الملف السياسي

الانتقام الروسي الهادئ..!؟

14 أغسطس 2017
14 أغسطس 2017

رشا عبدالوهاب -

بعد شهور من الهدوء النسبي والتفاؤل بعودة الدفء إلى العلاقات الروسية الأمريكية، انتهى شهر العسل سريعا بين إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع تمرير العقوبات الجديدة ضد موسكو,,

على الرغم من تمرير ثلاث جولات سابقة من العقوبات ضد روسيا خلال حكم الرئيس باراك أوباما بسبب ملف حقوق الإنسان «قانون ماجنيتسكي»، وضم شبه جزيرة القرم خلال الأزمة الأوكرانية، وأخيرا مزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، إلا أن عقوبات ترامب مختلفة تماما في كل شيء، فهناك اعتراف روسي بأن الأمر خارج عن إرادة الرئيس الجديد في البيت الأبيض، كما أن أوروبا تقف للمرة الأولى في صف موسكو بسبب تضرر مصالحها الاقتصادية، وهذا شجع الحكومة الروسية على التفكير هذه المرة في اتخاذ اجراءات عقابية مضادة لم تحدث منذ أكثر من حوالي 35 عاما خلال الحرب الباردة.

وعندما اتخذ الرئيس السابق أوباما قراره بطرد 35 دبلوماسيا من العاملين في السفارة الروسية في واشنطن والقنصلية في سان فرانسيسكو في 29 ديسمبر الماضي، رفض بوتين الرد على أمل تحسن العلاقات بعد أقل من شهر مع تنصيب ترامب في 20 يناير الماضي، إلا أن هذه الآمال تبددت سريعا، مع تشريع قانون عنوانه «التصدي لأعداء أمريكا من خلال العقوبات». وأعربت روسيا عن قلقها، واضطر بوتين إلى اتخاذ رد فعل بمطالبة أمريكا بتقليل بعثتها الدبلوماسية في موسكو وسحب 755 دبلوماسيا، وهو القرار الذي أعاد إلى الأذهان زمن الحرب الباردة، عندما قرر كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة قطع العلاقات الدبلوماسية وطرد الدبلوماسيين في ثمانينات القرن الماضي، لكن المحللين يرون أن الوضع مختلف في 2017 خصوصا أن العدد الذي طالب به الرئيس الروسي أقل بكثير مما حدث في الثمانينات. موسكو رفضت، من وجهة نظرها، تطبيق سياسة «العين بالعين»،

وأكدت أن الإجراءات التي اتخذتها محدودة واضطرارية تتوافق تماما مع الممارسة الدولية وتهدف إلى حماية مصالحها القانونية. العقوبات في عهد ترامب مختلفة عن العقوبات التي فرضت خلال حكم أوباما من عدة جوانب، فروسيا قررت أنها لن تترك الخطوات العدائية الأمريكية دون رد، كما أن حلفاء واشنطن، وفي مقدمتهم الاتحاد الأوروبي عارضوا هذه الخطوة وهددوا بالوقوف ضدها، وكذلك هذه العقوبات هي الأقوى منذ قانون «جاكسون فينيك» الذي فرضته واشنطن على الاتحاد السوفييتي عام 1974، حيث إن الكونجرس قلص صلاحيات الرئيس في رفض أو التصويت بالفيتو ضد القانون، وهو ما يعني صعوبة إلغائه. إذن روسيا تعلم جيدا أن ترامب كان «قليل الحيلة» كما لم يكن أمامه أي خيار سوى توقيع القانون، لكن الغضب الروسي سيكون مختلفا هذه المرة خصوصا أن العقوبات لا تستهدف أشخاصا فقط أو كيانات حكومية بل تستهدف قتل الاقتصاد الروسي عبر استهدف قطاعات حيوية مثل المخابرات والدفاع، وهو ما سيجعل من الصعب على روسيا ثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم بعد أمريكا تصدير أسلحتها، كما أن العقوبات تستهدف أيضا قطاع الطاقة عبر معاقبة الشركات المتضمنة في تطوير أنابيب تصدير الطاقة الروسية، وهو ما أثار انتقادات حادة من المستثمرين الأوروبيين الذي يشاركون في تطوير خط الغاز الطبيعي «نورد ستريم 2» بين ألمانيا وروسيا. وهكذا كان الرد الأول من قبل روسيا دبلوماسيا تمثل في تخفيض البعثة الأمريكية إلى جانب مصادرة ممتلكات دبلوماسية أمريكية في موسكو. الرئيس الروسي أكد أن لدى موسكو الكثير من الوسائل للرد على الإجراءات الأمريكية وانتهاك واشنطن للقانون والأعراف الدولية ومبادئ التجارة الدولية وقواعد منظمة التجارة العالمية، السبب أن الأمر لن يقتصر على العلاقات بين الدولتين إنما سيضر بالعلاقات الدولية على وجه العموم، خصوصا أن موسكو وواشنطن تتعاونان في عدد من الملفات في مقدمتها سوريا ومكافحة الإرهاب.

وبعيدا عن القرار الدبلوماسي الذي اتخذته موسكو، إلا أن الغموض لا يزال سيد الموقف حيث أن بوتين ما زال يخفي بعض أوراق اللعب التي اعتاد على رفعها في وجه أعدائه، لكنه رفع أهمها منها مصالح أمريكا في الملف السوري، والتعاون من أجل الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، في إشارة واضحة إلى إيران وكوريا الشمالية، والتعاون في مجال مكافحة القرصنة الإلكترونية، وهو أحد الملفات التي تهدد ترامب نفسه حيث أن استجوابات الكونجرس ما زالت متواصلة للكشف عن التدخل الروسي في الانتخابات وتسريب البريد الإلكتروني للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، والذي ساهم إلى حد بعيد في خروجها من السباق إلى البيت الأبيض. روسيا ترى أن هذه المزاعم نوع من الهيستريا، وأنه من «المثير للشفقة»، على حد تعبيرها، التضحية بالعلاقات الروسية الأمريكية من أجل الرد على أسئلة تخص السياسات الداخلية في واشنطن.

وجاء التحليل الصادم من تمرير هذه العقوبات من قبل ديمتري مدفيديف رئيس الوزراء الروسي الذي توقع أن تبني واشنطن لقانون العقوبات الجديدة هدفه النهائي عزل ترامب عن السلطة، وأن تمرير القانون يحمل عددا من التبعات تتمثل في:

أولا: نهاية الآمال بتحسين علاقات روسيا مع الإدارة الأمريكية الجديدة. وثانيا: إنها بمثابة إعلان حرب تجارية شاملة ضد روسيا . وثالثا: أظهرت إدارة ترامب عجزها التام بتسليم الصلاحيات التنفيذية، بالطريقة الأكثر إذلالا إلى الكونجرس، وإن هذا الأمر يغير توازن القوى في الدوائر السياسية الأمريكية. وأكد مدفيديف أن القانون الجديد جاء عبر صراع ترامب مع النخبة السياسية في واشنطن، وهو ما يعني غياب النهج البراجماتي عن السياسات الأمريكية. وأمام هذا التضييق الأمريكي على موسكو، يلجأ الرئيس الروسي إلى سياسة الصبر الاستراتيجي من أجل حماية المصالح الروسية ومحاولة منع المواجهة بين الدولتين والعمل على تقليل الأضرار في العلاقات الثنائية. كما أن الاعتماد هذه المرة سيكون على وقوف الاتحاد الأوروبي إلى جانب روسيا حيث انتقدت عدد من الدول الأوروبية في مقدمتها ألمانيا القرار الأمريكي ووصفته بغير القانوني وهددت باللجوء إلى معاقبة واشنطن هي الأخرى.

ويرى الأوروبيون القرار كمحاولة لمنح مزايا غير عادلة لصادرات الطاقة الأمريكية. ودعا زيجمار جابرييل وزير الخارجية الألماني جيرانه الأوروبيين إلى اتخاذ سياسات جديدة تجاه موسكو لتخفيف حدة التوتر القائم. كما أعلن الاتحاد الأوروبي عن استعداده للرد على العقوبات في حالة إضرارها بالشركات الأوروبية.

على صعيد المواجهة العسكرية بين روسيا وأمريكا فهي تتمثل في استعراض العضلات في مناطق النفوذ لكل من الدولتين، خصوصا أن مناطق الصراع بينهما مفتوحة خصوصا في سوريا ودول البلطيق وفنلندا. وبالتزامن مع إعلان العقوبات، سارع مايكل بنس نائب ترامب إلى القيام بجولة إلى ثلاث من دول شرق أوروبا، وهي أستونيا وجورجيا ومونتينيجرو لبحث مسألة نصب أنظمة دفاع جوي أمريكية في مواجهة روسيا، استجابة لمخاوف هذه الدول بعد ضم القرم ولطمأنتهم برسالة من ترامب أن واشنطن تقف إلى جوارهم في مواجهة أي اعتداء روسي محتمل. كما أنه قام بالتقليل من قرار بوتين بترحيل الدبلوماسيين والموظفين الأمريكيين بالقول: «نأمل بأيام أفضل وعلاقات أفضل مع روسيا ولكن التحرك الدبلوماسي الأخير الذي قامت به موسكو لن يعيق التزام الولايات المتحدة بأمننا وأمن حلفائنا وأمن الدول المحبة للحرية حول العالم». وأكد على ضرورة بقاء حلف الناتو قويا وموحدا، في وقت تحاول فيه روسيا «إعادة رسم الحدود»، وأوضح أن بلاده ستمنع «أي محاولة لاستخدام القوة».