الملف السياسي

ثلاثة مسارات للتطوير

21 أغسطس 2017
21 أغسطس 2017

د.صلاح ابونار -

مع نهاية أغسطس الجاري سيتم مهرجان صلالة دورته العشرين. انطلق المهرجان في مسار المسعي العماني لتحقيق تنمية مستدامة، تسعى من ضمن ما تسعى الى ايجاد اقتصاد وطني متوازن، تتراجع فيه مركزية عائدات النفط في الموارد العامة للدولة والناتج القومي الاجمالي. العائد النفطي متغير بطبيعته، ويقع الجزء الأكبر من القوى المحددة لمستواه خارج نطاق الارادة الوطنية،بحكم تغيرات السوق ، وبالتالي يتعين على أي تنمية مستدامة تقليل مستوى الاعتماد عليه، عبر الانتقال من الدخل الريعي الى دخل وطني مصدره الاساسي التنمية الزراعية والصناعية والخدمية المتوازنة المتكاملة.

قطعت عمان في مسيرتها التنمويه شوطا طويلا . في عام 1976 كانت نسبة القطاع النفطي 58.5% من الناتج القومي الاجمالي، وانخفضت عام 1995 الى 37.3%. وبالتوازي مع ذلك ارتفعت نسبة القطاعات غير النفطية، من 28.4% عام 1976، الى 54.1% عام 1995 ثم 69% عام 2009. وكان من ضمن تلك القطاعات قطاع السياحة. ووفقا لأرقام المركز القومي للاحصاء والمعلومات ، وصل عدد السياح الى 1.1 مليون عام 2005، ارتفع الى 1.5 عام 2010 ثم الى 2. 2 عام 2015 ، وفي عام 2016 وصل عددهم 2.5 مليون. وفي عام 2014 جاء 45.8% من دول الخليج العربية، و 22.6% من دول آسيوية، و19.2% من اوروبا ، و 6.2 % من الدول العربية، و 6.2% من دول اخرى. وتوزعت اسباب الوفود، بين 38.7% لزيارة الاهل والاصدقاء، و34.3% للترفيه والترويح، و34% لدواعي العمل . وعلى مدى السنوات الأربع الماضية ، استقرت حصة الترفية والترويح عند حدود 34%، وكانت 47% عام 2010 . الا ان السياحة في مجملها لم تساهم حتى الآن سوى بنسبة 2.2% من الناتج القومي الاجمالي، أي بمقدار 724.5 مليون ريال قيمة مضافة للناتج القومي. وعندما نحلل مصادرها سنجد السياحة الداخلية مسؤوله عن 79.5% منها، بينما لم يتعد نصيب السياحة الخارجية 20.5%. ومع ذلك لايمكن التقليل من حجم الانجاز المتحقق. فهو طفرة قياسا على الوضع السابق، وعلى مستوى الخبرة التاريخية بالنشاط السياحي، وعلى مستوى توفر التسهيلات السياحية. ومن شأن النظرة المقارنة لتطور الاسواق السياحية، ان تقودنا الى ان هذا المعدل يبدو طبيعيا في سياق خبرة الاسواق الناشئة. وسنجد امتدادا لنفس نمط النمو السياحي . خلال العقد الثاني من عمر مهرجان صلالة السياحي تصاعد عدد السياح الوافدين الى المهرجان بمعدلات كبيرة. بعد ان كان 262.203 عام 2010، ارتفع الى 653.000 عام 2016، اي تضاعف مرتين ونصف تقريبا. وفي عام 2016 جاء 460.345 من عمان ذاتها، والبقية من دول الخليج العربية اساسا، تليها الدول الآسيوية.أي ان مايزيد عن 70% قدموا من عمان. وحتى الآن لايزال عائده المادي محدودا ، فوفقا للأرقام الرسمية لعام 2014، لم يتعد الانفاق السياحي داخل المهرجان 41.9 مليون ريال.

وتفرض الارقام السابقة السؤال التالي: كيف يمكن استنادا الى المؤهلات الطبيعية الاستثنائية للمكان تحويل اسابيع مهرجان صلالة الى قوة لجذب اعداد أكبر من السياح الأجانب ؟ يحتاج الامر الى تفكير جماعي ، والتفكير الجماعي قد يبدأ باقتراح من طرف ما. فما هي المقترحات التي يمكن تصورها ؟ سنطرح هنا ثلاثة مقترحات للتفكير. يسعى المقترحان الاول والثاني للتفكير في كيفية تطوير قدرة المكان علي جذب السياحة الشاطئية والجبلية.

مرتكز السياحة الشاطئية هو التمتع بالشاطئ ، والانشطة المصاحبة مثل الغوص والرحلات البحرية والتزلج ورصد الاحياء المائية. وهو رصيد يتوفر في شواطئ صلاله وما حولها كأفضل ما يكون. وقد تكملها انشطة اخرى مثل الرحلات في الاماكن الطبيعية الموازية للشاطئ كالصحاري والجبال، وهو ايضا رصيد غني ومتنوع في منطقة ظفار. ولا يهتم السائح الشاطئي كثيرا بالمعالم التاريخية للبلاد التي يزورها. فهدفه الاساسي الاستمتاع باجازة داخل بيئة بحرية مميزة ، توفر له الجمال البحري والرياضات البحرية. وعنصر الرفاهية والفخامة في الخدمات الفندقية هنا، لايلعب دورا هاما الا لقطاع محدود. لايبحث هذا السائح عن الرفاهية، بل عن الكفاية والراحة والتوفر. فلايهمه فخامة غرفتة الفندقية، بل سعرها وجمالها ونظافتها وتوفر المياه والتكييف. الفخامة هنا محتمله الضرر، لأنها تكلف المنتجين السياحيين عاليا، وستضيق بالتبعية من الطلب تبعا لارتفاع التكلفة. والسياحة الشاطئية واسعة الطلب لقلة تكلفتها. فالسائح لن يتنقل من مكان لآخر ومن مدينة لأخرى، ولن يتجول كثيرا في عواصم كبرى زاخرة الاسواق لينفق كثيرا على مشترياته. هذه سياحة مكلفة، ولهذا تتركز داخل الفئات المتوسطة والميسورة. ولأن الشاطئية اقل تكلفة، فهي من المنظور الاقتصادي اكثر قدرة على الانتشار والتغلغل في الفئات محدودة الموارد. ولكن اذا ادخلنا عنصر الرغبة في مشاهدة الاثار التاريخية الكبرى، لايمكن للشاطئية منافسة التاريخية، ولكن السياحة التاريخية تظل عاجزة عن سلبها ارضها وقوة جذبها. والوجه الآخر لذلك ان الشاطئية اكثر صلاحية للدول التي لاتتمتع برصيد استثنائي من الاثار التاريخية، على منوال اليونان وايطاليا. وأيضا للدول التي ليس لها تاريخ عريق في النشاط السياحي، لأنها لاتحتاج لبنى سياحية تحتية واسعة وكثيفة ومتنوعة، كما هوحال التاريخية.

والسياحة الجبلية هي أساسا سياحة تجوال عبر جبال شاهقة خضراء ومتنوعة ، تجوال مصحوب بإقامة عابرة في مناطق معينة عبر المآوي السياحية او المجتمعات المحلية او التخييم. وتزخر ظفار بجبال من افضل الجبال صلاحية للسياحة الجبلية الشاهقة ومتفاوتة الارتفاعات ، فهي عامرة بالخضرة ومجاري المياه والعيون ، معتدلة المناخ، وتتخللها وديان تتناثر فيها المجتمعات المحلية ، وتنتشر فيها انواع مختلفة من الحيوانات والطيور. ولكن السياحة الجبلية لاتتأسس علي الطبيعة فقط . فلا بد لها من مراكز ايواء للصاعدين للجبل، تتنوع بين المنتجعات البسيطة والمجتمعات المحلية المهيأة لذلك ومراكز للتخييم . ولابد لها ايضا من حد ادنى من الطرق السالكة والممهدة، وشبكة اتصال مرنة وقدرات رسمية على النجدة والاسعاف. ولايقل عن ذلك أهمية اعداد المجتمعات المحلية للتفاعل والتعاون مع الصاعدين . فلا بد من اعداد تلك المجتمعات لكي تصبح بيئة حاضنة للزوار، قادرة على التعامل معهم، وراغبة في أن تفتح أمامهم افاق المكان الطبيعية والاجتماعية. بيئة ليست بدائية وفقيرة ومرهقة، لكنها أيضا لايجب أن تكون حديثة ومصطنعة، أي محض واجهة للابهار. وسواء بالنسبة للسياحة الجبلية او السياحة الشاطئية، يجب توافر عدة شروط اذا أردنا لهما الانطلاق الناجح .

الأول: التحليل المتأني لامكانيات الجذب السياحي للمكان . لايكفي ادراكنا لجمال المكان ومزاياه، فلا بد أن يكون هذا من منظور مقارن، ادراك مزايا المكان عبر مقارنة موضوعية بالأماكن الأخرى ذات التاريخ والاقبال السياحي، مثل شواطئ البحر الأحمر وجبال المغرب والجزائر. التحليل المقارن هو مدخل الوعي بالميزة النوعية للمكان، وبالتالي رصد حجم الطلب المحتمل أو المتوقع.

والثاني: اعطاء عملية التسويق السياحي حقها. التسويق ليس مجرد اعلام جذاب وصور براقة، فتلك هي الواجهة فقط ومقدمة القطار وليست محركه. مرتكز التسويق الحقيقي هو دراسة سوق الطلب والتفضيلات الاساسية داخله، والمراكز الاجتماعية الحالية والمستقبلية لتوطن تلك التفضيلات، والقدرة على التجاوب مع ذلك عبر تفكير مبدع قادر على طرح العروض المغرية. وتقدم لنا تجربة التسويق في البحر الاحمر نموذجا جيدا للدراسة، فلقد ركزت على الفئات الاجتماعية المتوسطة في روسيا وشرق اوروبا، وطرحت خدمة سياحية رخيصة جدا فيما يتعلق بتكلفة النقل والايواء والطعام، تتمتع بها فقط الافواج الكبيرة ، لكنها اعتمدت في الربح الواسع على سلسلة من الانشطة الموازية تدر عليها دخلا كبيرا.

والثالث: تبني رؤية استراتيجية لتنمية هذين التوجهين. رؤية تنمي امكانيات منطقة، واذا انتهت منها انتقلت لأخرى. وتسعى لتكثيف ومأسسة الطلب في سوق معين، فإذا نجحت انتقلت لسوق آخر. البدايات المتسعة والطموحة جدا مضرة تماما ، لأن عائدها في الاغلب ليس فقط اقل من تكلفتها، بل ايضا باعث على نكوص الهمة.

لا يسعى الاقتراح الثالث لاهداف اقتصادية، والصحيح انه مكلف اقتصاديا وبلا عائد يوازن تكلفته. ويسعى الاقتراح لاعطاء قيمة ثقافية للمكان والمناسبة، من خلال عقد مناسبة اومناسبات ثقافية في سياقه، مثل مهرجان ادبي عربي عام، او مهرجان دولي لفنون الرقص الشعبي ، او مهرجان اسلامي للانشاد الديني. وحاليا يحتوي المهرجان فعلا على عروض ثقافية عديدة متنوعة المصادر، لكن ما نقصده مناسبة ثقافية ذات حضور نوعي متميز تماما، قادرة على ان تؤسس مع الزمن شرعية ومشاركة ومكانة دولية. وفي اختيارنا للمناسبة ينبغي اختيار مناسبة قادرة على الدخول في علاقة عضوية مع المهرجان. مهرجان ادبي ام مهرجان للموسيقى الفولكلورية ؟ الانسب قطعا مهرجان الموسيقي، لانه الاقرب لطبيعة المناسبة ، والاوسع جماهيرية . الا ان التفكير على هذا النحو، لاينبغي ان يقودنا لمنزلق التوظيف السياحي المباشر للمناسبة السياحية ، فلو حدث ذلك سوف نصيب المناسبة الثقافية في مقتل، لتصبح مجرد عرض سياحي جوار عروض أخرى .