الملف السياسي

روسيا أمام أزمة العقوبات.. من المواجهة إلى الالتفاف

14 أغسطس 2017
14 أغسطس 2017

د.صلاح ابونار -

إلى أين تتجه العلاقات الروسية - الأمريكية بعد أزمة العقوبات الأمريكية الجديدة ضد روسيا؟ تشكلت تلك الأزمة في سياق تفاعل عاملين: أزمة المؤسسة الأمريكية الحاكمة، ونمو النزعة التدخلية الروسية.

تبدو أزمة المؤسسة الحاكمة واضحة في نجاح ترامب في الدخول للبيت الأبيض. جاء نجاح ترامب علامة على انتصار شعبوية سياسية من نمط أمريكي، تقدمت منتصرة حاملة خصائصها الأثيرة لعداء مؤسسات الحكم النظامية المستقرة، وازدراء النخب السياسية، وانحسار القواعد الاجتماعية والنفوذ السياسي للتيار الرئيسي، والتقليل من شأن الديمقراطية التمثيلية والقيم والمؤسسات المصاحبة لها. غير ان ترامب جاء معه بشيء آخر هو الانقسام القوي والواسع حول شخصه وشرعية حكمه الذي تجسد في وقائع أزمة التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية. وفي ركاب هذا الانقسام ظهرت ملامح أخرى. الانعدام الواضح في الكفاءة السياسية لفريق عمل البيت الأبيض الجديد، والضمور في فعالية الصيغ المؤسسية التقليدية لإدارة السلطة، والتناقض المتنامي بين البيت الأبيض والسلطة التشريعية، وهزائم استراتيجية داخل الكونجرس كما تمثلت مؤخرا في مشروع اوباما للرعاية الصحية، ومعارضة مدنية ومؤسسية واسعه لقرارات أخرى مثل الخروج من اتفاقية المناخ. وتبدو لغة ترامب السياسية، وتعليقاته السياسية في تغريداته مؤشرا قويا على عمق الأزمة. في معرض هجومه على قانون العقوبات، وقف يتكلم بلغة تنتمي لعالم المال والتجارة: لقد بنيت شركة عظيمة حقا، وتساوي الآن بلايين الدولارات، وهذا سبب رئيسي من أسباب انتخابي، وكرئيس للجمهورية في إمكاني عقد صفقات مع البلدان الأجنبية، افضل كثيرا مما يمكن للكونجرس فعله. وفي مواجهة تعبيرات كهذه يبدو وصف بوتين لقرار العقوبات بكونه تعبيرا عن دبلوماسية المطبخ، وصفا بليغا لحالة المؤسسة الأمريكية الراهنة.

انبثقت النزعة التدخلية الروسية من سنوات الهوان الروسي في التسعينات التي أعقبت هزيمة الحرب الباردة. وتشكلت عبر التفاعل والصدام مع منظومة الأمن الأوروبي التي سعى التحالف الغربي نحو إقرارها. وانطلاقا من هذا السياق أخذت تنتشر وتكتسب عنفا وجرأة.

تجسدت تلك النزعة عبر اتجاهين: تدخلات سياسية خارجية اتخذت اخطر أشكالها في شرق أوروبا، إلا أنها أوسع نطاقا من ذلك. ونزعة ايديولوجية معادية للغرب تتمحور حول نزعة قومية متطرفة.

سنجد التدخلات الروسية في شرق اوروبا في ثلاث وقائع: اجتياح جورجيا 2008، والتدخل العسكري في اوكرانيا 2014 الذي اسفر عن الحاق القرم بالاتحاد الروسي والسيطرة على مناطق في شرق أوكرانيا. وخلف تلك التدخلات سنجد: السياسات الأوروبية والأمريكية تجاه أوروبا الشرقية، والرؤية الروسية لتلك السياسات ونمط الرد الروسي المترتب عليها.

تمثلت السياسات الغربية في توسع عضوية الاتحاد الأوروبي شرقا، وتوسع عضوية حلف الاطلنطي في ذات الاتجاه لتشمل اغلب دول حلف وارسو المندثر، والدعم السياسي لموجة الثورات الملونة في الدول المجاورة لروسيا. وكانت الرؤية الغربية المعلنة لتلك الاتجاهات، أنها تعبير طبيعي عن الرؤية الأوروبية للأمن الأوروبي المشترك، وان التوسع في عضوية الناتو ضمانة للاستقرار الأمني الجماعي في مواجهة عوامل الاضطرابات في مجتمعات انتقالية، وان دعم الثورات الملونة استجابة طبيعية لحركات ديمقراطية قاعدية وليس خلقا لها. ولكن الرؤية الروسية لذات السياسات اختلفت تماما. فلقد رأت في توسع الناتو خرقا لتعهدات الغرب للقيادة الروسية عند نهاية الحرب الباردة. وان وجوده العسكري على حدود روسيا الغربية انتهاك للأسس الجيوبوليتيكية المستقرة للأمن القومي الروسي واعتداء على مجالها الحيوي، وتعبير عن القيادة الأحادية الأمريكية للنظام الدولي، وينطوي على إمكانية التدخل السريع في مناطق روسية تزخر بتناقضات إثنية معرضة للانفجار. كما رأت في الثورات الملونة ظواهر يغلب عليها التخطيط الخارجي، وإطلاقا لعمليات ستقود كما دلت التجارب لتفكك مجتمعاتها، وأنها أضحت مهددة بامتداد تلك الثورات إليها والتفكك القادم معها.

وبالتوافق مع تصاعد النزعة التدخلية تشكلت وانتشرت نزعة روسية قومية ومعادية للغرب. خلف تلك النزعة ستكتشف إحساس عميق بما انتهت إليه الأوضاع الروسية من هشاشة في مواجهة الغرب، وهكذا يمكن اعتبارها تعويضا أيديولوجيا. في أغسطس 2014 قالت أغلبية عينة لقياس الرأي العام الروسي، ان انجاز بوتين الأساسي استعادة دور روسيا كقوة كبرى، وانهم يشعرون الآن انهم يقفون على أقدامهم ويتحدون الغرب، واستعادوا إحساسهم بالكرامة مجددا. وفي قياس آخر اجري عام2015، وردا على سؤال: هل تعتقد ان روسيا قوة كبرى، قال 49% الأرجح نعم وكانت نسبتهم 23% في قياس مماثل اجري في 2005، وقال 24% الأرجح لا، وكانت نسبتهم 44% في 2005، وقال 19% بالتأكيد نعم وكانت نسبتهم 7% عام 2005، وقال 3% بالتأكيد لا، وكانت نسبتهم 23% عام 2005. وفي هذا السياق الايديولوجي يصبح التوسع الخارجي مصدرا لإحساس أقوى بالذات الوطنية وخصائصها. اجري قياس للرأي العام الروسي في ديسمبر 2014 بعد إلحاق القرم، قال 69% انهم يشعرون انهم مجتمع غني متحضر وكانت نسبتهم 57% في قياس مماثل في فبراير من العام ذاته، وقال 73% انهم يشعرون انهم في وطن حر وكانت النسبة 60% في فبراير، وقال 86% انهم يشعرون ان وطنهم يخافه الجميع وكانت 68% في فبراير، وأفاد 66% بشعورهم انهم في بلد غني وكانت58% في فبراير. وبالتوازي مع ما سبق تطورت مشاعر سلبية تجاه أمريكا وأوروبا. في قياس للرأي العام 2015 قال 20% ان أمريكا جيدة اجمالا، وكانت نسبتهم 80% في قياس مماثل عام 1991. وفي نفس قياس 2015 قال25% ان الاتحاد الأوروبي جيد اجمالا، وكانت 70% في قياس مماثل اجري في2005.

جاء قانون العقوبات الأمريكية الذي صدر في أوائل أغسطس بأمرين جديدين على العقوبات السابقة. الأول والأخطر تحويل أوامر اوباما التنفيذية الأربعة الصادرة عام 2014 لمعاقبة روسيا لتدخلها في اوكرانيا، والموجهة ضد قطاعات الطاقة والبنوك والمؤسسة العسكرية،علاوة على عقوبات ديسمبر 2016، إلى قانون لا يحق للرئيس ان يتصرف في أحكامه بالتخفيض أو التأجيل إلا بعد موافقة الكونجرس. وهذا البعد هو الذي أثار سخط ترامب، ودفعه لوصفه بانه «يحمل أوجه نقص واضحة وغير دستورية». والثاني عقوبات جديدة موجهة ضد قطاعات الطاقة والمناجم والشحن البحري والسكك الحديدية الروسية.

وكان اخطر ما في القانون على الجانب الأمريكي أمرين. الأول ان الكونجرس بمصادرته لحق الرئيس المرن المتفق على ضرورته السياسية، في تطبيق العقوبات، سجل مستوى ثقته المنخفض في إدارة الرئيس الموضوعية المحايدة لملف العقوبات. والثاني التحالف الجمهوري الديمقراطي الواسع الذي وقف خلف القرار. وخلف هذا التحالف سنكتشف التأثير المدمر لقضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، وما اشرنا إليه حول أزمة المؤسسة الأمريكية الحاكمة، والأخطر هو تحول روسيا الى إحدى قضايا الداخل الأمريكي تثير حولها مشاعر العداء والتوجس ويغذيها تحالف من المؤسسات الأمنية والسياسية والإعلامية.

ماهي ردود الفعل الروسية المتوقعة تجاه القرار؟ لا نقصد الردود الفورية التي اتخذت، مثل تخفيض الدبلوماسيين، وتجميد ممتلكات أمريكية دبلوماسية، بل ماهو أبعد. في هذا الصدد يمكننا توقع الردود التالية، وكلها تنحو للمهادنة والالتفاف وليس المواجهة.

من المرجح -أولا- ألا يتخذ بوتين عقوبات ضد الشركات الأمريكية؛ سعيا لاكتساب ثقتها، وتكوين قوى ضغوط أمريكية داخلية، وانتظارا لرصد الأضرار الفعلية للقرارات.

وسيعمل بوتين- ثانيا- على استغلال التناقض الأوروبي - الأمريكي. تفوق المصالح الأوروبية كثيرا المصالح الأمريكية، وعلى الأخص في مجال الغاز الروسي. من شأن التطبيق الاحادي للقرار الإضرار بالاستثمارات الأوروبية في خطي الغاز الروسي «نورد ستريم» وتصل الى 4.75 بليون دولار، واستثمارات شيفرون في مشروع تينجينيز بكازاخستان وتصل الى 37 بليون دولار. وهذا ما يفسر الانتقادات الأوروبية للقانون. في تصريح لجونكر رئيس اللجنة الأوروبية جاء: (بروكسل لها حق المعاملة بالمثل، إذا أضرت العقوبات الجديدة بمصالح الشركات الأوروبية يحق لنا الدفاع عن مصالحنا في مواجهة الولايات المتحدة، ونحن جاهزون للرد». وتحفظ جونكر يرتفع لمستوى الارتياب لدى آخرين، في كون هدف القرار إفساح المجال أمام الغاز الأمريكي. ففي تصريح مشترك لوزير الخارجية الالماني والمستشار النمساوي أشارا الى ان العقوبات الجديدة ستدمر تعاوننا مع أمريكا بشأن اوكرانيا، إذا حدث وجعلت هدفها تحقيق مصالحها في تصدير الغاز لأوروبا.

وسيتجه بوتين -ثالثا- لاستخدام استراتيجية الالتفاف الاقتصادي التي سبق استخدامها أعقاب عقوبات 2014. في ظلها قامت الشركات الروسية التي تعرضت لتقييد الواردات بشراء جزء من أصول رأسمال الشركات الأوروبية فتمكنت من استيراد التكنولوجيا المحظورة. كما اتجه المستثمرون الروس للاستثمار في أسواق أوروبا وأمريكا. ومنعت الواردات الروسية الزراعية من الدول المساهمة في العقوبات، الأمر الذي دمر اقتصاديات بولندا وفنلندا.

وستلجأ روسيا -رابعا- لتعويض تدفق رؤوس الأموال الغربية عبر توظيف أموالها المتراكمة في الصناديق السيادية وصناديق المعاشات.

ومن جهة خامسة من المستبعد لجوء بوتين الى مواجهات سياسية حادة في محيطه الأوروبي الشرقي، على غرار جورجيا واوكرانيا. فهو يدرك جيدا عمق الأزمة العامة والخاصة المحيطة بترامب الآن، وكون روسيا طرفا متهما، ومدى تداخل مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية فيها، والشعور الأمريكي العام بالإهانة الناتج عن التدخل الروسي حالة غليان سياسي قد تدفع للخروج منها بالبحث عن نصر خارجي. فإذا حدث وتطوع الروس بتقديم الفرصة قد يجدون انفسهم في سياق معركة عسكرية سيخرجون منها خاسرين.