أعمدة

نوافـذ: غض الطرف

18 أغسطس 2017
18 أغسطس 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يأتي الأمر بـ «غض الطرف» في قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها (...)) إلى آخر الآية من سورة النور، وهو الأمر الذي يذهب إلى الترقي في مستوى العفة لدى أبناء المجتمع، وهو مطلب ديني واجتماعي من شأنه أن يعلي من شأن الأسرة في المجتمع الإنساني النظيف، وينزلها منزلة الطهارة والنقاء، حتى لا تدنس بقذارات أصحاب النفوس الخبيثة، ويأتي الأمر كذلك في كثير من المواقف- أغلبها- نهيا عن الاستمرار في فعل سلوك ما، وذلك حقنا- كما يقال- لما سوف يؤول إليه تعقيد الأمور أكثر وأكثر، أو الوقوع في مأزق أكثر خطورة.وهذه العبارة مأخوذة من بيت الشعر المشهور: «غض الطرف إنك من نمير؛ فلا كعبا بلغت ولا كلابا» حيث يحتل أهمية كبرى في الذاكرة العربية المتعلقة بحكمة الشعر، ولذلك يردد كثيرا عندما يصادف مناسبة هي أقرب الى ترديده، وخاصة في مواقف التهكم، أو التندر- أحيانا-وهذا البيت للشاعر المعروف جرير، وتشير بعض المصادر الى أن: «هذا البيت من قصيدة جرير التي تسمى (بالدامغة) هجا بها الراعي النميري الشاعر والسبب هو تطاول الراعي على جرير فعزم على دمغه بقصيدة فهجاه، ونمير جمرة من جمرات العرب أطفأها جرير بهذا البيت، وكلاب وكعب قبيلتان من أرذل قبائل العرب فجعل جرير نميرا أرذل منهم بقصيدته (الدامغة) وقوله «فلا كعبا بلغت ولا كلابا» فمعناها أن القبيلتين اللتين من أرذل قبائل العرب أرقى من نمير أي لم تبلغهم منزلة» - حسب المصدر -. هنا لا أذهب الى جملة المعاني التي يتضمنها هذا البيت المتوافقة مع مناسبته تلك، والتي تفوح منها العنصرية، والغطرسة، والفوقية، كحال الكثيرين في زماننا اليوم، وإنما أحاول إسقاط بعض مفاهيم «غض الطرف» على الواقع الذي نعيشه في حياتنا اليومية، وهو واقع يؤسف له في كثير من ممارسات أفراده، خاصة عندما يتموضع على خندق تضارب المصالح، أو التكور على المصلحة الخاصة، فـ «غض الطرف» ممارسة معايشة في كثير من نقاط الاختلاف والتلاقي لسلوكياتنا اليومية، وهي لا تذهب بعيدا عن معنى «يوم لك، ويوم عليك»، حيث تحاصرك مصالحك مع الآخر، ومصالح الآخر معك، وعليك أن تعيش تحدي الحياد، أو تسقط نفسك في براثن الضياع، ضياع الذمم، وضياع الضمير، وضياع الأنفس التي تقتات على ما تبقى من قيم السمو والارتقاء، وهو أمر ليس هين على الإطلاق، ومن يستطيع أن يحافظ على المستوى الأدنى فقد «بلغ الناصية». نعيش حياة كلها محطات، فلا نكاد نصل الى محطة ما، ونلملم فيها الكثير مما فقدناه طوال رحلتنا من محطتنا السابقة، إلا ونجد أنفسنا نجمع أشلاءنا المتبعثرة هنا وهناك، لنلحق ركبا شاردا، للتو، ترك مقيله أو مبيته، ونظل على هذا الحال، وفي كل هذه المسافات علينا أن «نغض الطرف» لنسلم أنفسنا للمحطة الأخرى «ومن لم يصانع في أمور كثيرة؛ يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم» كما قال زهير بن أبي سلمى، أو نفتح أعيننا؛ ونواجه مصابات السهام الموجهة إلينا، وأنصح بالثانية، فلعلها تطفىء زمهرير الضمير، هذا العضو التي تكال عليه، وتوجه إليه سهام التغريب عن القناعات، وعن المبادئ، وعن القيم، ومما يؤسف له أكثر أن المحصلة النهائية من هذا كله لا تخرج عن إشباع رغبات، مع أن هذه الرغبات يمكن إشباعها بأقل الخسائر.