيات المتراصفة المستقلة بذاتها، والتي لا يمكن التعامل معها إلا على قاعدة التناسب الآلي بين حلقاتها. أما النتيجة المترتبة على هذه النزعة، فهي حرمان الإنسان الحديث من تفاؤله بالرجاء ودفعه نحو ظلمات العدمية واللاجدوى. ولقد دلت الوقائع على أن حالة الإنسان المعاصر عندما تكون محددة حصرا بإشباع الرغبات النفسية والبيولوجية، و- ذاك ما اختبرته أزمنة الحداثة وما بعد الحداثة - فالحصيلة المنطقية لهذه الحصرية المنخنقة، هي تناهي حياته ضمن حدود الأهواء العارضة.

ربما غاب عن علماء الحداثات المتعاقبة وفلاسفتها، أن تأسيساتهم المنبنية على نفي المطلق أفضت إلى نفي وجودهم الواقعي نفسه. ذلك أن من ينفي حقيقة الوجود الكلي، فإنه بذلك ينفي الأصل الذي تتفرع منه الموجودات الجزئية وهو منها. الأمر الذي سيؤدي منطقيا إلى نفي الحقيقة الوجودية لكل محدد ونسبي وإقصائه، ويتحول كل شيء، بما في ذلك الإنسان إلى كائن عارض بلا غاية. ولو كان لنا أن نستقرئ هذه الجدلية لوجدناها سارية في الأفكار والنظريات التي جاء بها رواد الحداثة الأولى، ثم أورثوها شخوص ومدارس ومذاهب ما بعد الحداثة.

في سياق تحليلنا للمباني الأنطولوجية التي قامت عليها الحداثة بطوريها القبلي والبعدي سنلاحظ كيف أن مجاوزة المطلق والركون التام إلى الملاحظة والتجربة، أنتج أول معثرة تكوينية أصابت العقل الحديث في صميم بنيته المنطقية. فإذا كانت كل بنية منطقية ضاربة بجذورها في البنية الأنطولوجية ومتصلة بها، فإن كل ما هو متناه ونسبي ينتهي بالضرورة إلى اللاوجود.. أي إلى اللاشيء. وطبقا لهذه الدربة يصير كل شيء آيلا إلى الفناء والانتهاء. وهذه الحقيقة لا تنسحب على الإنسان فحسب، وإنما أيضا على سائر الموجودات. ولكي لا تنقفل الآفاق أمام إنسانها وحضارتها انبرت الحداثة إلى اختراع مخرجات تقيها الانسداد الفكري وخواء معنى الحياة الحديثة. وربما كانت "التكرارية" هي إحدى أكثر المخرجات الفلسفية جلاء في ما عرف لدى فريدريك نيتشه بنظرية "العود الأبدي لذات النفس". غير أن عقل الحداثة لم يدرك معنى ودلالة أن يكون الإنسان كائنا ميتافيزيقيا بالفطرة. ذلك أنه الموجود الوحيد الذي يحدد معناه حين يعي حقيقة تميزه الوجودي. ما لم تشأ أن تلتفت الحداثة إليه بجناحيها القبلي والبعدي، هو إدراك الحقيقة الأنطولوجية المفارقة للكائن الإنساني: فهو إذ يسعى إلى تحقيق معناه يدرك أنه لن يكون له ما يريد إلا بردم الفجوة الكيانية التي هو فيها. ولأن الإنسان هو في أصل نشأته مزيج من الوجود واللاوجود، فإنه على وعي بحقيقة الحياة والموت، بما هي الحقيقة الواقعية العظمى التي لا يشوبها ريب أو شائبة. ففي هذه المنطقة القلقة التي وصل إليها التفكير الحديث بدت حضارة الحداثة أمام مفترق خطير بين الوجود والعدم. ولقد كان بينا أن التفكير الحداثي ما دام يعرض عن اللامتناهي وتحديدا عما هو روحاني في الطبيعة البشرية، فبديهي أن ينتهي إلى العدمية، ثم ليمضي بعيدا في اللامعنى.

لقد وقعت ما بعد الحداثة مثلما وقعت الحداثة الأولى من قبل، في المعضلة نفسها وهي تبحث عن معنى الإنسان. ولنا أن نتبين دلالات المعادلة التالية: كان "الإنسان الحديث" في عصر الأنوار يرى الدنيا لونا واحدا تماما بلحاظ الحسن والقبح. و"الإمكان" فقط هو الذي يجعلها جميلة أو بلا قيمة، في حين أن الدنيا بالنسبة إلى النمط المثالي لما بعد الحداثة، مليئة بالحسن والقبح وأن لكل شيء حسابه، ويجب الكشف عنه، وأن على الإنسان معرفة وظيفته ومسؤوليته الأساسية في أية حالة يكون فيها. وهكذا يكون الشخص "الناجح" في منطق ما بعد الحداثة هو ذاك الذي يخضع لوظيفته سواء أبلغ الوضع المنشود أم لم يبلغه! إلى ذلك كله، سنرى أن أهم عنصر مقوم لفكر ما بعد الحداثة هي الجنبة الذاتانية منه. وعلى هذا الأساس ظلت عناصر التفكير الحداثوي وأجزاؤه محفوظة في ما بعد الحداثة، فيما بقي بعضه الآخر والأساسي كما هو على نشأته الأولى. ما يعني أن الذين نقدوا الحداثة من المعاصرين لم يستطيعوا النفاذ إلى أفق معرفي يجاوز مرجعية المؤسسين الأوائل ومناهجهم.

كل الذين نقدوا أزمنة الحداثة، سيدور نقدهم مدار الاحتجاج على قهريات قيم رأس المال التي اجتاحت كل شيء مع بداية العصر الصناعي. وفي حقبة ما سمي "ما بعد الحداثة" مثلث المدارس والتيارات النقدية نماذج من هذا الصنف من التدافع الحجاجي. سوى أنها لم تفلح، وبحكم تكوينها الأنطولوجي وحصريتها المعرفية، في استحداث ضرب من "جيولوجيا ثقافية" تنقد المعاثر الجوهرية لمعنى الحياة الحديثة. وهكذا ستدور معارف الحداثة مدار العقل المقيد حتى وهي تتطلع نحو اللامرئي، أو تبحث عن سر "الشيء في ذاته". تلقاء هذا استعصى عليها النفاذ إلى "أفق معرفي ما بعدي" ينفسح فيه نشاط الفكر، ويكتشف العقل قدرته على مجاوزة ذاته المنحبسة في عالم الممكنات. داخل المدار المعرفي للحداثة سينمو ضرب من التشاؤم من إمكان الفوز بمعرفة ما هو محتجب وراء عالم الحواس. والسبب كامن في "الخلط المنهجي" الذي اقترفه الحداثيون لما قاربوا الدين بأبعاده الغيبية – على سبيل المثال - بأدوات المنطق الأرسطي، وبأحكام المنهج العقلاني الصارم للفلسفة.. وعليه سيكون من أمر هذا الخلط أن تشيع سياقات وخطوط تأويلية غلب عليها الغموض والاضطراب وسوء الفهم.

المفارقة أن النزعة التشاؤمية ستتمدد إلى القلعة التي ابتنى عليها العقل الغربي أمجاد حداثته وأنوارها. ومع أن مؤولة عصر النهضة بذلوا من الجهود ما صير الهرمينوطيقا علما مستحدثا، إلا أنهم لم يجاوزوا الأرض الأولى لأسلافهم. كل ما استحدثوه أن حولوا الهرمنيوطيقا الشفاهية التي مارسها حكماء الإغريق إلى تنظير مدون في خزائن الكتب. ربما لهذا الداعي سيزعم الورثة والمحدثون من فلاسفة التنوير أن أجدادهم لم يكونوا من الهرمنيوطيقا على شيء، لأنهم أهل شفاهة لا أهل نص يستدل عليه بالوثائق. وعلى الرغم من هذا الزعم جاءت النتيجة لتقول، إن القول الفلسفي المستأنف للحداثة لم يقدر على القطع مع ماضيه، ولو كان دأبه المستدام الانقلاب عليه، أو الجحود بفضائله. من أجل ذلك لم يكن التاريخ الغربي – كما يلاحظ أهله - مسيرة مظفرة نحو النور والسعادة. فلقد تخلل ذلك التاريخ انحدار عميق نحو هواجس العقل الأدنى ومشاغله منذ ما قبل سقراط إلى زماننا الحاضر. والحاصل، أنه أن كلما ازدادت محاولة الإنسان فهم دنياه، واستغرق في تأويل إنجازاته التقنية، ازداد نسيانه ما هو جوهري.

في حقبة الحداثة الفائضة التي نشهد وقائعها اليوم، سنجد كيف تهافت التأويل العقلاني لتصير معه صورة الإنسان الحديث أقرب إلى وجه مشوه وسط لوحة سيريالية تعكس السخط على الذات وعلى العالم معا. ففي عصر التقنية الجائرة ستتخذ المجتمعات المعاصرة سبيلها إلى انزلاقات باتت معها أدنى إلى أوعية متصلة عصية على فهم راهنها والمقبل من أيامها. بدا واقع الحال كما لو تركت تلك المجتمعات بلا راع وسط ضباب كثيف من الحاجات والغرائز الدفينة. وليس مستغربا أن يظهر من نقاد الغرب من يرى إلى التقدم التقني على أنه مجرد طلاء خادع لحضارة أرهقها التشاؤم وانعدام اليقين. ومع أن من رواد الفلسفة النقدية من تنبه باكرا إلى ذلك بالنقد مثل فرويد ونيتشه وأقطاب مدرسة فرانكفورت وسواهم، إلا أن تطورا جوهريا لم يحدث ليعيد الهرمنيوطيقا إلى محراب الاهتمام بالمبدأ المؤسس كمصدر أصيل لفهم حقائق الوجود.

* د. محمود حيدر باحث لبناني في الفلسفة الحديثة