إشراقات

تنمية الرقابة الذاتية

17 أغسطس 2017
17 أغسطس 2017

حسن الشعيبي -

الموظف الذي يراعي مصلحة المجتمع قبل مصلحته الشخصية هو الموظف الذي يراقب الله تعالى قبل أن يراقبه المسؤول. ويصل الموظف إلى تنمية الرقابة الذاتية فيه عبر وسائل أهمها: تقوية الإيمان بالله، وتغليب المصلحة العامة، وتحمُّل المسؤولية، والإقناع بأهمية الوظيفة وأدائها بشكل صحيح، وعلى العامل أن يقتنع أن عمله عبادة، وأن ذاك العمل إنما هو وسيلة لتنمية الوطن وازدهاره، وتحسين مستوى الدخل وهذه القناعة تزيد لديه الالتزام بأخلاق المهنة.

خدمة الناس شرف يحمله بعضهم، لذلك نجد أن الإسلام حث على نفع الناس والسعي في حاجة الآخرين وقضائها، بل جعل ذلك من الأعمال التي يحبها الله تعالى، ففي الحديث سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحب إلى الله يا رسول الله؟ فقال: «أحب الناس إلى الله أنفعُهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله-عز وجل- سرور تدخله على مسلم؛ تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا...».

وتحدث الباحثون حول مفهوم الواسطة والمحسوبية، وتباينت الآراء واختلفت وجهات النظر في هذه الظاهرة، ويمكن تعريف الواسطة أو المحسوبية بأنها (طلب العون والمساعدة في إنجاز شيء يقوم به إنسان ذو نفوذ لدى من بيده قرار العون والمساعدة على تحقيق المطلوب لإنسان لا يستطيع أن يحقق مطلوبة بجهوده الذاتية).

وإذا أردنا أن نتحدث عن الواسطة فإنننا نتحدث عن جانبين: جانب محمود، وجانب مذموم. فالمحمود والمطلوب هو التوسُّط لدى الناس لقضاء حوائج الآخرين، وتسمى الشفاعة الحسنة. يقول الله تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا).. فهي كل شفاعة لمساعدة شخص ما في الحصول على حق يستحقه شرعا أو نظاما، أو إعفائه من شرط لا يجب الوفاء به، أو مساعدته في الحصول على حق لا يلحق الضرر بالآخرين أو لرفع المظالم، أو لرد الحق لصاحبه، أو الإصلاح بين متخاصمين، أو نحو ذلك. وهذا له صور عديدة في مسائل الزواج والدَّين وفي حقوق الآخرين.

أما المذموم فهو الذي يهدف إلى الحصول على حق غير مستحق لشخص أو إعفائه من واجب ملتزم به. وفي كلتا الحالتين يلحق ضررًا بالآخرين، وهذا النوع من الواسطة هو المتفشي بين أفراد المجتمع وفي كثير من المؤسسات. قال تعالى: (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا).. وهذه أيضًا لها صور وأشكال متنوعة كثيرة، كالشفاعة في الحدود، أو ما يترتب عليها ضرر للآخرين، أو التي تؤدي إلى جر الأبرياء إلى مقام الحكم؛ لتعين القريب، مع علمه أن غيره أحق منه.

وموقف الإسلام من الواسطة والمحسوبية نلخصه فيما يلي:

يحث الإسلام على الشفاعة؛ لما فيها من تكاتف المسلمين وتعاضدهم المندوب إليهما في الكتاب والسنة، قال سبحانه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وقال عز وجل: (مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً).. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

إلا أن هناك حالات تحرم فيها الواسطة، مثل: توسّط الشخص لرجلٍ يعلم أنه لا يستطيع القيام بالعمل. او توسّط الشخص لرجلٍ مع دفع رشوة. او توسّط الشخص لرجلٍ مع علمه أن توظيفه أو ترقيته مخالف للنظام. او توسّط الشخص لرجلٍ ويترتب على الواسطة حرمان موظف من ترقية، مع أنه أكفأ ممن تُوسِّط له، أو منع موظف من حقه.

إن مما يؤسف له أن كثيرا من الناس قد عدلوا عن الواسطة الحسنة إلى السيئة والمحسوبية، والأدهى من ذلك بذل الرشى لنيل هذه الواسطة!، فأصبحت الواسطة في المجتمع تعني الظلم والجَور، وأَخْذ حقوق الآخرين، وقد انتشرت في كثير من المجتمعات حتى أصبحت من المظاهر التي نراها في كل مكان، وثقافة تفشت حتى أصبحت أمرا لا يستنكر عند كثير منا.

وذلك في كثير من الأحيان راجع إلى أن من يسعون لطلب العون من الآخرين على تحقيق هدف أو أداء خدمة هم على سبيل الإطلاق لا يستحقون العون والمساعدة وأنهم يحصلون على شيء غيرهُم أحق به منهم، فإذا كانت الحالة هكذا فلا شك في أن تصبح الواسطة عملا سيئا وعلى المجتمع الواعي أن يرفضه ويحاربه، ولا شك أيضا في أن من يسعى إلى الحصول على كسب أو منصب أو ميزات معينة لإنسان لا يستحقها إنما يقترف ذنبا؛ لأنه بهذا يحرم منها من هو أحق بها. فإذن «الواسطة السيئة والمحسوبية» تهدران مبدأ تكافؤ الفرص، وتساهم في تولي غير المؤهلين للوظائف، وحصول بعضهم على مميزات يستحقها آخرون، إذ من الممكن عدّهما «رشوة اجتماعية» يتم فيها تسهيل حصول أحدهم على الخدمات أو المزايا بسبب قرابته لأحد الأشخاص أو لتدخل شخصية مقربة من الموظف العام أو نافذة لدفع الموظف إلى تقديم مميزات أو خدمات أو ترقية لموظف يعمل تحت رئاسته، بالمخالفة لمبدأ تكافؤ الفرص.

وكذا فإن للواسطة والمحسوبية أثرًا في الجانب الاقتصادي للدول، فالخسائر الاقتصادية الناجمة عن الواسطة كبيرة، إذ يتسبب فشل الموظفين غير المؤهلين في خسائر اقتصادية تتكبدها الدولة لعدم وجود إنتاجية في العمل بسبب عدم كفاءة الموظف.

وهناك آثار نفسية واجتماعية لهذه الظاهرة، والتي تتمثل في إحباط الأشخاص المفترض حصولهم على المميزات والوظائف التي ذهبت للمحظوظين من أصحاب الواسطة. وتكون النتيجة عدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وهذه الظواهر آثارها سلبية على المجتمع وتؤدي إلى ضياع الكفاءات وإعاقة العمل وقلة الإنتاج، بالإضافة إلى أنها تؤدي إلى الإحباط والحقد والكراهية لمشاهدة الذين لم يحظوا بالمحسوبية والمحاباة من المظلومين أقرانهم ومن حولهم ممن نالوا الحظوة أو الجاه أو المكانة أو الوظيفة.

وهناك عدة وسائل القضاء على الواسطة السيئة والمحسوبية منها:

أولا: تنمية الرقابة الذاتية: إن الذي يراعي مصلحة المجتمع قبل مصلحته الشخصية هو الموظف الذي يراقب الله تعالى قبل أن يراقبه المسؤول. ويصل الموظف إلى تنمية الرقابة الذاتية فيه عبر وسائل أهمها: تقوية الإيمان بالله، وتغليب المصلحة العامة، وتحمُّل المسؤولية، والإقناع بأهمية الوظيفة وأدائها بشكل صحيح.

ثانيا: توضيح الأنظمة بشكل دقيق حتى تمنع الاجتهادات الفردية الخاطئة؛ لأن الممارسات غير الأخلاقية تنتج -أحيانا- من ضعف النظام أو عدم وضوحه. ووجود الثغرات فيه تترك المجال للتلاعب والاستغلال والاجتهادات الشخصية.

فإذا كان النظام ينصّ على وجوب تعيين الأكفاء، فلا بدّ إذن من توضيح شروط الكفاءة، ونسبة كل شرط منها من الأهمية. وإذا كان النظام يمنح الموظف درجة وظيفية في التقييم على أساس تقديمه خدمات إضافية للعمل، فلا بدّ أيضا من بيان هذه الخدمات بالتحديد.

ثالثا: القدوة الحسنة: ينظر الموظفون إلى المدير بوصفه قدوة أولى لهم، فإذا هو لم يلتزم بأخلاق مهنته فإنه بذلك يرفع الحرج عنهم إن هم أقدموا على نفسه فعله. وتصوَّر مديرا يوصي الموظفين بالالتزام بالدوام وهو من أواخرهم حضورا! وآخر يوصي بالنزاهة، وأخبار استغلاله الشخصي للوظيفة معروفة للقاصي والداني! وآخر يتظاهر بمحاربة المحاباة والواسطة، والموظفون يعرفون أن زميلهم إنما تعيَّن في الوظيفة لعلاقته بالمدير، مع أنه غير مؤهَّل! فهل يمكن لبيئة كهذه أن تشيع فيها أخلاقيات المهنة؟!

رابعا: تصحيح الفهم الشرعي والوطني للوظيفة: فعلى العامل أن يقتنع أن عمله عبادة، وأن ذاك العمل إنما هو وسيلة لتنمية الوطن وازدهاره، وتحسين مستوى الدخل وهذه القناعة تزيد لديه الالتزام بأخلاق المهنة.

خامسا: رقابة محاسبة المسؤولين والموظفين: إذ لا بدّ من وجود أجهزة رقابية تشرف على تطبيق النظام، وتحاسب المقصِّرين والمخالفين.

سادسا: التقييم المستمر للموظفين: وهذا يحفزهم على التطوير إذا علموا أن من يطوِّر نفسه يقيَّم تقييما صحيحا، وينال مكافأته على ذلك، والتقييم من جانب آخر يعين المسؤول على معرفة مستويات موظفيه وكفاءاتهم ومواطن إبداعهم. وحتى يكون التقييم عادلا فلابد أن يتصف بالنزاهة والدقة. فلا يجدي التقييم الذي لا يفصِّل مواطن القوة والضعف، ويقسَّم إلى درجات واضحة، ويكون له أثرٌ ملموس.

سابعا: تشجيع الموظفين والمواطنين على المساعدة في كشف الفساد الإداري والمظاهر السلبية: وذلك بتخصيص رقم هاتف لذلك، أو وضع صندوق للملاحظات مع بيان هوية المبلِّغ ليتم الاتصال به للتحقق، مع التشديد على عدم قبول البلاغات الكيدية، ومعاقبة صاحبها.

إن القوانين وحدها لا تكفي لمكافحة ظاهرة المحسوبية والواسطة التي تبدو بصورة واضحة في العديد من المجتمعات العربية، وأن الأمر يحتاج إلى تغيير ثقافة المجتمع، وتشديد الرقابة الإدارية، ووضع معايير دقيقة لشغل الوظيفة العامة، والتدرج والترقي الوظيفي حسب المؤهلات والكفاءة.