سيزا قاسم رائدة «الدرس المقارن»

13 يناير 2024
13 يناير 2024

-1-

كان من المفترض أن أكمل قراءتي التحليلية لموضوعات وفصول كتاب «سيد الوقت» أحدث كتب الروائي والمبدع الكبير إبراهيم عبدالمجيد، ثم أنتقل إلى حديثٍ مفصل عن عملاق الأدب السويسري، وأستاذ الدراما المسرحية الكبير فردريش دورنمات بمناسبة ذكرى ميلاده التي تحل في شهر يناير من كل عام.

لكن جاءت وفاة الأستاذة الدكتورة سيزا قاسم (1935-2024) الناقدة الحداثية الكبيرة، والمنظرة الأدبية الرصينة، وإحدى رائدات الدرس المقارن في الثقافة العربية منذ سبعينات القرن الماضي، وأستاذة الأدب العربي الحديث بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، لتقطع هذا التسلسل، ونرجئ الكتابة عن الموضوعات المقررة لتوديع الناقدة الراحلة بما يليق بدورها «الريادي» و«التأصيلي» المهم في الثقافة العربية، والنقد العربي في العقود الخمسة الأخيرة.

-2-ولعل مكانة وقيمة سيزا قاسم الكبيرة والمحترمة في تاريخ «النقد العربي المعاصر» تعود إلى عدة عوامل؛ لعل أهمها أنها مثلت نموذجًا ناضجا ومتطورا بل فريدًا من أستاذتها الأشهر في تاريخ الجامعة المصرية في القرن العشرين، الدكتورة سهير القلماوي التي كانت بدورها تلميذة لأشهر وأكبر وأهم مثقف مصري وعربي في القرن العشرين، الدكتور طه حسين.

ومن ذلك أيضًا ريادتها غير المنكورة في تأسيس منهج و«نظرية» للدرس المقارن في نقدنا المكتوب بالعربية؛ على المستوى النصي «التحليلي» كما فعلت في دراستها الرائدة «بناء الرواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ»، وعلى المستوى النقدي «تحليل الخطاب النقدي» في القراءات العميقة التي قدمتها للمناهج النقدية الحديثة، وعلى مستوى تأصيل العلوم الحديثة، باشتراكها مع المرحوم الدكتور نصر أبو زيد في تعريف القارئ العربي بعلم العلامات أو «علم السيميوطيقا» بترجمة أهم مقالاته ودراساته المفتاحية، فضلًا على تحرير عدد من أهم الدراسات المكتوبة بالعربية في إطار التعريف به والتأسيس لحضوره والإفادة منه في اللغة والأدب والثقافة والفنون.. إلخ.

وأخيرا؛ بما قدمته الدكتورة سيزا قاسم من قراءات غاية في التميز والرؤية والتفسير للتراث العربي، ومن انطلاقها من مبدأ «الوحدة» و«البينية» التي تسم هذا التراث في كليته وشموله، وقد كانت بالفعل من بين أبرز من وعوا هذه الخصيصة البنيوية لمجمل المجالات المعرفية في التراث العربي، تالية لتأسيسات كل من جابر عصفور (في الصورة الفنية)، وعبدالحكيم راضي (في نظرية اللغة في النقد العربي)، ولحق بها نصر أبو زيد في الثمانينات من القرن الماضي (في إشكاليات القراءة وآليات التأويل).

-3-ولمقتضيات المساحة سنتوقف قليلًا أمام نموذجٍ واحد من نماذج درسها المقارن للنصوص العربية؛ وهو دراستها الممتازة عن «المفارقة في القص العربي المعاصر» متخذة من بعض نصوص كتاب الستينات المعروفين مادة للقراءة والتحليل. نشرت سيزا قاسم هذه الدراسة في صورتها الأولى في مجلة فصول (1982) ثم أعادت نشرها لاحقا ضمن فصول كتابها التطبيقي الرصين «روايات عربية - قراءة مقارنة» (آخر طبعة صدرت منه عن سلسلة كتابات نقدية، الكتاب 270، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2019).

وفي العموم تنطلق سيزا قاسم في قراءتها للنصوص العربية من مدخل مفهومي «إجرائي» إذا جاز التعبير، فهي تبحث عن عنصر «المفارقة» في عدد من النصوص الروائية العربية، وتقدم بين يدي المفهوم بتأصيل نظري شديد الوعي والرهافة (وسيكون كذلك أيضا في التطبيق أو أثناء تحليل النصوص) فإجادتها الممتازة للغتين الإنجليزية والفرنسية مكنتها من قراءة الأصول النظرية للمفهوم في سياق النقد الغربي، ومن ثم فهمه وتأصيله في النقد العربي.

وبهذا العرض المختصر لبعض المفاهيم والمنطلقات المنهجية، يتوضّح لنا، في هذه القراءات التي تقدمها، مرونتها المتجلِّية في الإصغاء إلى مكوّنات النصّ ودلالاته، قبل الولوج به إلى مدار حوارٍ نقديّ يجمع بين الدقّة والوضوح والمفاهيم الإجرائية التي تحرص على التقاط خصوصية النصّ ودلالاته الاحتمالية، كما يرصد بدقة محمد برادة في تقديمه للكتاب.

-4-تقارب سيزا قاسم النصوص التي اختارتها جماليا بالبحث عن عنصر المفارقة باعتباره عنصرا مهيمنا على سائر عناصر البنية السردية، ثم تأتي مرحلة «المقارنة» التي تبرز فيها قدرات وثقافة سيزا قاسم ووعيها النقدي الممتاز بالنصوص الأجنبية التي ستقارن بينها، وبين النصوص العربية التي حللتها سابقًا، حيث يضطلع عنصر «المقارنة»، سواء بين روايات عربية (عربية-عربية) أو بينها وبين أخرى أجنبية (عربية-أجنبية)، بدَوْر المحرك لحثِّ القارئ حتى يتباعد عن إطار النصّ، ويربطه بإيحاءاتٍ أخرى تمتزج بنصوص غائبة، وبما يَختزنه اللا وعي، وتصوغه أقلامٌ تنتمي إلى ثقافات مغايرة في الزمان، وفي المكان.

وهنا بالضبط مكمن الاقتدار والانفراد الذي ميز سيزا قاسم عبر مشوارها النقدي كله منذ سجلت لأطروحة الماجستير حول كتاب طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي (تحليل ومقارنة) ومن بعدها في كتابها التأسيسي «بناء الرواية دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ».

وهذا الكتاب وحده «بناء الرواية» يستحق قراءة (بل قراءات مفصلة) لكشف جوانب الاقتدار في إجراء المقارنة بين نص روائي بقيمة وحجم ومكانة الثلاثية في الرواية العربية، وبين نصوص راسخة في الرواية الأوروبية مثل نصوص بلزاك وفلوبير ومارسيل بروست (الفرنسيين)، وجالزورثي (البريطاني)..

فيما يعتبر ناقد قدير بقيمة الدكتور صبري حافظ أن «تميُّزها النقدي، وحساسيَّتها الأدبيّة تتكشَّفان لنا من خلال التحليل النصّي الذي يضع النصّ الأدبي في بؤرة الاهتمام، لكنه يقارنه -باستمرار- بالنصوص المرجعية الغربية الأخرى للكتّاب الأربعة الكبار (بلزاك، وفلوبير، وبروست، وجالزورثي) ويبقيها -برغم أهمِّيّتها- كنصوص كبرى في خلفيّة التحليل، وكأنه ينتصر للكاتب العربي الكبير (نجيب محفوظ)، ويكشف لنا عن أنه لا يقلّ أهمية عن هؤلاء الكُتّاب العظام».

ولا شكّ في أن القراءة النقدية، عند سيزا قاسم، كما يرى الناقد المغربي الكبير محمد برادة، تَسْتند إلى مفهومٍ للأدب يتَّسم بالرحابة، ولا يتحدَّد بالمعايير والتعريفات الأجناسية الثابتة. واللّغة، عندها، أساسية في الصوغ الأدبي.

ورغم أنها تمتح من الواقع، فقد تأتي -في بعض النصوص- سابقة للواقع، ومتَّصلة أكثر باللاوعي وبالاستيهامات ومتاهات الذاكرة. لكن أدبية النصّ، في كلّ الأحوال، تتخلّق عبر التشكيل والعلائق بين مختلف المكوّنات: التناصّ، والمفارقة اللفظية، والصياغة الأسطورية، وتعدُّد الأصوات واللغات، وتفاعل التجربة والأبعاد المعرفية.. إلخ.

-5-تتوقف سيزا قاسم عند نص جمال الغيطاني الأخير «حكايات هائمة»، وتقدم له واحدة من أعمق وأثرى القراءات تحت عنوان «الإبحار في ذاكرة الغيطاني» وهذه القراءة نموذج لما يمكن أن نسميه الإبحار في محيط التراث وكشف العلائق المضمرة تحت نسيج النص، فهي تبحث عما وراء نص الغيطاني في علاقته بالتراث وقد كان من أكبر المتجهين للتراث للنهل منه واستلهامه في إبداع لغة جديدة ونسج جماليات روائية جديدة تستند إلى أصول تراثية.

فحكايات الغيطاني الهائمة تبحث، فيما ترى سيزا قاسم، عن مستقر تأوي إليه في القارئ نفسه؛ بينما تهيم عبر الأمكنة والأزمنة. ممتزجة ببعضها. من الفراعنة حتى كومبيوتر ستيف جوبز، بخيوط عنكبوتية في دقتها وصلابتها. تتطلق من مصدر لا شكل له ولا حجم، مصدر حار فيه العلماء منذ باكورة التاريخ، مصدر اسمه «الذاكرة». وترى سيزا أن الغيطاني قد قدم في هذا الكتاب مخزون سبعين عاما من ذاكرته. ولا يبدو أنه رجع إلى أي مما قرأ، وهو يقص علينا هذه الحكايات. مثله مثل قدامى «الحكواتية» الذين كانوا ينشدوننا السير والملاحم من آلاف الأبيات، دون اللجوء إلى كتب أو لفافات يربأون بها ثقوب النسيان.

تشع «حكايات» الغيطاني بثقافة مترامية. ثقافة من نوع خاص حيث إن ما قرأه الغيطاني لا يأتي في هذا الكتاب على شكل استشهادات أو مقتطفات من الكتب، بل تداخلت الكتب في نسيج وجدانه فأصبحت ملكا له يطوعها، لا في شكل استنساخ ولكن في شكل خلايا حية سرت سريان الدم في عروقه...