الملف السياسي

تدهور تكتيكي محسوب ....!!

14 أغسطس 2017
14 أغسطس 2017

د. عبد الحميد الموافي -

التدهور الراهن في العلاقات الأمريكية الروسية محسوب، بمعنى ان كل طرف يتحرك وعينه على ما يمكن ان يحققه في نهاية المطاف من فوائد ، فالكونجرس يريد تأكيد معارضته لتحسين العلاقات مع موسكو، قبل انتهاء التحقيق في تدخل روسيا في انتخابات الرئاسة الامريكية ، وهو ما يجعل الاحتمالات مفتوحة على اكثر من مستوى، وبوتين يريد اظهار قوته للكونجرس

من المؤكد انه ليس من المصادفة على أي نحو ان يهتم الكثيرون على امتداد العالم ، بالتحرشات الامريكية الروسية المتبادلة ، خاصة على مدى الأشهر الاخيرة، ومنذ ما قبل تولي دونالد ترامب منصب الرئيس في الولايات المتحدة بشكل عام ، وبعد توليه بشكل خاص ، واذا كان هذا الاهتمام ، الواسع النطاق والممتد على مختلف المستويات ايضا ، يرتبط الى حد كبير بحقيقة ان الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية ، تمثلان القوتين الاكبر ، والأكثر تأثيرا بالتأكيد في عالم اليوم ، سياسيا واستراتيجيا ، بغض النظر عن التضعضع النسبي في القوة الروسية في السنوات الاخيرة ، وهو ما يحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التغلب عليه بوسائل متعددة، فإن الاهتمام الاقليمي والدولي بالعلاقات الامريكية الروسية يرتبط ايضا، بالنتائج والآثار التي تترتب على حالة هذه العلاقات، ومدى التقارب والتفاهم او التباعد والخلافات بين الطرفين ، والتي تؤثر على كثير من المشكلات والتطورات الاقليمية والدولية ، ومنها بالطبع الاوضاع في الشرق الاوسط ، بما تشكله المنطقة من اهمية بالنسبة للقوتين الاكبر في عالم اليوم . وبالتالي فإن الاهتمام بما يحدث بين موسكو وواشنطن من تفاعلات وتقاطعات في المصالح ، وما يصاحب ذلك من شد وجذب ايضا ، ليس ترفا فكريا ، او نوعا من السفسطة، ولكنه حاجة عملية في الواقع ، في اطار محاولة الرؤية ، او محاولة استشراف الاتجاه الذي يمكن ان تسير فيه الاوضاع المأساوية التي تعاني منها دول وشعوب المنطقة العربية على مدى السنوات الاخيرة . وفي هذا الاطار فإنه يمكن الاشارة باختصار شديد الى عدد من الجوانب ، لعل من اهمها ما يلي :

*اولا : انه في ظل الاهمية الاستراتيجية والنفطية والاقتصادية والمالية للمنطقة العربية بوجه خاص، والشرق الاوسط بوجه عام ، فإن الاهتمام الروسي الامريكي ، والغربي العام بالمنطقة هو اهتمام قديم ، ومتواصل ايضا ، وبأشكال متعددة ، من جانب كل القوى الاقليمية والدولية ، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية ، التي ورثت الدور الذي كان يقوم به الاتحاد السوفيتي السابق ، حتى تفككه في اول تسعينات القرن الماضي . وعلى ذلك فإنه من الطبيعي ان يكون لكل منهما مصالحه وحساباته ، واولوياته التي يسعى الى تحقيقها ، واساليبه وادواته التي يستخدمها لتحقيق هذه المصالح، وبقدر التنافس وتقاطع المصالح والاولويات ، تتحدد درجات التوافق والتلاقي او التقارب بين القوتين الاكبر بالنسبة لمشكلات المنطقة وقضاياها ، وهو ما يؤثر بدرجة كبيرة في تلك المشكلات ، ومدى قابليتها للحل ، وحتى سبل الحل في الظروف المختلفة ، وذلك انطلاقا من حقيقة اساسية هي انه في الشرق الاوسط بالذات تحدد واشنطن وموسكو ملامح واسس الحل بالنسبة للمشكلات المختلفة ، صحيح انه لا يمكن ان نلغي أثرا ، او امكانية تأثير القوى الاقليمية والدولية الاخرى ، ولكن الصحيح ايضا هو ان تأثيرات كل تلك القوى تندرج تحت او في عباءة التوافق الامريكي الروسي اذا حدث ، او على هامش التقارب بين القوتين الاكبر بشكل او بآخر . ويكفي ان ننظر الى اية مشكلة من مشكلات المنطقة لنتيقن من هذه الحقيقة. ولعله من المهم والضروري الاشارة الى ان هذه الحقيقة المشار اليها ، لا ينقضها او يتعارض معها ما قد تقوم به اي من القوتين الاكبر - امريكا وروسيا - من تحركات او ممارسات او خطوات ، يبدو انها تقلب اوضاع او تدفع بها في اتجاه محدد في ظروف ما ، مثلما حدث مثلا في ليبيا – اسقاط القذافي واغتياله - وفي العراق - غزو العراق عام 2003 - ثم في سوريا منذ اواخر عام 2015 عندما قرر بوتين التدخل العسكري بقوة في سوريا ، فهذه التطورات كلها تظل محكومة في النهاية بالاطار العام للعلاقات بين موسكو وواشنطن في المنطقة والعالم ككل . ومن ابرز محددات هذا الاطار العام ، الادراك الامريكي والروسي - ومن قبله السوفيتي - لحقيقة ان المصالح الامريكية والمصالح الروسية المباشرة او ذات الطبيعة الحيوية من وجهة نظر اي منهما ، تأتي دوما قبل مصالح اية اطراف اخرى ، في المنطقة او خارجها ، واعتادت كل من واشنطن وموسكو تفهم ذلك والعمل في اطاره ايضا، دون الدفع بالمواقف الى الاقتراب من المواجهة ، وما حدث في العراق وسوريا ، ولايزال يحدث حتى الآن ، هي امثلة بالغة الدلالة في هذا المجال . ولعل ما يؤكد ذلك ايضا ، انه برغم الخلافات السابقة والحالية بين واشنطن وموسكو ، الا ان ذلك لم يؤثر سلبا على التنسيق بين طيران الجانبين في الاجواء السورية ، تجنبا لأية احتمالات للاصطدام معا . فكل من الطرفين يملك اوراقا على الارض ، ويعمل على استخدامها بالكيفية التي تخدم مصالحه ، والمناورة بذلك في الحدود المأمونة ، او التي يرى انها لن تقلب قواعد اللعبة بين القوتين الاكبر في المنطقة ، بغض النظر عن المواقف الاعلامية على هذا الجانب او ذاك .

*ثانيا : ان تاريخ وخبرة الصراع السوفيتي الامريكي منذ اواخر اربعينات القرن الماضي ، وسنوات الحرب الباردة ايضا ، وكذلك التنافس الامريكي الروسي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة - منذ بداية تسعينات القرن الماضي حتى الآن - وضعت العلاقات الامريكية الروسية على قاعدة صلبة وراسخة ايضا من الادراك واليقين بأن مصالحهما ومصالح العالم واستقراره مرهونة بالحفاظ على العلاقات الروسية الامريكية وتجنب تعريضها للخطر او للاختبار الحاد ، تحت اي ظرف من الظروف ، ليس فقط لما يملكه كل منهما من عناصر قوة تكفي لتدمير العالم ، بعد استيعاب الضربة الاولى ، ولكن ايضا لقناعتهما بأن تحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة هو امر ممكن الوصول اليه والتوافق بشأنه ، اذا توفرت العناصر الضرورية لذلك على الجانبين . وهذا يعني ان الصراع بين الجانبين بات محكوما بركائز عقلية وموضوعية تحول دون الجموح والخروج عن المألوف وتعريض الطرفين والعالم من حولهما لمخاطر كثيرة بشكل او بآخر . وليس مصادفة ان يكون الافتقار للحد الادني من الثقة في القيادة الكورية الشمالية ، والتخوف من اندفاعها ، من اهم عناصر التصعيد في ازمة كوريا الشمالية .

وفي هذا الاطار فانه اذا كانت الخلافات ستستمر ، بأشكال مختلفة بين روسيا وامريكا ، الا ان وعي القيادتين ، واعتبارات المصالح الوطنية لكل منهما، يحول دون تفاقمها بشكل خطير . فالخطوط الساخنة بين القيادتين العسكريتين الامريكية والروسية في سوريا ، وبين البيت الابيض والكرملين لا تزال تعمل ، وستستمر في عملها تحت كل الظروف لاحتواء أية تطورات قد تحدث بطريق الخطأ او بسبب اخطاء او اعطال مفاجئة او طارئة في منظومات التسليح لكل منهما . ولعله من الاهمية بمكان الاشارة الى ان من اهم اسباب ومبررات معارضة الانتشار النووي هو عدم الثقة ، او على الاقل التشكيك في قدرة الدول الساعية لامتلاك الاسلحة النووية على الالتزام بعدم استخدامها او التهديد باستخدامها، ونموذج كوريا الشمالية يظل بالغ الاهمية في هذا المجال ، هذا فضلا عن الاسباب الاخرى بالطبع ومنها تلك المتعلقة بمخاطر امتلاك القدرات النووية ، وخاصة عدم القدرة على حمايتها من الوقوع في يد تنظيمات ارهابية ، وحتى مخاطر الفشل في القيام بمتطلبات صيانتها والحفاظ عليها آمنة في كل الظروف .

*ثالثا: انه ليس من المبالغة في شيء القول بأن حسابات العلاقات الروسية الامريكية قد تغيرت بمقدار 180 درجة ، سواء على مستوى توقعات القيادة الروسية ، التي كانت تأمل في انفراج العلاقات مع واشنطن ، بعد تولي ترامب مهام منصبه في العشرين من يناير الماضي ، او على مستوى الرئيس الامريكي الجديد ، الذي تحدث بتفاؤل كبير، خلال حملته لانتخابات الرئاسة الامريكية ، عن علاقاته المنتظرة بالرئيس بوتين ، خاصة وان تعيينه ريكس تليرسون وزيرا للخارجية ، حمل رسالة مهمة في هذا المجال بحكم العلاقات والمعرفة غير القليلة بين تليرسون وبوتين في السنوات الماضية ، بحكم رئاسة تليرسون لشركة نفط امريكية عملاقة . صحيح ان العلاقات بين بوتين والرئيس الامريكي السابق - اوباما - قد تضررت كثيرا ، سواء بسبب احداث اوكرانيا ، وضم بوتين لاقليم القرم الى روسيا ، وفرض عقوبات امريكية على موسكو ، أو بسبب طرد ادارة اوباما 35 دبلوماسيا روسيا من واشنطن في ديسمبر الماضي واتهامهم بالتجسس، ولكن الصحيح ايضا ان بوتين تذرع بالصبر، ورفض الرد على طرد دبلوماسييه من واشنطن ، انتظارا لتولي ترامب مهامه ، على امل تحسن العلاقات بين البلدين ، بما يعنيه ذلك من امكانية رفع العقوبات وحل الخلافات الاخرى العالقة بين البلدين . وعندما يأس بوتين من امكانية تحقيق هذا التحسن في العلاقات ، وبعد لقائه ترامب ايضا على هامش قمة العشرين في هامبورج في مايو الماضي ، وبعد قرار الكونجرس فرض عقوبات اخرى على روسيا، قرر بوتين الرد بشكل مبالغ فيه على طرد الدبلوماسيين الروس ، حيث طلب سحب اكثر من 700 دبلوماسي امريكي من روسيا ، وهو ما سترد عليه ادارة ترامب في الاول من سبتمبر القادم .

على أية حال ، فإن حالة التقلصات الحادة والتحرشات المتبادلة في العلاقات الامريكية الروسية في هذه الفترة ترتبط بدرجة كبيرة بقناعات الكونجرس بتدخل روسيا في انتخابات الرئاسة الامريكية لصالح ترامب ، وهو ما يتم التحقيق فيه الآن ، كما ترتبط برغبة الكونجرس في تحجيم ميول ترامب للتقارب مع بوتين ، وهو ما جسده قرار العقوبات الاخيرة وما ترافق معها من غل يد ترامب عن القيام بتعديل هذه العقوبات بقرار رئاسي ، وإلزامه بالتنسيق مع الكونجرس ، مع ما يعنيه ذلك من مساس بتوازن العلاقة بين الرئاسة والكونجرس ، هذا فضلا عن تأثير صقور الكونجرس ضد ترامب ، والناقدة لأسلوبه في ممارسة مهامه كرئيس ، الا انه يمكن القول بأن التدهور في العلاقات بين موسكو وواشنطن ، والذي وصف « بالخطير » من جانب كل منهما ، هو في النهاية تدهور تكتيكي محسوب ، من كلا الجانبين الامريكي والروسي ، وعلى نحو وضع ترامب بين مطرقة الكونجرس وسندان بوتين ، فالمواجهة ليست بين بوتين وترامب ، ولكنها بين بوتين والكونجرس في الواقع . وبغض النظر عن ان تأثير وفاعلية ترامب في ممارسة صلاحياته ، يمكن ان تتأثر، خاصة اذا تدخل الكونجرس بشكل ضاغط في موضوع كوريا الشمالية وتصريحات ترامب بشأنها ، فإن التدهور الراهن في العلاقات الامريكية الروسية محسوب، بمعنى ان كل طرف يتحرك وعينه على ما يمكن ان يحققه في نهاية المطاف من فوائد ، فالكونجرس يريد تأكيد معارضته لتحسين العلاقات مع موسكو، قبل انتهاء التحقيق في تدخل روسيا في انتخابات الرئلسة الامريكية ، وهو ما يجعل الاحتمالات مفتوحة على اكثر من مستوى، وبوتين يريد اظهار قوته للكونجرس، الذي اصبح ثقله اكبر في ادارة العلاقات مع بلاده . ومع ذلك فإن كلا الطرفين يدرك ان هناك حدا او سقفا لن يتجاوزه التدهور في العلاقات في النهاية ، ولذا بحث تليرسون ولافروف سبل التعاون في مشكلات وقضايا اخرى تعني القوتين الاكبر، بما في ذلك قضايا المنطقة ، ولكن ستظل الامور معلقة حتى تخف حدة التدهور الحالي ، والذي يظل تدهورا تكتيكيا ومحسوبا ايضا .