yousef
yousef
أعمدة

النيل: عبقرية نهر

24 فبراير 2017
24 فبراير 2017

يوسف القعيد -

في البدء كان النيل.

تقول الأساطير القديمة: إن البحر المالح كان يصل إلى أول الصعيد. مكان القاهرة الآن. ثم تراجع البحر أمام جبروت وخيرات النهر. ومن هذا التراجع تكونت الدلتا الحالية. ولكن المهم في هذه الحقيقة أو الأسطورة أن نقطة اللقاء القديمة بين البحر والنهر. هي المكان الذي توجد عنده الآن مدينة القاهرة. ابنة النهر ورمزه الباقي.

القاهرة ليست فقط أضخم وأشهر وأكبر مدينة يمر عليها النهر في رحلته من المنبع إلى المصب. ولكنها أيضا - علاوة على ذلك - المدينة التي أوجدت للنهر أساطيره الجميلة وحكاياته العذبة. فهي المدينة التي قررت في قديمة الزمان وسالف العصر والأوان أن تهدى النهر عروساً، هي أجمل نباتها البكر، كل عام. وهى المدينة التي كانت تقيم له صلاة استسقاء كل سنة. وفيها مجرى لعيونه ومقاسا لمياهه.

القاهرة أيضا كانت عاصمة العقل العربي والإسلامي منذ البدايات، ونتمنى أن نقول حتى الآن. ولذلك فإن المدينة والنهر معا كانا قبلة للشعراء والكتاب والمؤرخين والرحالة من كل مكان في الدنيا. لدرجة أن النهر أصبح دلالة الزيارة. وسبب العودة لها مرة أخرى. وهناك عبارة كتبها كل غريب أتى إلى مصر. لدرجة أنها أصبحت من الأمثلة التي تضرب. فكل من جاء إلى أحضان مصر. وشاهد النيل. بدلا من أن يقول له الوداع. فهو يقول إلى اللقاء وشعاره في ذلك أن من يشرب من ماء النيل لا بد وأن يعود إليه مرة أخرى.

ولكل مدينة في العالم نهرها الخاص. ولكل دولة. النهر الذي تتجمع حوله حضارتها. ولكن يبقى النيل فريدا بين كل هذه الأنهار. وتصبح علاقته بالقاهرة علاقة غير قابلة للتكرار.

فى روسيا نهر الفولجا، ولكن تبقى محاولة تدخل السوفييت «الروس الآن» لاستغلال مياهه بالسدود، والخبرة العلمية التي أدت إلى إقامة السدود والقناطر. وهى المحاولة التي أفسدت الكثير من تلقائية النهر وطبيعته. ومن يذهب إلى هناك ويشاهد الفولجا ويراه رؤيا العين لا بد أن يطل على النيل متسائلاً. ولكن أين الفولجا من جبروت النيل وعظمته؟.

الدانوب من الأنهار التي خلدها الفن الأوروبي. وهو يبدأ من رومانيا ويصل إلى النمسا. وهو نهر عظيم ولكنه أقل عظمة من النيل. وهو جميل ولكنه أقل جمالا من النيل.

وعندما كنا في المدارس على مقاعد الدراسة كانوا يقولون لنا: إن نهر النيل هو ثاني أنهار الدنيا طولا. وإن النهر الأول هو الميسيسيبي في أمريكا. ولكن يبقى النيل رحيما بأهله وناسه. لم يحدث أبدا أن اقتلع فيضانه المدن والقرى. وحمل كل هذا الدمار إلى الأماكن التي يمر منها. وحتى هذا الفيضان النيلي أصبح الآن يسكن كتب التاريخ. لم يعد له وجود. ولكنها حكاية أخرى.

والأمازون في أمريكا الجنوبية. ومع هذا ما أكثر الفقراء حول شاطئيه. مع أن النهر دائما يهب الحياة للناس وكل ما حوله.

ونهر «درينا» في البوسنة الذي صنع كاتبا هو الروائي اليوغسلافي: إيفو أندريتش، ووصل به إلى «نوبل» بروايته الجميلة «جسر على نهر درينا». وهو الجسر الذي ربط بين عالمين. الشرق بكل روحانياته والغرب بجميع مادياته. وكان بناء هذا الجسر ملحمة تحولت إلى رواية من أجمل روايات القرن العشرين.

يبقى أشقاء النيل من العرب دجلة والفرات في العراق وارتباطهما بأهم المدن هناك. بغداد والبصرة والموصل. وبردى في الشام. الذي يحضن دمشق على طريقة أحضان العاشقين.

وتبقى علاقة النيل بالقاهرة.

فالمدينة بنيت في مكانها لأن النهر يمر من هذا المكان. بل إن كل عواصم مصر السابقة منذ الفراعنة حتى الآن كانت تبنى لكى تصبح شرفة تطل على النيل من طيبة إلى الفسطاط إلى القطائع إلى القاهرة. كلها كانت شبابيك على النهر العظيم.

والنيل يهب المدينة الحياة والنماء. والمدينة تنام في أحضانه وهي تمد الجسور عليه وتحاول أن تظلله من شمس مصر الحامية بستائر من العمارات العالية. وتحضنه بكل هذه الكباري. التي تصل ما بين شرق النهر وغربه.

وقد سمى النهر في مصر القديمة نهر الحياة. وهو من أوائل الأنهار في الدنيا كلها الذي يرتبط وجوده في الوجدان الشعبي بالحياة.

ومنذ أن حفظنا القرآن الكريم في طفولتنا البعيدة - أو التي أصبحت بعيدة - ونحن نحفظ «جنات تجرى من تحتها الأنهار». وهكذا ارتبط النهر في خيالنا. ووجداننا بالنهر لا جنة بدون نهر ولا نهر بدون جنة. والجنة هي المكان الحلم. والمكان الأمنية. وهى دائما لا تذكر إلا والنهر جزء منها.

بل إن الثلاثي الذي يذهب الحزن عن المصري: الماء والخضرة والوجه الحسن. فهذا الماء لا يكون سوى ماء نهر. ومن هذا الماء تخرج الخضرة. ومنهما معا - الماء والخضرة - يكون الوجه الحسن. ولأن الماء يصنع لنا هذه المعجزة. فلا بد أن يكون ماء النيل.

وقد ألقت القاهرة بحكاياتها على النهر. فوصلتنا أسطورة «عروس النيل». وهى ليست أسطورة بقدر ما هي تعبير عن فهم المصري الدقيق لكل ما يقدمه النهر العظيم لحياة المصريين.

وعلى امتداد مصر هناك أساطير كثيرة عن النهر. فرس النهر. خيول النيل. بل إن المصري عندما يضيق به الحال ويصل إلى طريق مسدود. يحلم أن تخرج له جنية أو نداهة من أعماق النهر. وتأخذه إلى هناك حيث يعيش ولكن بدون مشاكل أو هموم.

بل لقد وصلنا من مصر القديمة أن المصري بعد أن يموت. ويصل إلى يوم الحساب. يكون السؤال الأول له: هل لوثت مياه النيل؟ هل تبولت في مياه النيل؟ وإن كانت الإجابة بلا يدخل الجنة التي يمر من وسطها النيل. وإن كانت الإجابة بنعم يكون هناك حساب عسير. ربما وصل به إلى نار الله الموقدة.

وحتى الآن فإن الاقتراب من النيل. والسكنى في مكان يمكن الإنسان من رؤيته. يعنى الرقي الاجتماعي والتفوق الذوقي. وبعاد السكنى عن النيل. هو رحيل ولكن باتجاه قاع المدينة. لدرجة أن الإعلانات التجارية، في زماننا، تحاول استغلال النيل. فتقرأ: شقة ترى النيل وكل تميزها يصبح هو رؤية النيل فقط. حاول المصريون منذ فجر التاريخ ترويض النيل. وقد دخلت القاهرة على خط ترويض النيل. ولكن مرة واحدة في علاقتها بالنهر. محاولات المصريين ما زالت أمامنا شواهد عليها. خزان أسوان. القناطر الخيرية. ثم السد العالي. الذي يشكل واحدة من أهم معجزات القرن العشرين في مصر.

ولكن القاهرة شهدت عملية تحويل مجرى النيل في القرن الماضي. بالتحديد سنة 1863. عندما تولى حكم مصر الخديوي إسماعيل. وكانت القاهرة في ذلك الوقت نموذجا لمدينة من العصور الوسطى تطوقها الآثار وتحيط بها الأسوار وتحاصرها البوابات. ويبلغ عدد سكانها 270 ألف نسمة.

ونكمل..