1107118
1107118
المنوعات

جورباتشـوف .. حياته وعصـره

12 سبتمبر 2017
12 سبتمبر 2017

ديفيد هوفمان -

ترجمة : أحمد شافعي -

قرب نهاية سيرة ميخائيل جورباتشوف الجديدة الرائعة، يصف الكاتب وليم تاوبمان الرئيس الروسي وزوجته ريسا إذ يقضيان إجازة على الطرف الجنوبي لشبه جزيرة القرم، فيسيران على الساحل قبيل أيام من انقلاب 1991 الفاشل. وكدأبهما منذ سنين كثيرة، كانت نزهاتهما تلك مخصصة لحوارات ثرية. وفي تلك المرة كانا يتناقشان: هل الزعماء السياسيون تشكلهم الشخصية أم الظروف؟ فذهبا في نقاشهما إلى أن الزعماء يمتطون التاريخ امتطاء نمر فيستخرج ذلك منهم أفضل ما فيهم. وانتهيا بحسب ما يروي عنهما تاوبمان إلى أن «المواقف ترفع الزعماء محيلة السمات التي تبدو في العادة نقاط ضعف إلى نقاط قوة».

هذا هو السؤال الجوهري بشأن جورباتشوف والتاريخ الهائل الذي صنعه. كيف تأتّى لابن فلاح في مقاطعة نائية من الاتحاد السوفييتي، وصل إلى جامعة موسكو «قرويا ساذجا»، وأصبح الزعيم الإقليمي للحزب الشيوعي، وصنيعة ليوري أندروبوف رئيس كيه جي بي، «يحتفظ على مكتبه بأعمال لينين الكاملة وقد ملأها بالحواشي»، كيف تأتّى له أن يقود الاتحاد السوفييتي إلى الهاوية، وينهي الحرب الباردة، وينتصر على الأيديولوجية الشيوعية التي انكب على دراستها في أعمال لينين؟

إجابة هذا السؤال منسوجة في صفحات هذه السيرة المضيئة. فتاوبمان ـ أستاذ العلوم السياسية الفخري بكلية أمهرست، ومؤلف سيرة نيكيتا خروتشف الحائزة على جائزة بوليتزر ـ يكرس ثلث كتابه هذا لسنوات جورباتشوف الأولى، ويبسط بمهارة فائقة النشأة المهمة التي أسهمت كثيرًا في أفعاله التالية. إذ يبين تاوبمان أن جورباتشوف في صعوده كان يستشعر شكوكا عميقة تجاه كل ما يرى، إلى أن بلغ ذروة صعوده بتوليه الرئاسة في مارس في عام 1985 فقال لريسا في نزهة أخرى لهما «إننا ببساطة لا يمكن أن نستمر في العيش على هذا النحو». كان جورباتشوف قوة وعنصرًا خفيًا من عناصر التغيير الراديكالي تسلَّل صاعدًا إلى المكتب السياسي السوفييتي المتكلس. ولكن نيته لم تكن نية التدمير. بل كان يرى أن بوسعه إنقاذ الاتحاد السوفييتي ويرد الاشتراكية إلى عظمتها التي كانت. وبين يدي تاوبمان، تظهر هذه الرحلة في قصة استثنائية لرجل وتاريخ في مباراة مصارعة متوترة، شرط النصر فيها هو الخسارة.

رأى جورباتشوف منذ شبابه الفجوة العملاقة بين شعارات الحزب الشيوعي وأوضاع الفقراء البائسة والبيئة القمعية التي تسود الحياة اليومية. كان زملاؤه في سنته الجامعية الأولى يسخرون من ذلك القروي الساذج الذي يعلق على طية صدره وسام «نظام لواء العمل الأحمر» الذي حصل عليه بعد خمسة أعوام من مساعدته أباه في إدارة حصادة جماعية عملاقة، لكن جورباتشوف كان يعلم أيضًا، وخيرا مما يعلمون، أن نظام ستالين الزراعي المشاعي كان وبالا على الريف.

لاحقًا، ومع توليه أول مناصبه الحزبية، كتب رسالة إلى زوجته المستقبلية يقول فيها إن القيادات المحلية «مثيرة للاشمئزاز» في تصرفاتهم، بما فيها من غطرسة ووقاحة ونمطية. وبوصفه زعيما حزبيا إقليميا هو الآخر، صدمه منظر قرية جوركايا بالكا النائية المؤلفة من «أكواخ مسودة وأسيجة متداعية» فتساءل «كيف يمكن هذا؟ كيف لإنسان أن يعيش هذه الحياة؟». ولاحقا انضم جورباتشوف إلى الوفد السوفييتي الزائر لتشيكوسلوفاكيا بعد أن سحقت القوات السوفييتية ربيع براج سنة 1968. في برنو أدار له عمال المصنع ظهورهم، فاستخلص من زيارته تلك درسا مفاده أن استعمال موسكو للقوة غير مجد في أي شيء. بدأ جورباتشوف يتشكك في المركزية المفرطة المتبعة في النظام السوفييتي. وفاضت عنه شكوكه أثناء زيارة إلى كندا سنة 1983، إذ طاش طيشا أكيدا أثناء نزهة في بستان، حيث أفضى ببعض من شكوكه العميقة تلك لألكسندر ياكوفليف السفير السوفييتي في كندا آنذاك. ليصبح ياكوفليف مهندس أفكار جورباتشوف في ما بعد. حمل جورباتشوف أفكاره تلك إلى السلطة كسكرتير عام ثم كرئيس مستهلًا إصلاحًا جذريًا، وماضيًا في مسالك السياسة الوعرة بمنتهى الحيطة، محاولا ألا يسيء إلى المتشددين، متلهفا على التغيير السريع والراديكالي، ومحبطا من عدم معرفته كيفية تحقيق ذلك. تاوبمان يصور جورباتشوف في صورة صاحب الرؤية عاقد العزم على «الإيغال»، بوصفه الزعيم «المصر على التفاؤل، الواثق في نفسه، والمثقف العميق» الراغب في إثبات نفسه، مثلما يصوره أيضا في صورة التدرجي المتردد المتشكك والعازف عن التحلي عن النظام السوفييتي.

ومرة بعد الأخرى، لم تؤخذ نوايا جورباتشوف الراديكالية مأخذ الجد. فحينما قال لزعماء أوروبا الشرقية سنة 1985 إنه لا يعتزم أن يفرض عليهم إملاءات موسكو ـ وهي إشارة نبعت من اشمئزازه من ربيع براج وبغضه لاستعمال القوة ـ لم يستوعبوا ما قاله. يقول تاوبمان إن زعماء حلف وارسو «ذهبوا مقتنعين بأنه لا يتخلى عنهم، بل سينقذهم من الحفر التي يحفرونها لأنفسهم». أما جورباتشوف فكان يعني ما قاله، وبعد أربع سنوات لم ينقذهم بينما وقع سور برلين وأوقعهم في طريقه. وبالمثل حينما اقترح جورباتشوف في يناير سنة 1986 تسييل جميع الأسلحة النووية بحلول نهاية القرن، كان يكرر الدعاية التي روجها السوفييت لسنين كثيرة، فاعتبرت مجرد دعاية. لكن جورباتشوف «أخذها بجدية» حسبما يقول تاوبمان وضغط على الرئيس رونالد ريجان خلال قمتهما التالية. وفعل مثل ذلك في أكتوبر في ريكجافيك. وبرغم أن الكثيرين من حاضري القمة رأوها قمة فاشلة -وأنا منهم- بسبب مأزق مبادرة الدفاع الاستراتيجية التي اقترحها ريجان، أدرك جورباتشوف أن تلك هي الخطوة الأولى على الطريق إلى كسر سباق الأسلحة النووية.

على المستوى الداخلي، عمل جورباتشوف على إنهاء النظام السوفييتي. فكان أن شهد عام 1989 تشريعًا جديدًا، وكونجرس لنواب الشعب الذين تم اختيارهم في أول انتخابات حرة نسبيا منذ الثورة البلشفية. وأمر جورباتشوف بأن يبث التلفزيون لحظات ظهور البرلمان فذهلت الأمة كلها من النقاش المفتوح والنقد العلني. ولكن تغييرات جورباتشوف الحابسة للأنفاس أطلقت جميع أنواع القوى الطاردة فخرجت عن سيطرته، ومن بين تلك القوى رغبات استقلالية قوية لدى بعض الجمهوريات السوفييتية. يبيّن تاوبمان أيضًا الأثر الموهن للمنافسة بين جورباتشوف وبوريس يلتسين. إذ يبدو بأثر رجعي أن جورباتشوف لم يتقدم بالقدر الكافي. فقد كان ينبغي أن يحل الحزب، ويتخلص من الحرس القديم، ويشرع مستقلا في إقامة دولة ديمقراطية. ولكن عزوفه عن القيام بتلك الإجراءات تركه وحيدًا على متن سفينة تغرق.

كان جوهر التعفن في النظام السوفييتي هو الاقتصاد، ولكن جورباتشوف لم يقم إلا بنصف الخطوات، ولم يستطع القفز إلى الرأسمالية، متخليًا عن خطة الخمسمائة يوم التي وضعها جريجوري يافلينسكي للتحول إلى اقتصاد السوق. وبرغم أن تاوبمان لا يتوقف كثيرًا هنا، إلا أن من أهم التغييرات في حقبة جورباتشوف، والتي لا تزال ذكراها حاضرة إلى اليوم، ذلك التغيير الذي يتمثل في التعاونيات بوصفها أولى المشاريع الخاصة التي ذاقت من خلالها عصبة يلتسين الحاكمة أول مذاق للربح.

وبرغم كل ضعفه، فقد فتح جورباتشوف طريقا إلى الديمقراطية لعشرات الملايين من البشر، وخفف من حدة حرب باردة أوقعت الكوكب كله بين شقي رحى مواجهة استمرت أربعة عقود ودمرت الشيوعية السوفييتية في الأرض ميلادها. وفي إيجاز بديع يؤكد تاوبمان أن «الاتحاد السوفييتي تفكك حينما أضعف جورباتشوف الدولة في محاولة منه لتقوية الفرد». وإذا كان نضال جورباتشوف ومنجزاته لا تلقى اليوم تقديرًا في روسيا أو جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، ولكن قد يأتي يوم يقام فيه تمثال تكريما لذلك الساذج القروي الذي صعد في لحظة فارقة من لحظات التاريخ ليضع الشمولية في قبرها.

* مدير مكتب واشنطن بوست سابقا في موسكو