1081570
1081570
المنوعات

القاهرة في روايتي «شرطي هو الفرح» ضيقة وخانقة رغم مساحة الحركة الكبيرة بها

11 أغسطس 2017
11 أغسطس 2017

أشرف الصباغ: كنت خائفا من مستويات اللغة في الرواية.. ولكننا دوما نقف أمام اختيارات وندفع ثمنها -

القاهرة – حسن عوض:-

1081603

في روايته الجديدة «شَرطي هو الفرح» يمزج أشرف الصباغ ببراعة بين عالم قرية في الدلتا ومدينة القاهرة عبر الراوي والمروي عنه «يوسف». رحلة يحاول فيها اكتشاف نفسه في زمني الطفولة والشباب، وأيضا يزيل الطبقة تلو الطبقة عن عالم التصوف الذي تغرق فيه قريته حتى يصل إلى معرفة العالم الذي يختبئ خلف الفرع الملعون.

يستعرض أشرف عالم الفقر في القرية، وسيطرة الشيوخ على مقادير الأمور، والفوارق الطبقية المقيتة في القاهرة. يضع يده على ذلك الازدواج في كثير من شخصيات الرواية. الجد المتسلط، الشيخ السباعي، والمعلم صبحي، وغيرهم، كما أنه يرسم ببراعة شخصيات لنساء يبحثن عن الحب، أو الاستقرار في القاهرة، أو الإفلات من القبضة الحديدية للذكور في القرية. رواية أشرف تنتمي إلى الواقعية السحرية، حيث القط والحمار يطيران، وحيث يطوف الضريح بيوسف في النهاية في عوالم غريبة. هنا يتحدث أشرف الصباغ الذي يعيش متنقلا بين القاهرة وموسكو بكثير من التفصيل عن روايته.

البناء في «شرطي هو الفرح» كان أقرب إلى خطوط متوازية بين ثلاثة أزمان، زمن يوسف الكبير في القاهرة بباراتها وطبقاتها، زمن يوسف في مرحلة سابقة في القاهرة أيضا حينما كان عاملا في ورشة، وبالطبع يوسف الصغير في قريته.. هكذا تكونت الصورة الكاملة في الرواية من ثلاثة أجزاء ضخمة.. لماذا اخترت هذه الطريقة؟

- حالة يوسف «النفسية- الروحية»، في ظل أزمته الشخصية والعامة، تسمح له بخلط الأزمنة عبر الحكي، سواء بضمير المتكلم، أو على لسان الراوي الذي يروي تقريبا بنفس لغة يوسف، أو بالأحرى يحكي الراوي المونولوج الداخلي ليوسف الذي يعلو صوته الداخلي تارة، ويخفت تارة أخرى.

هناك أيضا محور العودة التي تتم عبر النهر الذي قد يكون نهرا عاديا ملموسا وواقعيا، وربما يكون عبر نهر الذكريات والذاكرة وتوالي الأحداث بشكل غير مرتب. لكن الأزمنة الثلاثة رغم أنها تبدو متوازية، فإنها متداخلة ومتماسة ومتقاطعة أيضا. هنا تحديدا تولد الأسطورة من الحكي الذي ولد أصلا من جملة من الحكايات والأساطير ليطرح لنا ليس بالضبط أسطورة جديدة، وإنما صورة جديدة لأسطورة قد تولد في ما بعد، أو لا تولد.

رحلة العودة وإن كانت رحلة مادية عبر طريق محدد، إلا أنها رحلة في الذاكرة الانتقائية بطبعها. وبالتالي، لا ذاكرة بدون زمان أو مكان، وربما هذا ما يحيل الواقع الفنتازي إلى حالة أسطورية رغم الواقعية الشديدة. وربما يكون الزمن الداخلي للشخصية، أو الشخصيات، هو المستوى الأوسع الذي يجمع الأزمنة الثلاثة المذكورة.

عنوان الرواية مأخوذ نصا من جملة لامرأة عابرة في حياة البطل «شَرطي هو الفرح، لا شيء اسمه السعادة، الفرح هو الحياة».. ما الفلسفة التي تقف خلف ذلك؟

- السعادة حالة راكدة أو سكونية، أو حالة تقود إلى الملل والثبات. لكن الفرح حالة متحركة ومنطلقة. أما الدلالات المفهومية للحالتين، فهي متنوعة بتنوع الشخصية وتركيبتها وأغراضها، وفهمها للحياة. والحياة في جوهرها تعني الحركة، لا الثبات، لأن الثبات ببساطة هو عكس الحياة علميا ونفسيا واجتماعيا. المرأة التي قالت هذه الجملة، قالتها بطريقتها وفهمها لكل من الفرح والسعادة. ولكننا نجد صورة أو صدى هذه العبارة يتردد في عبارات أخرى على ألسنة شخصيات مختلفة، بل وفي أحداث بعينها. وعندما يختار الإنسان بين «الخلود– السعادة الأبدية»، وبين «الوجود– الفرح المادي»، مفضِّلا الثاني على الأول، هنا هو يقر بإنسانيته وقوته وإرادته وقدرته على صناعة الأرض الصلبة التي يقف عليها كإنسان. إن الفرع الملعون للنهر يفصل بين هاتين الحالتين، وهذين المفهومين. الفرع الملعون يفصل بين الحرش الذي يمثل ما بداخله الخلود والثبات والاستمرارية، وبين شجرتي النبق والسنط بمفهوميها ودلالتيهما المصريتين والضريح والبئر وحياة القرية بنسائها ورجالها وتحولاتها.

الأصل في الموضوع هنا، هو الإنسان بكل عناصر تركيبته الروحية والمادية واحتياجاته وقدرته، رغم السحق والانسحاق، رغم التفاؤل والإحباط. وبالتالي، عندما تريد أن تحافظ على وجودك، فعليك أن تتحرك عبر الفرح في اتجاه الفرح ومن أجل الفرح. هذا طريق طويل مليء بالتناقضات والمنحنيات والانعطافات الحادة، يطول بطول حياة «الشخص– الإنسان». ولكن لا مفر من أن يفرح ولو مرة واحدة في حياته، طالما فضَّل هو بنفسه الوجود على الخلود.

تقدم الرواية صورة شديدة المأساوية لقرية في الدلتا، ممسوسة بشيوخها، الذكور فيها لهم الكلمة العليا، والمرأة مغلوبة على أمرها، يمكنها فقط استعادة حياتها أو التعبير عنها حينما تكون في حضرة الأولياء، أو في الأسطح، لم يكن هنالك منفذ ضوء للمرأة بامتداد الجزء الخاص بالقرية في الرواية، حتى مع وصول «محفوظة» إلى «الكينونة» بتعبيرك.. أو حتى مع طلاق «نعيمة» من الشيخ «السباعي» كأنك قصدت أن يكون هناك حصار كامل للمرأة.. لماذا؟

- في الحقيقة، أنا لست معنيا لا بالمرأة ولا بالدفاع عنها، لأن هذا شأن يخصها ويخص وجودها ولحظات فرحها. وهي إذا لم تقدر على تحقيق ذلك، فهذا شأنها ومأساتها. أنا معني بالدرجة الأولى هنا بقوة هذه المرأة وقدرتها الكامنتين اللتين لا تجدان الظروف الملائمة للتجلي. معنيٌ بالدرجة الأولى بذلك الكائن الذي يتحرك بشكل دائم ودائب من أجل الحفاظ على هذا الوجود، حتى وإن كان لا يعلم ذلك ولا يدركه. إنه فقط بحاجة إلى إدراك ذاته ومكامن قوته. وأعتقد أن نعيمة عندما أدركت ذلك، تمكَّنَت من الاختيار والمواجهة حتى وإن كان الثمن باهظا.

نعم، هناك حصار كامن للمرأة في الواقع والأساطير، في الوجود وفي الخلود. وأعتقد أنني لم أطرح نماذج نسائية غريبة على واقعنا المصري أو من خارجه. كل ما في الأمر أن رحلة يوسف عمران أجبرتنا على النظر إلى الواقع والأساطير، والوجود والخلود، بعين أخرى، دفعتنا إلى النظر في المرآة لنرى أنفسنا جيدا، ونرى بعضنا البعض بدون أقنعة أو ملابس أو هواجس: رجالا ونساء.

المرأة، سواء في القرية أو في المدينة، هي حجر الأساس، وحجر الرحى المتحرك دوما. هي التي تحمل الذاكرة الحقيقية، وهي القادرة على إذابة التناقض بين الواقع والأسطورة، وبين الوجود والخلود. ذلك بحكم تكوينها، وبحكم طاقتها وقدرتها. غير أن تجلي هذا، مرتبط ارتباطا شرطيا بالفرح وبالوجود رغم عملية السحق والتهميش والتقييد المستمرة.

لا أستطيع أن أنصر المرأة أو أعاديها. ولست مسؤولا عن مأساتها أو مخولا للدفاع عنها، لأنني عمليا، جزء من المشكلة والأزمة. وربما تكون المرأة بوضعها الحالي (في الرواية) هي المسؤولة عن جانب كبير من مأساتها. ولكن أين الصيغة التي تحقق «العدل» في هذا الواقع اللعين؟! أين المعادلة التي يمكنها أن تسمح للجميع، رجالا ونساء، بتحقيق ليس فقط وجودهم، بل وأيضا استمراريتهم في هذا الوجود؟ أعتقد أن نعيمة تمكنت بدرجات ما من تحقيق هذه المعادلة، بينما عزيزة لم تستطع، و«العضَّاضة» ارتضت بدورها مثل كل النساء الموجودات في الرواية وفي الواقع، وربما في الأسطورة أيضا.

المرأة في المدينة كانت أكثر تعبيرا عن نفسها، تلك المرأة التي اشترطت الفرح هي نفسها التي تعرف أنها امرأة للحب فقط، في الورشة اختارت ماجدة الزواج من شخص آخر بخلاف سعيد.. القاهرة رغم التسليم بكآبتها لكنها تنتصر قليلا للمرأة.. أليس هذا نوعا من تنميط قضية المرأة، المقهورة في الريف، والأكثر حصولا على حقها في المدينة؟

- بالعكس. هناك نماذج نسائية متنوعة في المدينة التي تضم البارات والورش والبيوت والشوارع. فماجدة تعاملت بواقعية مع جانب من حياتها، بينما زميلتها الأخرى تزوجت وأنجبت. وهناك في القرية نعيمة وعزيزة وبقية العمات والخالات والجدات. هناك نماذج متنوعة ومتفاوتة في المدينة وفي الريف. كل ما هنالك أن الأولى قد تكون تحررت نسبيا من بعض القيود، لا كلها، بينما الثاني لا يزال رازحا تحت وطأة «الأسطورة» للحفاظ على نفسه، أو ربما لتلبية «رغبة ما» لتصويره بوضع مثالي يخالف الحقيقة والواقع تماما. فالمدينة بحكم حركتها وتأرجحها وتشوهاتها وجمالياتها، وبحكم أنها مركز حركة، تسمح ببعض الهوامش، بينما الريف الساكن، والذي يُراد له أن يمثل السكونية والثبات، يخضع لمعايير أخرى من التهميش والاستبعاد. ولكن نعيمة كسرت كل ذلك، ودفعت الثمن.

لماذا كانت ثنائية الدين والجنس حاضرة بقوة في الريف؟

- لأنها بالفعل حاضرة بقوة في مجتمع تتأرجح منظومة علاقاته بشدة بين الدين والجنس من جهة، وبين التهميش والاستبعاد من جهة أخرى. الفكرة هنا، أن هذا المجتمع لا يمارس أيا منهما، أو كلاهما، بالشكل الذي يسمح له بالحركة إلى الأمام. وفي اعتقدي أن الجنس هو الأصل، وهو البداية، وهو المحدد الرئيسي لشكل علاقات المجتمع ببعضه البعض من جهة، وبالسلطة الدينية والسياسية من جهة أخرى. هذه الثنائية واضحة وملموسة في مجتمعنا بشكل عام، وفي الريف على وجه الخصوص. أنا لا أستطيع أن أفرض أو أطرح نموذجا لممارسة هذه الثنائية بشقيها. ولكن استعراضها قد يكشفنا أمام أنفسنا أولا، ويكشف المسكوت عنه ثانيا، ويفضح علاقة هذه الثنائية بثنائيات أشد وطأة وأكثر ابتذالا في المقام الثالث.

من الأمور الجيدة في الرواية أن الراوي العليم، أو «الأنا» لا يصدقان ما يجري، أو على الأقل لا يسلمان به.. عالم التصوف تحول إلى عالم كامل من الواقعية السحرية. اندماج بين الحياة الواقعية والأخرى الغيبية، ومع هذا تتركنا الرواية لنقرر بأنفسنا إن كان ما نقرأه قد حدث فعلا أم لا.. كيف حققت تلك المعادلة؟ ولماذا كنت حريصا عليها؟

- (اسمح لي أن أبتسم). إنها حياة كاملة يختلط فيها الحابل بالنابل، وتتداخل المفاهيم بشكل عشوائي. وفي الحقيقة، هذه نتيجة مباشرة لسلب الوجود من الحياة، وضخ صور ومفاهيم عن الخلود.. نتيجة مباشرة للتهميش ومحاولة إلغاء الوجود، لصالح صور وأنماط غير ملموسة ولا منطقية من أجل إعطاء إحساس كاذب للبشر بوجودٍ آخر مغاير له معايير أخرى. و«الحرش» بكل ما فيه وبكل تفاصيله هنا يوضح طبيعة هذا الصراع، وطبيعة تلك الصورة المتداخلة، سواء كانت منظمة أو عشوائية، أو حتى مثيرة للدهشة والاستغراب. إنها حياتنا الكاملة بدون رتوش أو مبالغة أو تضخيم، وبدون تشويه أو تجميل. ولكن من ناحية أخرى، فإن الإنسان الذي يحمل بداخله كل هذه الطاقة الجبارة مغلول الأيدي، ومكبل بأصفاد ذهنية. والمقصود بالطاقة هنا، هي ذلك «الحِمْل» الهائل من المسؤولية والأساطير والغيبيات والقدرة على الفعل. إنه ببساطة يحمل أدوات جبارة لتغيير نفسه وواقعه، ولكنه يخضع لمعادلات بدائية تماما، أو ربما يتم إجباره على الخضوع لتلك المعادلات. لا أحد هنا يعرف بالضبط، ماذا يجب أن نفعل، ولا أحد هنا أو هناك يعرف كيف نفعل. إنها حياة مجتمع كامل بمدينته وقريته تتداخل فيها الأساطير والغيبيات مع الإحساس بالعجز، وربما فقدان الهوية أو في أحسن الأحوال العجز عن إدراكها والنبش فيها.

هناك اهتمام خاص بالحيوانات والطيور في تلك الرواية، كانت الحيوانات مفتاحك إلى نوع من الواقعية السحرية. الشيخ «السباعي» استخدم حماره في الطيران إلى أرجاء العالم، والقط نبت له جناحان وتحدث إلى يوسف وأخته وعمته «ملكة».. ما تعليقك؟

- نعم. الوجود هو مملكة الكائنات الحية، والوسط الذي تشعر فيه بحضورها المادي الملموس بكل تناقضاته. إنه العالم الكامل ببشره وحيواناته وطيوره: شيء يشبه سفينة نوح على نحو ما. وإذا كانت سفينة نوح قد أبحرت بإرادة ما، فالوجود لا يتحرك إلا بإرادة «سكانه»، وهارمونيتهم الروحية والمادية. إن الكائنات الأخرى، غير الإنسان، هي إحدى مفاتيح فهم الإنسان لنفسه، وإدراكه لنسق حياته بالنسبة لأنساق حياة هذه الكائنات. أنت لا تستطيع أن تمنح الحمار أو القط جناحين إلا بقوة الأسطورة وفاعليتها، وتأثيرها على العقل البشري ووجدانه. ولكن أجنحة الحمار ليست أبدا كأجنحة القط. ربما كانت أجنحة القط هي الأقرب إلى أجنحة الضريح.

هل انزواء القاهرة في مساحة محدودة بالرواية يرجع إلى كونها مدينة لافظة تكره الغرباء؟

- لا أستطيع الإجابة على هذا السؤال، دون العودة إلى قصة «الآخر» التي نُشرت في مجموعتين قصصيتين «قصيدة سرمدية في حانة يزيد بن معاوية» و«صمت العصافير العاصية». قصة الآخر تطرح القاهرة بكائناتها البشرية في نطاق أوسع. وربما كانت هذه القصة هي أبلغ رد على هذا السؤال. ولكن القاهرة هنا في «شَرْطِي هو الفرح»، قاهرة ضيقة وخانقة رغم حجم الحركة ومساحتها، ورغم طرزها المعمارية وباراتها وشوارعها وهامش إعمال العقل. إنها مدينة شائخة ومرعبة، ولكنها في الوقت نفسه «نَدَّاهة» من الطراز الأول. فهي تغريك وتجذبك أولا، ثم تسممك بكل أنواع السموم، لدرجة أنك تدمن عليها وعلى سمومها. إنها لا تكره الغرباء فقط، وإنما تضمر كرها وحقدا غريبين على أبنائها أيضا. قد تمنح الغرباء فرصة أو كسرة خبز، ولكنها تمرِّغ رؤوس أبنائها في التراب. الغرباء المحليون لديهم اختيارات أخرى مثل يوسف، والغرباء الدوليون لديهم أكثر من بديل واختيار آخر، ولا يلزمهم أصلا من القاهرة إلا الأجزاء الناعمة الملساء الدافئة منها. أما أبناؤها، فليس لديهم لا بدائل ولا اختيارات أخرى. وهي، أي القاهرة، بخيلة وشحيحة وشريرة، لأنها هي أيضا خائفة وهشة وضعيفة، تحولت مع الزمن إلى مدينة مخادعة: تمنح الغرباء المحليين والدوليين بقدر ما تريد هي، وتقسو على أبنائها بقدر خوفها وهشاشتها وضعفها. فقط في حالة واحد، يمكنك أن تحصل منها على ما تريده أنت: عندما تؤمن بها إيمانا مطلقا من جهة، وتتماهى مع كلابها وقططها الضالة من جهة ثانية، وتصبح جزءا من تشوهاتها وسوءاتها من جهة ثالثة. عندما تحقق هذه المعادلة المتناقضة، قد تحصل على بعض من أسرارها، أو قد تسمح لك بأن تمد يدك لتلمس طرفا من أطراف أسرارها. وإذا ضاق بك الحال، مثل أبنائها، فليس عليك إلا أن تمنحها نفسك كليا، لتعطيك وتمنحك وتهبك كل الوجود.

كان سكان المدينة ينظرون إلى المرايا دائما وتوقفوا عن النظر إليها، أو لم تعد تمنحهم الصور بعد أن علاها الصدأ والأتربة.. لماذا آثرت تقديم القاهرة باعتبارها مدينة المرايا؟

- لأنها خادعة ومخادعة وخبيثة، لأنها ضعيفة وهشة وقاسية، لأنها غانية من الطراز الأول، وأم «النداهات» وسيدتهم في الواقع وفي الأحلام والأساطير. وبقدر صدقك، ستظهر صورتك على سطح مرآتها. وهي بخيلة وملعونة مع المخادعين، لدرجة أنها تعاقبهم بعدم إظهار صورهم على مرآتها. إن أشد العقاب الذي يمكن أن يناله الإنسان هو أن يختفي ظله أو تتبدد صورته. إنها تعاقبنا جميعا بطرق وبدرجات مختلفة، لأننا نستحق العقاب.

كانت السياسة تطل على استحياء.. هل كان لديك نوع من التخوف من تأثير السياسة بالسلب على الرواية.. أم لأن تجربتها فرضت عليك عدم الإغراق فيها؟

- في الحقيقة، الإشارات السياسية البريئة التي وردت في الرواية هي كل السياسة الموجودة حاليا في المشهد العام. ولو كانت هناك سياسة أكبر أو أوسع أو أعمق من ذلك، لكنت تعرَّضتُ لها بقوة. والسياسة بمعناها المباشر قد لا تهمني كثيرا، وربما لا تهم أيضا القارئ الذي يقرأ رواية من هذا النوع، أو أي رواية يفترض أن كاتبها يرى العالم فيها بطريقة محددة.

الجد في القرية كان رمزا لكل السلطة في المجتمع.. سلطة لا ينال منها الزمن ولا الوهن الجسدي... لماذا لم تحدث ثورة من الأبناء؟ ولماذا كانت التصرفات ضعيفة جدا بالنظر إلى المحاولة الخائبة من أحد الأبناء للحصول على ميراثه؟

- هذا هو السؤال الذي تطرحه كل أحداث الرواية، وكل شخصياتها. إنه السؤال المحوري والوجودي والفلسفي، والسياسي أيضا.

كان هنالك مستويان لغويان في الرواية.. لغة تقترب من التصوف، ولغة إيصالية بسيطة.. ألم تخشَ من وجود تفاوتات كبيرة بين اللغتين؟

- نعم، كنت خائفا، وما زلتُ خائفا. ولكننا دوما، كبشر، نقف أمام اختيارات، وندفع ثمن اختياراتنا. وفي كل الأحوال، أنا لا أستطيع أن أفصل بين مستويات اللغة وارتباطها بحالات نفسية معينة، وبين اللغة وارتباطها بشرائح وطبقات اجتماعية. إنها تبدو مسألة تقنية من وجهة نظر النقد والنقاد. ولكنها من وجهة نظر الكاتب قد تكون مرتبطة ببنية السرد وتصورات الكاتب نفسه عن الشخصية.