1083796
1083796
إشراقات

خطبة الوداع تضمنت مبادئ إنسانية واستوعبت جملة من الحقائق التي يحتاجها العالم اليوم

17 أغسطس 2017
17 أغسطس 2017

ارتقاء المعاملات.. مؤشر على صحة العبادات -

فضلا عن العقائد التي تعد أساس الدين، فإن في الإسلام عبادات تنظم علاقة الإنسان بربه، وفي الإسلام معاملات تنظم علاقة الإنسان بأخيه، وإذا صحت العبادات ارتقت المعاملات، أو إذا صحت المعاملات قُبِلت العبادات، بل إن ارتقاء المعاملات مؤشر على صحة العبادات، والعبادات معللة بمصالح الخلق. بينما في الأديان التي وضعها الإنسان، العبادة حركات وسكنات، وتمتمات وإيماءات وإشارات، لا معنى لها إطلاقا.

الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصيام شرع لعلكم تتقون، والزكاة تطهرهم وتزكيهم، العبادات إذا معللة بمصالح الخلق. وهي تهدف أول ما تهدف إلى السمو بالإنسان نفسا، وقولا، وعملا عن طريق إحكام الصلة بالله رب العالمين، والاهتداء بهداية، والتنعم بقربه، والتقلب في رحمته، والارتشاف من عذب شرابه، وقطف ثمار فضله، من هذا المنطلق شرعت العبادات الشعائرية كالصلاة والصيام والحج.

والحج هو أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو عبادة مالية، بدنية، شعائرية، وهو تلك الرحلة الفريدة في عالم الأسفار، ينتقل فيها المسلم ببدنه وقلبه إلى البلد الحرام، ليطوف في بيت الله العتيق الذي جعله الله رمزا لتوحيد الله، ووحدة المسلمين، ففرض على المسلم أن يستقبله كل يوم خمس مرات، وفرض عليه إن كان مستطيعا أن يتوجه إليه بشخصه، ويطوف به بنفسه في العمر مرة واحدة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله: «إن عبدا أصححت له جسمه، ووسعت عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم»..حديث صحيح لغيره، أخرجه أبو يعلى والطبراني وابن حبان. ومن حج بمال حرام، ووضع رجله في الركاب، وقال: لبيك اللهم لبيك، ينادى: أن لا لبيك، ولا سعديك، وحجك مردود عليك.

والحج برهان عملي، يقدمه المؤمن لربه ولنفسه، على أن تلبيته دعوة الله بدافع محبته، وابتغاء رضوانه، أفضل عنده من ماله وأهله، وولده وعمله، ودياره ومنصبه. ومما تتميز به هذه العبادة أنها تحتاج إلى تفرغ تام، فلا تؤدى إلا في بيت الله الحرام، إذا لابد من مغادرة الأوطان، وترك الأهل والخلان، وتحمل مشاق السفر، والتعرض لأخطاره، وإنفاق المال في سبيل رضوان الله، وإذا صح أن ثمن هذه العبادة باهظ التكاليف، فإنه يصح أيضا أن ثمرة هذه العبادة باهرة النتائج، حيث قال النبي -عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري ومسلم: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من حج لله عز وجل، فلم يَرْفُثْ، ولم يَفْسُقْ، رجع كيوم وَلَدَتْهُ أمُّه».. حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم.

وقال النبي-صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن العاص: «أما علمتَ أن الإسلامَ يهدِم ما كان قبله، وأن الهجرةَ تهدِم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟.. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحجاج والعمار وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم»، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «تَابِعوا بين الحج والعمرة، فإنهما يَنْفِيان الذُّنُوبَ والفَقْرَ، كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة، ولَيسَ لِحجَّة مبرورة ثواب إلا الجنة».. حديث صحيح، أخرجه النسائي.

والنفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله.. يذهب المسلم إلى بيت الله الحرام، ويخلف في بلدته هموم المعاش والرزق، هموم العمل والكسب، هموم الزوجة والولد، هموم الحاضر والمستقبل.

وبعد أن يُحرِم من الميقات يبتعد عن الدنيا كليا، ويتجرد إلى الله عز وجل، ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

خطبة الوداع

نحن أحوج ما نكون في هذه الأيام الصعبة الشديدة التي أعلن فيها الحرب على الإسلام في كل بقاع الأرض، إلى أن نفهم خطبة الوداع التي خطبها النبي عليه الصلاة والسلام في حجته.. لقد خطب النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع خطبة جامعة مانعة تضمنت مبادئ إنسانية سيقت في كلمات سهلة سائغة، كيف لا، وقد أوتي النبي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم، فلقد استوعبت هذه الخطبة جملة من الحقائق التي يحتاجها العالم اليوم، العالم الشارد، العالم الذي يقتتل، العالم الذي تسفك فيه الدماء بلا سبب، العالم الذي يئن من الجوع، يئن من القهر، يئن من الظلم، والحق تعالى يقول: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى).. وإن الله جل وعلا ربى محمدا -صلى الله عليه وسلم- ليربي به العرب، وربى العرب بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ليربي بهم الناس أجمعين، قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لكن إذا تخلى العرب عن هذه الرسالة التي شرفهم الله بها يستبدل قوماً غيرهم، ثم لا يكونوا أمثالهم.

ومن المبادئ التي انطوت عليها خطبة النبي -عليه الصلاة والسلام- في حجة الوداع: أن الإنسانية متساوية القيمة في أيِّ إهاب تبرز، وعلى أي حالة تكون، وفوق أي مستوى تتربع. فعن أبي نضرة رحمه الله، قال: حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال: «يا أيها الناس إن ربكم واحد، وأباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا أحمر على أسود، إلا بالتقوى. أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم».. وهذا البند الأول.

والبند الثاني: أن النفس الإنسانية ما لم تكن مؤمنة بربها، مؤمنة بوعده ووعيده، مؤمنة بأنه يعلم سرها وجهرها، ولأن النفس الإنسانية تدور حول أثرتها، ولا تبالي بشيء في سبيل غايتها، فربما بنت مجدها على أنقاض الآخرين، وبنت غناها على إفقارهم، وبنت عزها على إذلالهم، بل ربما بنت حياتها على إماتتهم، لذلك قال عليه الصلاة والسلام في خطبة حجة الوداع: «أيُّ يومٍ هذا؟ قالوا: يومٌ حرامٌ، قال: وأيُّ بلدٍ هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأيُّ شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا».

البند الثالث: المال قوام الحياة، وينبغي أن يكون متداولا بين كل الناس، وأنه إذا ولد المال من دون جهد حقيقي يسهم في إعمار الأرض، وإغناء الحياة، تجمع المال في أيدٍ قليلة، وحرمت منه الكثرة الكثيرة، عندها تضطرب الحياة، ويظهر الحقد، ويلجأ إلى العنف، ولا يلد العنف إلا العنف، والربا يسهم بشكل أو بآخر في هذه النتائج المأساوية التي تعود على المجتمع البشري بالويلات، لذلك قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: «ألا وإنَّ كلَّ رباً في الجاهلية موضوعٌ، لكْم رُؤوسُ أموالكِم لا تَظلِمُون ولا تُظْلَمون، غير رِبا العبَّاس، فإنَّه موضوعٌ كله».

أما البند الرابع في هذه الخطبة: النساء شقائق الرجال، والمرأة مساوية للرجل تماماً في التكليف والتشريف والمسؤولية، مساوية له من حيث استحقاقها للثواب والعقاب، مساوية له تماما في التشريف والتكريم، لذلك قال عليه الصلاة والسلام في البند الرابع من خطبة حجة الوداع: «ألا واستَوصوا بالنساء خيرا».. وكأن الله جل جلاله أطلعه على ما سيكون في آخر الزمان: فعن جرير -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: «استَنْصِتْ لِيَ الناسَ، ثم قال: لا ترجعوا بعدي كُفَّارا، يضربُ بعضكم رِقابَ بعضِ» حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم ، وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الشَّيْطانَ قد يئسَ أنْ يَعْبُدَهُ المصلُّونَ، ولكن في التحريش بينهم».. حديث صحيح، أخرجه الترمذي.. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وقد تَرَكْتُ فيكم ما لن تَضِلُّوا بعده، إِن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تُسأَلُونَ عنِّي، فَمَا أنْتُمْ قائلون؟ قالوا: نَشهَدُ أنكَ قد بَلَّغْتَ وأدَّيتَ وَنَصَحْتَ، فقال بإِصبعه السَّبابةِ، يَرْفَعُهَا إِلى السماء ويَنكِّبُها إِلى النَّاسِ: اللَّهمَّ اشْهَدْ، اللَّهمَّ أشْهد، ثلاث مرات».. من حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود.