1112952
1112952
إشراقات

الخليلي: الهجرة النبوية حكمة من الله لجمـع شتـــات الأمة فعزّت وامتنعت وحَيَت

21 سبتمبر 2017
21 سبتمبر 2017

لم تكن أمرا هيّنا كونها كانت إلى مدينة محدودة المساحة والموارد -

دعوة الحـق إلى الخـلق انطلـق بها المسلمـون في أرجــــاء الأرض بعد الهجرة -

عرض - سيف بن سالم الفضيلي -

أكد سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام السلطنة أن عظم شأن الهجرة، وما أحدثته في هذا العالم من نتائج مثمرة أجمع المسلمون في عهد الخليفة الراشد عمر -رضي الله تعالى عنه- على أن يجعلوها ميقاتا تاريخيا لهذه الأمة، لأن الأمة ولدت بالهجرة.

وأوضح أن المسلمين كانوا قبل الهجرة أفرادًا محتقرين وأوزاعًا مشتتين، ولكن الله تبارك وتعالى أراد بهذه الهجرة أن يجمع هذا الشتات، فتكونت هذه الأمة وكانت أمة عزيزة، أمة منيعة، أمة حية، فانطلقت في أرجاء الأرض حاملة دعوة الحق إلى الخلق، وهذا يعني أن على هذه الأمة أن تعتز بهذا التاريخ وليس عدولها عنه إلى غيره إلا تنكرًا لماضيها واحتقارًا لما كان عليه سلفها، وكل أمة تحتقر ما كان عليه سلفها، وتعرض عن أمجاد ماضيها هي أمة مهينة ذليلة.

وأشار سماحته إلى أن الهجرة لم تكن أمرًا هيّنًا؛ لأنها لم تكن هجرة إلى قطر واسع الأرجاء مترامي الأطراف فيه كثير من الموارد والدخل، وإنما كانت هجرة إلى مدينة محدودة المساحة محدودة الموارد، وإذا بهؤلاء الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان يستقبلون هؤلاء المهاجرين، يستقبلون أفواج المهاجرين كما يستقبلون أفرادا قليلين ويؤوونهم في ديارهم، ويؤثرونهم على أنفسهم وعلى أولادهم.. جاء ذلك في إحدى محاضرات سماحته التي ألقاها بمناسبة ذكرى الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

حيث يشير سماحة المفتي إلى أن الحدث الذي نحيا تحت ظلالذكرياته في هذه الأيام بمناسبة انسلاخ عام هجري جديد واستقبال الأمة عامًا آخر غيره، هذا الحدث يجب علينا أن لا نمر به مرورًا سريعًا عاجلًا، وليس اكتناف عظم هذا الحدث من خلال ذكر وقائعه فحسب ولكن تتجلى عظمة هذا الحدث من خلال النظر في أبعاده، فإنه حدث هيأه الله سبحانه وتعالى لأمر أراد بعباده، والله سبحانه وتعالى يفعل في خلقه ما يشاء، فهذه الدعوة التي بعث بها رسول الله هي كدعوات سائر المرسلين من قبله تهدف إلى وصل الإنسان بربه، هذا الإنسان الذي اختاره الله سبحانه وتعالى من بين سائر مخلوقاته لأن يكون خليفة في الأرض وسيدا في الكون، وخلق له ما في الأرض جميعا وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه.

فإن حركة هذا الإنسان في الوجود وسلوكه في الحياة يترتب عليهما ما يترتب من استقامة أحوال الكون أوعدم استقامتها، إذ الإنسان بسلوكه جعله الله سبحانه وتعالى مؤثرا في أحوال هذا الوجود، فقد يفسد الوجود بفساد سلوك الإنسان وقد يصلح الوجود باستقامة أحوال الإنسان، كيف والله تبارك وتعالى يقول: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

وقال: وقد كانت دعوات المرسلين جميعا قبل رسول الله تهدف إلى إصلاح هذا الإنسان بوصله بالله سبحانه وتعالى وجعله مخلوقًا يعبد الله عز وجل كما شرع، ويطيعه كما أمر، ويخشاه كما يجب، ويرجوه كما يحق أن يرجى الله سبحانه وتعالى، فإن صلاح الإنسان لا يستقيم أبدًا إلا بصلته بربه وذلك من خلال العقيدة الصحيحة، تلكم العقيدة التي تجعل من الإنسان عبدا طائعا لله سبحانه لا يصدر في شيء من الأمور إلا عن أمر الله سبحانه وتعالى، ولا يقدم على شيء ولا يحجم عن شيء إلا بميزان حق من عند الله يزن به الأمور، فيقدم على ما يراه خيرًا وصلاحًا، ويحجم عما يراه شرًا وطلاحًا.

وهكذا كانت دعوات المرسلين، والله تبارك وتعالى يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ويقول تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، والنبي عليه أفضل الصلاة والسلام بعث بهذا المنهج الرباني على أوسع مداخله ومخارجه، بحيث كان المنهج الذي بعث به رسول الله يتناول القضايا البشرية جميعا، ويحكّم كلمة لا إله إلا الله التي تجعل الحكم لله سبحانه وتعالى في هذه الأرض، فيجب أن يطاع الله ولو أدى ذلك إلى التجرؤ على غيره، فإن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي خلق السموات والأرض، وهو الذي فطر هذا الكون، وهو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود، وهو الذي أنعم عليه بالنعم الجلّى العظيمة الظاهرة والباطنة، سواءً النعم الذاتية أو النعم الخارجية، وسواء النعم الحسية أو النعم المعنوية، فإنها جميعا من عند الله (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ).

وجود مناخ ملائم

وأوضح سماحته: وقد كان القرآن ينزل على النبي عليه أفضل الصلاة والسلام بما يقوي هذا المنهج من أول الأمر ففي القرآن المكي تجد نحو قوله سبحانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، وهذه القيم التي جاء بها رسول الله ليست نظريات تعيش في عالم المثال، وإنما هي منهج رباني يجب أن يحيا في عالم الواقع، فلذلك كان من الضرورة بمكان أن يوجد المناخ الملائم لتطبيق هذا المبدأ واتباع هذا المنهج وتحكيم هذا الشرع وإقامة هذا النظام.

ومما لا شك فيه أن الجاهلية وهي في أوج عنفوانها، وفي طغيان قوتها وجبروتها لا يمكن أن تسمح لقلة من المؤمنين مكثورة بالكثرة الكاثرة من المشركين الجاهليين أن تقيم هذا المنهج على ما يراد، بحيث تنفذ أحكام الله سبحانه وتعالى، وتطبق دينه في كل دقيقة وجليلة، بحيث لا يحتكم الناس إلا إلى منهج الله سبحانه، فمن هنا كانت الضرورة داعية وملحة إلى وجود المناخ الملائم لتطبيق هذه الدعوة، بحيث تتجسد قيم الإسلام جميعا في سلوك المسلمين بأسرهم، ويحيا المؤمنون جميعًا في ظل الأمان وفي ظل الاطمئنان يعبدون الله ولا يعصونه ويتبعون أوامره ويزدجرون عن نواهيه، ويقيمون العلاقات المختلفة بينهم على أسس متينة من هذا الدين الحنيف وتعاليمه الحقة الربانية.

والإسلام جاء ليكتسح بتياره الهادر كل الحياة الجاهلية سواء ما يتعلق منها بالسلوك والأخلاق، أو ما يتعلق منها بالتعامل بين الناس سواء كان هذا التعامل في إطار الشؤون الاقتصادية أو الشؤون الاجتماعية أو غيرها، جاء الإسلام بمنهج متكامل يتنافى كل التنافي مع منهج الجاهلية الذي كان سائدًا في ذلك الوقت، والذي كان مطبقًا في جميع الأرض وإن اختلفت مشاربه وتنوعت ألوانه، فإنه بأسره منهج جاهلي لا يمكن أن يستثنى منه شيء، إذ لم يكن الحكم في ذلك الوقت في جميع أرجاء الأرض إلا لهذا المنهج الجاهلي، وطرق الشر مختلفة، وللخير طريق واحد كما قال عز من قائل: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) فكل ما كان سائدًا في الأرض يومئذ من مناهج الحياة البشرية إنما هي سبل جاهلية طاغوتية مخالفة لمنهج الله سبحانه وتعالى الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.

رسالة ليست عنصرية

ويضيف: ثم من الناحية الأخرى فإن هذه الرسالة رسالة عالمية ليست رسالة عنصرية، ولا رسالة إقليمية ولا رسالة جنسية، وإنما هي رسالة عالمية تشمل جميع البشر، والله تبارك وتعالى يقول في بعض السور المكية (وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) ففي هذا إيذان بأن هذه الرسالة ليست رسالة محلية، وإنما هي رسالة عالمية، فلا بد من أن تكتسح الضلالات في كل مكان، ومعنى ذلك أنه لا بد من وجود قاعدة لها تنطلق منها وهذا أمر يستدعي إلى أن تكون هذه القاعدة تجمع شتاتا من البشر قد تكون أجناسهم مختلفة، وألوانهم متعددة، ولكن تجمعهم العقيدة الواحدة، فإن الرباط ما بين هذه الأمة ليس هو رباط أرض، وليس هو رباط لون وليس هو رباط جنس وليس هو رباط قومية، وإنما هو رباط عقيدة، هذه العقيدة تسوي بينهم جميعاً، فلا فرق بين أبيض وأسود وأحمر، ولا فرق بين قوي وضعيف، ولا فرق بين حاكم ومحكوم، ولا فرق بين بعيد وقريب، وإنما القرب والبعد بحسب امتثال أمر الله سبحانه وتعالى واتباع منهجه أو الابتعاد عن ذلك، فالناس يتفاوت قربهم وبعدهم بحسب تفاوتهم في طاعة الله تبارك وتعالى، وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يهيأ المسلمين لهذا الأمر بحيث تجمعهم قاعدة واحدة، هذه القاعدة ينطلقون منها في أرجاء الأرض بعدما تذوب جميع الفوارق التي بينهم، فلا تكون صلة أحد بغيره إلا صلة العقيدة، ولا تكون المودة بينهم إلا مودة في ذات الله سبحانه وتعالى، ومن أجل ذلك هيأ الله تبارك وتعالى أن يجتمع في هذه القاعدة العربي والحبشي والفارسي وغيرهم من الأجناس التي ذوَّبت العقيدة الفوارق التي كانت بينهم وجعلتهم أمة واحدة .

ثم إن العرب أنفسهم كانوا أهل ثارات وعداوات؛ وقد تأججت نار الخصام بينهم، وصار التعدي فيما بينهم أمرًا مألوفًا، فلا حياة إلا للقوي، أما الضعيف فإنه معرّض للتلف في أي وقت من الأوقات بسبب سيادة قانون الغاب، فلا شريعة تحكم بينهم، ولا نظام ينصف أحدا منهم الآخر، ينصف المظلوم من الظالم، إنما الناس مع القوي، فمن كان قويا كان هو الأولى بالحياة حسب ميزان الناس في ذلك الوقت.

وكانت هذه العداوات مستحكمة في نفوسهم حتى أن الآباء والأجداد يورّثونه أولادهم وحفدتهم فترى الصغير ينشأ على هذه الكره وعلى الحقد وعلى هذه العداوة وعلى هذه البغضاء وعلى حب الانتقام من الغير، ويجعلون سفك الدماء ونهب الأموال واستباحة الحرمات من أكبر المفاخر التي يسجلونها في أدبهم الشعري والنثري وينشدونها في مجامعهم ونواديهم، لأنهم ليس لهم ميزان يفرق بين حق وباطل وبين هوىً وضلال، فقد عميت أبصارهم وبصائرهم وانطمست أفكارهم فلا يكادون يميزون بين ما هو مستحسن وغير مستحسن، لأن فطرهم تعفّنت وطبائعهم فسدت، وهكذا كان الشأن فيما بينهم .

وقد استحكمت هذه العداوات وسيطرت على عقولهم وعلى قلوبهم وعلى أفكارهم وعلى وجدانهم، كما يعلم ذلك من خلال مطالعة سيرتهم، وقراءة أدبهم؛ والأنصار -الذين هيأهم الله سبحانه وتعالى لنصرة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام وإيوائه، وإيواء إخوانهم في العقيدة المهاجرين، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا - قد أخذوا بحظ وافر من هذه العداوات، فكان الصراع ما بين طائفتي الأوس والخزرج منهم صراعا مستحكما، والله تبارك وتعالى ينبئنا أنه بقدرته وحده هو الذي قضى على هذا الصراع وأتلف هذه العداوات التي كانت بينهم، فالله تبارك وتعالى يقول ممتنا على نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) فالله أصدق القائلين يخبر نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام بأنه لو أنفق ما في الأرض جميعا ما ألف بين قلوب هؤلاء الناس الذين استحكمت العداوات بينهم، فالحروب الطاحنة قد أتت على الأخضر واليابس من ثرواتهم، وأتلفت الوالد والوليد من نسلهم، وملأت صدورهم بالأحقاد، ولكن الله تبارك وتعالى غالب على أمره، فإذا بهذه القلوب المتنافرة تعود إلى التآلف وإذا بهذه البغضاء تتلاشى وتنغسل من هذه الصدور وتحل محلها المودة في ذات الله تبارك وتعالى فتآلفت هذه القلوب على حب الله.

ثم إن المهاجرين والأنصار أيضا تآلفوا تآلفا عجيبا، واستعلوا على كل الطبائع التي جبلت عليها النفوس البشرية من حب النفس والاستئثار، فإن الله تبارك وتعالى جعل هذه الهجرة ابتداءً من هذه النفوس، فالمهاجرون خرجوا من ديارهم وأموالهم وخرجوا من أولادهم وأهليهم، وتركوا مسارح أحلامهم ومناشئ طفولتهم إلى دار لم يألفوها ولم يسكنوها من قبل، والله تبارك وتعالى يخبر عنهم بقوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

محمدة مخلدة

وبيّن سماحته أن الهجرة لم تكن أمرًا هينا لأنها لم تكن هجرة إلى قطر واسع الأرجاء مترامي الأطراف فيه كثير من الموارد والدخل، وإنما كانت هجرة إلى مدينة محدودة المساحة محدودة الموارد، وإذا بهؤلاء الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان يستقبلون هؤلاء المهاجرين، يستقبلون أفواج المهاجرين كما يستقبلون أفرادا قليلين ويؤوونهم في ديارهم، ويؤثرونهم على أنفسهم وعلى أولادهم، والله سبحانه وتعالى يذكر لهم هذه المحمدة ويخلدها في كلامه عندما قال عز من قائل : (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

فهؤلاء الأنصار استقبلوا هذه الأفواج من المهاجرين بالحب والحنان، على أن من طبائع البشر بأن تضيق نفوس المواطنين من المهاجرين، فمن شأن البشر أن يروا أن المهاجرين الذين يأتون إلى ديارهم يقاسمونهم في خيراتهم ويشاركونهم في أرزاقهم ويضايقونهم في ديارهم، ولكن الأنصار كانوا بخلاف ذلك، كانوا يحبون هجرة المهاجرين ويحبون هؤلاء المهاجرين ويقدمونهم على أنفسهم وعلى أفلاذ أكبادهم، كانوا يؤثرونهم بالرزق ويؤثرونهم بالخير ويحبونهم من أعماق نفوسهم، بل كان الأنصاري يشطر ماله شطرين ويأتي بأخيه المهاجر ويقول له: اختر أي الشطرين هو خير لك، وإن كانت عنده زوجتان يخيره فيما بينهما ويقول: أنظر أيتهما أحب إليك لأطلقها لك.

ولكن المهاجرين -مع هذا العرض الكريم ومع حاجتهم- أهل عفة وأهل نزاهة وطهارة، كانوا يحرصون على ألا يرزؤوا إخوانهم الأنصار شيئًا من أموالهم ولا شيئًا من أهليهم، بل يحرصون على الكدح معهم مع ما يقدمه الأنصار إليهم من خير ومن فضل بتوفيق الله تبارك وتعالى، وقد أراد الله سبحانه وتعالى تصفية هذه الطبائع، طبائع أولئك المهاجرين والأنصار بما شرعه من أحكام وقتية في ذلك الوقت، فمن هذه الأحكام المؤاخاة التي كانت بين المهاجرين والأنصار، كانت بينهما مؤاخاة يترتب عليها ما يترتب من التوارث، ويترتب عليها ما يترتب من العقل وتحمل المغارم، كانت هذه المؤاخاة كمؤاخاة النسب، أراد الله تبارك وتعالى أن لا تكون الاستجابة لداعي الفطرة بإقامة العلاقات النسبية فيما بين الأقربين استجابة لداعي الجاهلية وإنما جاء ذلك استجابة لداعي الله سبحانه، فشرع أولا هذا التآخي ما بين المهاجرين والأنصار الذي يترتب عليه ما يترتب من الأحكام، وكان ذلك أمرًا وقتيًا إلى أن استقرت الأوضاع وقويت شوكة المسلمين وانمحت من الصدور تلك الأحقاد المتوارثة وتلاشت تلك العادات الجاهلية المألوفة، وتحابَّ الناس في ذات الله سبحانه وتعالى.

وعندئذ أنزل الله تبارك وتعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وفي هذا ما لا يخفى من الاستجابة لداعي الفطرة ولكن في ظل العقيدة لا في ظل مواريث الجاهلية العصبية التي لا تمت إلى العقيدة الحقة بأي صلة من الصلات.

من صميم الدين

ويؤكد سماحته: ولأجل عظم الهجرة كانت من صميم الدين ولم تكن أمرًا طافيًا على سطح حياة هذه الأمة، والله تبارك وتعالى بيّن أن الإيمان بالحق إنما يتم بالهجرة في ذلك الوقت، فقد قال عز من قائل : (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) حصر الله تبارك وتعالى المؤمنين حقا في هذا الصنف من الناس الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا، هؤلاء هم المؤمنون، فبالنسبة إلى أهل المدينة لا بد من الإيواء والنصرة، وبالنسبة إلى أهل الآفاق - أهل مكة وسائر البقاع الذين يسلمون- لا بد من الهجرة، وأما من لم يهاجر فإنه - وإن أسلم - لا تكون بينه وبين المؤمنين صلة الولاية التي تكون بين المهاجرين والأنصار، فالله سبحانه وتعالى بين أن الولاية تتوقف على الهجرة، يقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ترون أن الله سبحانه وتعالى جعل هنا الولاية منوطة بالهجرة، فإن لم تكن هناك هجرة فلا ولاية وإن آمن هذا الذي لم يهاجر ورضي أن ينضم إلى عقيدة الإسلام وأن يدين بها وأن يدين بواجباتها، وإنما لو حاول أحد فتنة هؤلاء المسلمين وصدهم عن سبيل الله كان على المسلمين أن يناصروهم، اللهم إلا إذا كان ذلك بين هؤلاء وبين طائفة بينهم وبين المؤمنين عهد وميثاق ففي هذه الحالة لا يحل للمؤمنين - بالنظر إلى ذلك الوقت - أن ينكثوا عهدهم وأن يحلوا ميثاقهم، بل عليهم أن يحافظوا على العهد والميثاق ولو كان اعتداء من أولئك على هذا الصنف من الناس وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا.

ومن أجل عظم شأن الهجرة كان غير المهاجرين من أصحاب البوادي وغيرهم لا يستحقون شيئا من الفيء والغنائم، اللهم إلا إن شاركوا المؤمنين في الحرب، فقد كان رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام عندما يأمر أميرًا على سرية أو على طائفة من المجاهدين يوصيه بأشياء، من جملة ما يوصيه به الدعوة إلى توحيد الله وإلى كلمة لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله، هذه الجملة التي هي عنوان التوحيد ودليل الانقياد لأمر الله تبارك وتعالى، فإن وافق أولئك على هذه الدعوة واستجابوا لداعيها وآمنوا بمبادئها كان على هذا الأمير أن يخبرهم بأن عليهم أن يهاجروا إلى دار الإسلام ومعقله، إلى حيث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، فإن كانت منهم استجابة فبها ونعم، وإن لم يستجيبوا أخبروا بأن شأنهم كشأن الأعراب، فلا يستحقون شيئا من الغنائم ولا شيئا من الفيء إلا إن شاركوا المسلمين في الجهاد فعندئذ يعطون نصيبهم الذي يستحقونه بسبب جهادهم .

والله سبحانه وتعالى بيّن بهذا أن طوائف الناس في ذلك الوقت كانت ثلاث، طائفة المؤمنين من المهاجرين والأنصار وهؤلاء هم الذين تكون بينهم الولاية ويكون بينهم الرباط وتكون بينهم المناصرة ويشد بعضهم أزر بعض ويفنى بعضهم في مصلحة البعض، حتى أن الواحد منهم يؤثر أخاه على نفسه ويقدمه على أهله.

وطائفة المؤمنين الذين لم يهاجروا، هؤلاء هم في عداد المؤمنين ولكن لا يستحقون هذه المناصرة التي تكون بين المؤمنين من المهاجرين والأنصار.

والطائفة الثالثة هي طائفة الذين كفروا، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) فهؤلاء لا موالاة بينهم وبين المؤمنين (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) هكذا يعزل الكافرون، ولا تكون بينهم وبين المؤمنين ولاية، فبعضهم أولياء بعض.

مشروطة بالإخلاص

والهجرة كما يقول سماحته: كانت مشروطة بالإخلاص، فإن المهاجر يجب أن تكون هجرته إلى الله ورسوله، أما هجرته إلى الله فلأجل طاعته، وإقامة منهجه ونصرة دينه والذود عن حياض هذا الدين، وأما الهجرة إلى رسوله فلأجل مناصرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وشد أزره ليبلّغ عن الله سبحانه وتعالى، وليجاهد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الله.

أما إن كانت الهجرة مشوبة بشيء من أغراض الدنيا فهي ليست متقبلة عند الله، فقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) ويعني ذلك أن الذين يهاجرون لأجل النساء اللاتي يتمكنون من نكاحهن، أو لأجل نيل غرض من أغراض الدنيا لا نصيب لهم من ثواب الهجرة إلى الله ورسوله، فإنما هجرتهم لأجل هذه الأغراض التي هاجروا من أجلها، وليس للحق من هجرتهم نصيب.

تمحيص

ويضيف: وهذه الهجرة كانت معلمًا تاريخيًا؛ لأنها ترتب عليها ما ترتب من تمحيص المؤمنين وجمع شتاتهم وتأليف قلوبهم وإذابة الفوارق بينهم واستلال السخائم والأحقاد التي ورثوها من عهودهم السابقة عندما كانوا على ملة الجاهلية، فقد انتزعت هذه الأحقاد ومحيت هذه السخائم وغسلت صدورهم من آثار ذلك تغسيلا، وترتب عليها ما ترتب بعد اجتماع الشمل وتوحيد الكلمة واتفاق الكل على الانصياع لأمر الله، والذب عن حرمات الله، ترتب على ذلك ما ترتب من الخروج في أرجاء الأرض لأجل إقامة منهج الله سبحانه وتعالى، ففتح الله تبارك وتعالى لهؤلاء المهاجرين والأنصار ما فتح من أرجاء الأرض في وقت كانوا فيه قلة لو قيسوا بالجموع الكثيرة التي واجهوها في أرجاء الأرض، فقد أذل الله تبارك وتعالى لهم الأكاسرة والقياصرة، ومكنهم من أرضهم وديارهم وأورثهم أرضهم وأموالهم، فأقاموا منهج الله تبارك وتعالى في مشارق الأرض ومغاربها، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

فمن هنا كانت الوحدة ما بين الأمة الإسلامية من أهم الأمور التي تبوّئهم ما وعد الله تبارك وتعالى به عباده المؤمنين من النصر والتمكين، فهذه الوحدة لا يمكن أن تتم إلا في ظل العبودية لله تبارك وتعالى بحيث يتجرد الناس من أهوائهم، ويتجردون من نزعاتهم ويتجردون من كل البواعث التي تبعثهم إلى التفرق والتشتت والتناحر، ويتجردون من كل غرض من أغراض الدنيا بحيث لا يكون لهم هم في هذه الحياة إلا إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهؤلاء هم الذين وعدهم تبارك وتعالى بأن ينصرهم على القوم الكافرين، فقد قال عز من قائل : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) وهؤلاء هم الذين سجل الله تبارك وتعالى لهم الوعد في سورة النور حيث قال : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

ولعظم شأن الهجرة وما أحدثته في هذا العالم من نتائج مثمرة أجمع المسلمون في عهد الخليفة الراشد عمر رضي الله تعالى عنه على أن يجعلوها ميقاتا تاريخيا لهذه الأمة؛ لأن الأمة ولدت بالهجرة، فقبل ذلك كان المسلمون أفرادا محتقرين، وأوزاعا مشتتين، ولكن الله تبارك وتعالى أراد بهذه الهجرة أن يجمع هذا الشتات، فتكونت هذه الأمة، وكانت أمة عزيزة، أمة منيعة، أمة حية، فانطلقت في أرجاء الأرض حاملة دعوة الحق إلى الخلق، وهذا يعني أن على هذه الأمة أن تعتز بهذا التاريخ، وليس عدولها عنه إلى غيره إلا تنكرا لماضيها واحتقارا لما كان عليه سلفها، وكل أمة تحتقر ما كان عليه سلفها، وتعرض عن أمجاد ماضيها هي أمة مهينة ذليلة .

فعلى الأمة الإسلامية أن تتمسك بالتاريخ الهجري وأن تجعله ميقاتا لها، بحيث تؤرخ به جميع شؤونها وجميع معاملاتها، فالله تبارك وتعالى ناط هذا التاريخ بالشهور القمرية، وقد قال في كتابه العزيز: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) فالاستمساك بهذه الشهور من الدين القيم، كيف وجميع العبادات منوطة بها، فالصيام والحج وعدد النساء وسائر العبادات كالزكاة وغيرها إنما هي منوطة بهذه الشهور القمرية لا بالشهور الشمسية التي يعول الناس عليها في تاريخهم الآن.