أفكار وآراء

رفع الحصار.. ضرورة لمصالحة فلسطينية مستدامة

23 سبتمبر 2017
23 سبتمبر 2017

د. عبدالعاطي محمد -

مع كل مناسبة يتجدد فيها الحديث عن المصالحة الفلسطينية تتداخل مؤشرات التفاؤل والتشاؤم وتختلط الأوراق بما يجعل المصالحة تراوح مكانها.

وبما أن الانقسام الفلسطيني لا يستقيم مع استمرار تردي الأوضاع الإنسانية في القطاع، لم يعد أبناؤه يتحملون المزيد من الصبر على الوعود، ولا على تردي الأوضاع، ثم يستغيثون بإنهاء الانقسام اليوم وليس غدا، باعتبار أنه بات ضرورة قصوى لإنهاء الحصار، مثلما هو ضرورة للمصالحة السياسية.

قبيل انطلاق أحدث جولات المصالحة، أطلق رجال الأعمال في غزة نداء لكل من السلطة وفتح وحماس وبقية الفصائل وصف بأنه نداء الاستغاثة الأخير قالوا فيه إنهم يرفعون الصوت عاليا ويطالبون هؤلاء جميعا لمرة واحدة وأخيرة بإنجاز المصالحة وإغلاق هذا «الملف الأسود». ولتوضيح خطورة التداعيات المستمرة منذ 2007 أشار بيان جمعية رجال الأعمال في غزة إلى أن استمرار الانقسام ينذر بتداعي النسيج الاجتماعي، وتوقف عجلة الحياة، ووصفوا ذلك بأنه جريمة يتحمل مسؤوليتها كل الساسة الفلسطينيين. وقالوا إن الاقتصاد قد انهار ودمرت مصانعنا وأغلقت الأبواب في وجه شبابنا الذي بات حلمه الهجرة من وطنهم. وزادوا في التعبير عن الغضب من استمرار تدهور الأحوال المعيشية بقولهم «لم يعد شعبنا قادرا على تحمل تبعات الانقسام يوما واحدا ، فقد باتت غزة مقبرة لمليون إنسان ضاقت بهم السبل، وآن الأوان أن يمد الجميع أياديهم لنغادر مربع الكارثة التي تحدق بنا من كل جانب». ووجه رجال الأعمال انتقادات لاذعة لهؤلاء لأنهم أشبعوا الفلسطينيين بشعارات عن الوحدة بينما مصالحهم وتحالفاتهم وارتباطاتهم كلها تؤسس لانقسام دائم و انفصال لا رجعة فيه، وذلك على حد تعبير من أصدروا هذا البيان.

هذه الصورة المفجعة التي شخص بها رجال الأعمال الفلسطينيون الوضع الراهن بعد نحو 11 عاما من الانقسام، هي المدخل الذي يمكن من خلاله تفسير التحرك المفاجئ الذي دب في شرايين عملية المصالحة التي فشلت مرارا من قبل، وإن كان لكل طرف معني به قراءته وأهدافه الخاصة، ودون أن نفصل هذا التحرك عن الظروف الإقليمية والدولية المحيطة فهي بدورها تكشف جانبا مما وراء الأكمة!

حتى وقت قريب كان الطرف المسؤول الأول عن الحصار الذي فرض على القطاع هو إسرائيل، وهذا أمر لا ينفيه أحد بمن فيه الإسرائيليون أنفسهم، فهم الذين فرضوه رسميا ردا على هجمات المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس، ورفضوا مرارا وتكرارا كل الجهود والمبادرات الإقليمية والدولية لرفعه عن أبناء القطاع، ولم يهتموا بضغوط السلطة الفلسطينية ذاتها شريكتهم في عملية السلام ووضعوها بذلك في موقف محرج أمام الشعب الفلسطيني في غزة. ثم جاء وقت ساد فيه الحديث عن عودة جولات الحوار بخصوص المصالحة بوصف ذلك أنه يؤدي تلقائيا إلى دعم جهود بقية الأطراف المعنية لإنهاء الحصار. ولكن قفزت على السطح الخلافات الجوهرية بين السلطة أو فتح من جانب وحماس من جانب آخر حول إدارة القطاع ولمن تكون السلطة هناك. ومع فشل الجولات السابقة الواحدة تلو الأخرى تزايدت التداعيات السلبية للحصار لسبب بسيط هو أن آليات فك الحصار تركزت أساسا في يد السلطة الفلسطينية، خصوصا فيما يتعلق بالمعابر، باعتبارها الجهة التي تتعامل معها إسرائيل كلما قررت تخفيف هذا الحصار، ومن جانبها هي التي تحقق هذه الآليات واقعيا، فضلا عن كونها الجهة التي يتعامل معها المجتمع الدولي ولا يتعامل مع حماس. وانعكس الخلاف في ملف المصالحة على دور السلطة في تخفيف الحصار على الأقل إن لم تتمكن من رفعه تماما. ووضح ذلك في سلسة من القرارات والمواقف التي ترتب عليها وقف التحويلات المالية وتخفيض رواتب موظفي السلطة في القطاع وعدم تمتع القطاع بالكهرباء (يأتي من إسرائيل) وتعطل المعابر وصعوبة الحصول على الوقود والمواد الغذائية، فضلا عن تردي الخدمات الصحية وتلك المتعلقة بالصرف الصحي الذي بات يلوث مياه البحر في منطقة القطاع. وربما كان بيان رجال الأعمال الفلسطينيين يقصد كل هذه الظروف السيئة عندما وصف غزة الآن بلفظ المقبرة.

لم يضع المتحاورون في السابق ، في اعتبارهم ، تأثير استمرار الفشل في المصالحة على الوضع الاقتصادي والإنساني عموما ، حيث حذرت كل المنظمات الدولية المعنية من تردي أوضاع القطاع إنسانيا مرارا وتكرارا دون جدوى من طرفي الخصومة الفلسطينيين. وبعد أن تحول الوضع إلى كرة من اللهب المشتعل جاء التحرك لرفع الحصار أو تخفيفه من باب العودة إلى المصالحة. ولأن الأخيرة عسيرة بما يكفي مهما كان التسابق على تقديم القراءات المتفائلة من جانب أي من الطرفين، فإن اللجوء إليها هو بالقدر الذي تسمح به حلحلة أزمة الحصار ، باعتبار أن إنهائها فورا ودون انتظار أصبح ضرورة حياة لأبناء القطاع بغض النظر عن استمرار الخلافات السياسية المتعلقة بملف المصالحة. والملفت أن إسرائيل دخلت على الخط ليس لعرقلة التحرك الجديد وإنما للمساعدة فيه! ومن بعيد لا يمكن تصور أن الولايات المتحدة غير معنية بما يجري بل ترقب النتائج وتتأمل أن تصب في إنجاح ما تحدث عنه رئيسها ترامب بخصوص الصفقة الكبرى.

حماس أرادت فتح نافذة نور لعلها تجعل السلطة تنخرط في المصالحة لكي تتسارع خطوات تخفيف الحصار أو إنهائه، وذلك عندما قالت إنها قررت إلغاء اللجنة الإدارية التي تشكلت كسلطة واقعية لتدبير شؤون القطاع بعد أحداث 2007 والقبول بحكومة وحدة وطنية ولكنها اشترطت عدم المساس بجناحها العسكري (كتائب القسام)، والهدف هو أن تتولى السلطة مسؤوليتها عن رفع المعاناة القاسية التي يعيشها أبناء القطاع. وقبل أن يتبادل الطرفان الحوار في الجولة الجديدة كانت لجنة المصالحة المجتمعية قد توصلت إلى اتفاق بخصوص تعويض عائلات ضحايا الانقسام بدفع فدية مالية لكل عائلة من عائلات 14 شخصا قتلوا آنذاك كبادرة يمكن البناء عليها لاستعادة اللحمة بين أباء القطاع، علما بأن هناك ما يصل إلى نحو 730 حالة أخرى تنتظر التعويض! ومع ذلك رحبت حماس ببداية تحقيق المصالحة المجتمعية كخطوة نحو المصالحة السياسية. وأما القاهرة التي استضافت مجددا أحدث الجولات وانفتحت في تطور لافت على حماس، فإنها حددت دورها في ثلاثة اتجاهات هي حل القضايا الإنسانية المتعلقة بالقطاع، ومتابعة حيثيات المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس، وأزمة معبر رفح والأمن على الحدود. وواضح أن سقف التحرك الجديد من وجهة المصالح المصرية منحصر في القيام بعدة خطوات عبر قناة المصالحة لتخفيف الحصار بالدرجة الأولى وتحقيق تعاون أمني مع حماس بخصوص الحدود (بدأت الحركة في إقامة حاجز من جهتها لطمأنة الجانب المصري).

إسرائيل بدأت تتحدث بلغة مختلفة عن السابق بهدف إقناع ترامب بأنها ستساعده في تحقيق مشروع بخصوص الصفقة الكبرى وإن كان لا يزال مشروعا مبهما أو غامضا، حيث بدأت تسريبات الإعلام الإسرائيلي تصب في هذا الاتجاه، أي تخفيف الحصار ورفع المعاناة الإنسانية، فهذا ما يريده ترامب لإقناع الرئيس الفلسطيني أبو مازن للعودة إلى المفاوضات مع إسرائيل. القناة العبرية الثانية أذاعت خبرا قالت فيه إن إسرائيل قررت تقديم حزمة مساعدات اقتصادية للفلسطينيين على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال اجتماع المانحين الثاني في نيويورك، وتتضمن المساعدات منطقة صناعية بالضفة ومشروع لمعالجة مياه المجاري ومشاريع تتعلق بالبنى التحتية وقطاعي المياه والكهرباء في غزة. ومن جهة أخرى ، بينما تحدث وزير الجيش الإسرائيلي أفيجور ليبرمان عن تحقيق هدوء غير مسبوق على الحدود مع غزة في الآونة الأخيرة (وهو أمر له مغزاه من حيث حرص حماس على إنهاء الحصار)، كتب كل من الجنرال احتياط جيورا أيلاند رئيس مجلس الأمن الأسبق في صحيفة يديعوت أحرونوت الاسرائيلية، وألون شوستر رئيس المجلس الإقليمي المحيط بغزة في صحيفة هاآرتس الاسرائيلية ايضا ، ما معناه أنه على إسرائيل أن تغير سياستها فيما يتعلق بعمليات تبادل الأسرى مع حماس ، لتصبح ضمن صفقة موسعة ، يكون تبادل الأسرى جزءا منها. وتتعلق الصفقة بالقضايا الإنسانية في غزة عموما، والفكرة المشتركة بينهما هي أنه ليس من مصلحة الإسرائيليين الذين يعيشون قرب حدود القطاع في حالة مزدهرة وبجانبهم على بعد مئات الأمتار جيران يعيشون حياة بائسة. هنا أهمية ما يشير إليه المسؤولان الإسرائيليان وهو أن الحصار سياسة خاطئة وإذا ما كان من حل لقضية الأسرى لدى حماس فلابد أن تمر عبر صفقة مرنة يحصل فيها كل منهما على بعض مطالبه، أي تقديم مزيد من الأسرى مقابل رفع للحصار.

من جانبه لا يمانع الرئيس عباس من عودة لحوار المصالحة ولكن بقراءته هو لما يمكن أن يتحقق بالنسبة له ، لعلاقاته مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة واستعادة السلطة كاملة في القطاع مستندا في ذلك أن بيده في نهاية المطاف التحكم في مسار فك الحصار، وتلك معادلة غير ممكنة عمليا وليست في الصالح الفلسطيني مبدئيا - حسبما يرى الكاتب - حيث لا يعقل المقايضة بين فك الحصار وتحقيق المصالحة بل أصبح كلاهما وجهان لعملة واحدة.