abdullah
abdullah
أعمدة

نوافـذ: لـيست التـي أعــرف

13 أغسطس 2017
13 أغسطس 2017

عبدالله بن سالم الشعيلي -

Twitter:@ashouily -

وكأنني فوق قمة جبل أنظر خلفي لأرى سنوات الشباب التي لن أتشاءم وأقول بأنها ضاعت في دراسة تخصص لم تعد قواعده ولا أسسه وأركانه تطبق، فكلها كما قالت مارجريت ميتشيل في روايتها بأنها «ذهبت مع الريح»، ولا عزاء في هذا سوى للمشتغلين الممتهنين لهذه الصنعة التي تركوها بإرادة منهم لمن لا صنعة له ممن صار يتسلق ويتملق، ينافق ويحابي، يكذب ، فاختلط على البعض حابل هذه المهنة بنابلها، غثها بسمينها إلا على الحصيف الذي آتاه الله عقلًا راجحًا وعينًا بصيرة تمكنه من معرفة الأصل والفرع.

صحافة اليوم هي ليست الصحافة التي أعرفها ونشأت وتربيت عليها ودرست مناهجها ونظرياتها وأسسها وأخلاقياتها منذ أول سنة لي في الجامعة، هي ليست التي قيل لي عنها بأنها السلطة الرابعة أو صاحبة الجلالة، وليست هي مهنة المتاعب التي لا يرتاح أو يهدأ ممتهنها حتى يصل إلى الحقيقة ليبدأ في البحث عن حقيقة أخرى، هي ليست التي أقالت رئيسا من منصبه وكشفت فساد أنظمة، وعزلت مسؤولين عن مناصبهم. هذه الصحافة التي حسبتني أعرفها تحولت اليوم إلى مسخ حقيقي بشع المنظر كريه الرائحة لا يمت إلى الإنسانية بصلة وصار طفيليوها يوجهون دفتها إلى الهاوية التي لا قعر لها.

حديث في شأن وشجن الصحافة قادنا نحن المشتغلين بها إلى الحديث عن مأزق الصحافة العربية التي تمر به الآن لا سيما عقب ما أسمي خطأ بربيع العرب، فلم نحص المآسي التي وصل إليها حال هذه الصحافة، فالأقلام متكسرة والكلمة مقلوبة والصورة محورة والحريات معطلة والحقيقة غائبة والقيم معوجّة، وما نراه ونسمعه ونشاهده هي روايات وعنعنات غير موثوق في سندها وصحتها، معتمدة على الآخر غير الموثوق به فيما يقول ويفعل وفيما يأمر وينهى وبات الأمر برمته أشبه بحكايا الخرافة التي لا تعرف هل تصدق ما جاء فيها أم تكذبه ولكنها تسليك في يومك وتنتظر غدك لتسمع قصة وخرافة أخرى كما كانت شهرزاد تفعل قبل ذلك في ألف ليلة وليلة.

في ليالي الصحافة كنا نتلذذ بالسهر للبحث عن معلومة دقيقة للقارئ أو تحقيق صحفي يكشف زاوية من زوايا الوطن المظلمة أو سبق صحفي نتسارع في الوصول إليه قبل الغير أو استطلاع يظهر فيه مواطن بعضا من بؤسه، وننتظر الصبح حتى يتنفس كي نقرأ ما كتبناه، ونشهد ردة فعل القارئ والمسؤول عما طبخناه، وننسى ذلك اليوم بحسنته وسيئته لأن يومًا آخر غيره وليلة أخرى غيرها سنسهرها في سبيل ما كنا نعتقد بأنه بحث عن الحقيقة، ولم نكن في تلك الأيام نعتقد بأن ضوءًا قويًا كاشفًا سوف يأتي ليعمي أبصارنا ويشتت أنظارنا عما كنا نفعله، إلى أن جاء هذا اليوم فتبددت كل القيم والأخلاقيات واستبدلت بقيم أخرى وافدة اعتمدت الكذب دستورًا والنفاق منهجًا والتشهير ديدنا وصار كل من لا يقبل بالمنهج الجديد خصمًا وعدوًا ومصنفًا في خانة الخونة والعملاء والمتآمرين والمتعاملين مع الآخر الذي كان في يوم من الأيام صديقا صدوقا.

لعلي هنا لا أتجنى على نفسي أو على زملائي ممن رضي بهذه المهنة كسبا للعيش، ولا على كل من حمل قلما شريفا يدافع به عن مبدأ أو قيمة أو خلق نبيل، ولا على من ترك قلمه جانبًا حتى جف حبره كي لا يخوض مع الخائضين ولا يكون في حسابات اليمين أو الشمال ولا على من صمت دهرًا بانتظار انقشاع غمة طال أمدها فلم تنقشع بعد، ولكنني هنا أهمز وألمز إلى من تدحرج حتى وصل إلى أسفل السافلين فلم يمنعه من سقطته هذه أي وتد يستند عليه أو عصا يتكئ عليها تمنع عنه سقطته، فصار حاله كحال شيخ علم سقط ذات السقطة وسياسي فعل ذات الفعلة واقتصادي سلك ذات المسلك ومدون خطا ذات الخطوة ولم تستطع القيم ولا الأخلاق ولا الأعراف ولا العادات لأي من هؤلاء منعهم من الانحدار والانجرار إلى الأسفل، ولعلي هنا لا ألوم الصحافة على فعلتها، ولكنني أتبرأ منها فهي ليست التي كنت أعرف.