أعمدة

نوافـذ :المجالس.. أحاديث وتعليقات

20 أكتوبر 2017
20 أكتوبر 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تضمنا يوميا المجالس المختلفة، مع أسرنا، مع أصدقائنا، مع زملائنا، مع أناس كثير في المجالس العامة، والمجالس الرسمية، وفي كل هذه المجالس؛ صغرت أم كبرت يتبادل الجالسون الكثير من الأحاديث الهزلية والجادة، المحملة بالمعرفة؛ والناقلة للنكات والتندر، وفي كل هذه المجالس أيضا يتبارى أصحاب المبادرات اللفظية، بعضهم عن معرفة، واستحضار للذاكرة القوية، وبعضهم تكون أحاديثه كيفما اتفق، وتنفض المجالس وتبقى الكلمات التي يتوزع صداها عبر دهاليز الأنفس، فهناك المستفيد، وهناك المتضرر، وهناك «الخارج من المولد بلا حمص» حسب تعبير إخواننا المصريين، وقس على ذلك الكثير من المواقف التي توصل البعض إلى التشابك، وتوصل البعض إلى إقامة علاقات تضل رصيدا اجتماعيا وإنسانيا لزمن بعيد.

يقينا؛ الحديث في المجالس صغرت أو كبرت؛ تحتاج إلى كثير من الحكمة، وإلى كثير من التروي، وإلى كثير من الذخيرة المعرفية، وإلى كثير من القدرة على استحضار المعلومة أو الرد في الوقت المناسب؛ وما يتناسب مع مناسبة الحديث، وإلا أوقع الواحد نفسه في مأزق السخرية والاستهزاء إن هو غرد بعيدا عن ذلك، لأنه كما يقال دائما: «مقتل الرجل بين فكيه» ومما قرأت ما يشير إلى هذا الجانب موقفا عن «أبي العلاء المعري»، فيقال: «دخل يوما أبو العلاء المعريّ على الشريف الرضيّ، فعثر برجل فقال الرجل: مَن هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما» – انتهى النص – فهذا الاستحضار القوي عند أبي العلاء المعري؛ قليل من الناس من يجيده، ولذلك هناك أناس كثيرون يتلعثمون عندما يحاصرهم المتحدث المتمكن من نفسه في مثل هذه المواقف، وبمثل هذه الصدامية المباشرة والقاتلة في نفس الوقت.

ويروى عن الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – انه كان يلقي الدرس اليومي بعد صلاة الفجر، وكان الحديث عن حكم الصلاة بعد طلوع الشمس، فيقال: اقترب رجل ذو هيبة ووقار من مجلس الإمام ليسأل، فما كان من الإمام إلا أن جلس القرفصاء، معتدلا عن جلسته أثناء الشرح احتراما للرجل، فكان سؤال هذا الرجل عن حكم صلاة الفجر قبل طلوع الشمس، وهو سؤال بديهي لا يحتاج إلى تفسير، فصلاة الفجر هي قبل طلوع الشمس عادة، فما كان من الإمام إلا أن رجع إلى هيئته السابقة، وقال قولته المشهورة: «آن لابي حنيفة أن يمد رجليه».

طبعا الأحاديث كثيرة والمواقف التي تعبر عن بساطة الجلاس الذين يقعون في مواقف مخيبة، أو صادمة، أو مقزمة، أو فاضحة؛ بعضها؛ أكثر من أن تعد عن الخاصة والعامة، وكتب التراث مليئة بمثلها، ومع ذلك لا يزال جلاس المجالس يقعون في نفس الشرك، ويكررون نفس الأخطاء، وإن كانت اليوم بدأت تقل هذه المواقف، لأن المجالس لم تعد كما كانت بزخمها وقوتها، وأهميتها، حيث تقتصر اليوم على المناسبات – وأعني هنا المجالس العامة – ولكن مع ذلك حتى مع قلة مرتاديها لا تزال تسجل مثل هذه الإخفاقات عند كثير من الناس.

والمهم هنا أيضا؛ الإشارة إلى أن هناك أناسا، لا يحسدون، على سلاطة ألسنتهم، وهم «المتخصصون» إن يجوز الوصف، في رمي التعليقات الثقيلة، والـ «سخيفة» بعضها، فتوقع الطرف الآخر في حرج شديد، وقد تسبب له ألما نفسيا جارحا، خاصة إن كان هذا الطرف من الناس البسطاء معرفة، وحنكة وخبرة في الحياة، فيقعون فريسة على مسامع الناس، من جراء هذه التعليقات المتعبة؛ حقيقة؛ ولذلك كثيرا ما يتوارون هربا، وقد يتشابكون مع خصمهم في مواجهة لرد الاعتبار، ومن هنا يأتي الأمر الرباني الكريم (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم «...» ) – الآيتان 11 و 12 من سورة الحجرات.