المنوعات

المرأة مـتـحـفاً

12 نوفمبر 2017
12 نوفمبر 2017

ليـلى عبدالله -

اعتدنا أن الروائي التركي «أورهان باموق» يقدم لنا نسيج حكاياته الروائية على طريقة الدمى الروسية، كل دمية حافلة بمفاجآتها، كل دمية هي مرحلة، هي تأريخ ومكان، وتسير روايته «متحف البراءة» الصادرة عن دار الشروق، ترجمة «عبدالقادر عبداللي» على المنوال نفسه. أهمية الرواية – من وجهة نظري الشخصية - ليست في الأحداث ولا في الشخصيات بل في فكرة تحويل الرواية إلى متحف هي التي شغلت بالـــ «أورهان باموق» الذي يؤمن « بأن كل شيء موجود في العالم لكي يوضع في كتاب»؛ لذا الرواية الوافرة بالتفاصيل حيث تربو عدد صفحاتها 600 صفحة نسخة دار الشروق .

المتحف هنا ليس متحفًا اعتيادًا من ناحيتين:

- المحور الأول: أن المتحف هنا لا يؤرخ للإنسان العادي، بل لشخصياتها في عمل متخيّل. فقد ألفنا على فكرة أن المتاحف عادة هي لشخصيات مهمة في التاريخ من ملوك ومشاهير، أما متحف لشخصيات متخيّلة في رواية، فهذه الفكرة حقا مبتكرة وبناءة.

- المحور الثاني: في الدلالة التي يحملها فكرة المتحف، دلالة فيها نوع من الخلود، خلود إرادة البطل « كمال» لحبيبته المتوحدة «فسون» منذ تركته صارت بمثابة شيء نفيس، وظل طوال ثمانية أعوام وهو يتأملها كتحفة نادرة دون أن يجرؤ على مسّها أو حتى لقائها خارج منزلهم رغم أن الفرص كانت متاحة.

أراد باموق أن يوثق المكان كشيء مجسّد وواقعي أمامه و من اختراعه، أراد أن يوثّق مرحلة كانت لها تأثير جم في حياته وطفولته خاصة في اسطنبول في معمار، أي في متحف وقد بلغ مراده؛ ففي عام 2012م تم افتتاح المتحف، وفي عام 2014م نال المتحف شهرة عالمية حين اختاره منتدى المتاحف الأوروبية كأفضل متحف في أوروبا.

أيضا ما يميّز «أورهان باموق» في سرده هو حضوره في معظم أعماله، حضور متفاوت لكنه معني. يحضر كاسم أو كطفولة أو يضع لمحة أو تفصيلاً صغيرًا . وحضوره في رواية «متحف البراءة» جاء في موضعين أيضا، في أول فصول الرواية أثناء خطبة «كمال» على خطيبته « سيبيل»، وفي أثناء ذلك وقع معجبًا لعشيقته «فسون» التي اقترب منها مقدمًا اسمه ككاتب صريحًا، وقد حضر ذكر أسرته أيضا في الحفل المقام في الهيلتون، ثم تراءى خلف الأحداث والأعوام التي مرت في الرواية ليظهر «أورهان باموق» بصفته كاتبًا يستعين به بطل الرواية «كمال» ليكتب له حكاية عشيقته.

وأيضا أسرته لم تسلم عن ألاعيبه السردية لاسيما في روايته «اسمي أحمر» وروايات أخرى متفرقة، غير أن حضورهم في رواية «متحف البراءة» انطبع بواقعية، فهم ينتمون للطبقة التي حكى عنها «باموق» في روايته، وقد عاشوا في الحي نفسه، و تقلّبوا في الأحداث الاجتماعية نفسها أيضا.

باموق الذي لا يكف عن الحديث عن صلته المتوترة بأخيه «شوكت» في معظم رواياته تتمظهر هذه العلاقة التنافسية بشراسة، وقد اعترف مرة في حوار له عن أسباب اضطراب هذه الصلة الأخوية بينهما «في المجتمعات الأبوية كمجتمعنا يضع الولد الذكر الأول القواعد كلها، ويقترح القوانين ولا يبقى شيء للثاني، يبقى له اللعب والتخيّل». أما حديثه عن أبيه كان يأتي مغلفًا بحميمية، وفي كتابه «ألوان أخرى» نشر خطبته النوبلية التي كانت بعنوان «حقيبة أبي» مستذكرًاً حديثًا فائضًا بالعرفان و المحبة من الابن لأبيه.

حديث باموق عن الرجال في رواياته سواء أبطال الرواية أو الشخصيات المتوارية خلف الأحداث الرئيسية يأتي عادة حديثًا واعيًا، لكن حديثه عن المرأة يبدو كما لو أنه يحدّثها تحت غشاوة، وهو الذي اعترف بنفسه أنه يجد صعوبة بإقامة علاقة مع فتاة قائلا :«بدأت الكتابة لأتمكن من إقامة علاقات مع الفتيات». المرأة الوحيدة التي وقفت معه هي زوجته «آيلين» التي أنجب منها طفلته «رؤيا» وتطلقا بعد ذلك.

ربما لهذا علاقة أبطال رواياته مع النساء تغدو متوترة على الدوام، إما أن يقع في حب فتاة لا تكون له أو يتورط عاطفيًّا بامرأة متزوجة تكون لغيره، لكن هوس البطل وصل أقصاه في رواية «متحف البراءة»؛ ففي هذه الرواية حوّل المرأة إلى «متحف» كما يريدها. امرأة من القرن الماضي في أوج فتنتها في أحب مرحلة في حياته و أكثرها تأثيرًا زمن الستينات.

رواية «متحف البراءة» للروائي التركي «أورهان باموق» هو سبر في تفاصيل الشخصيات و انغماس معها لدرجة الهوس، هوس وصل حده بتجسيدها واقعيًّا في متحف يلملم الذكريات بل حتى أدق ما يمكن تصوّره من تفاصيل جسدية وحسّية، تحفّز شهيّة القارئ على زيارة المتحف الكائن في اسطنبول في الضفة الأوروبية للبوسفور في أقرب فرصة سانحة «ومن أراد رؤية المتحف فليصطحب معه الرواية» .